عسكريمقالات

هل المسيرات الانتحارية مرحلة جديدة من مراحل التكيف في الحرب السورية؟

إنَّ تغير الأساليب والتكتيكات من طبيعة الحروب الثورية، وقد يحصل فجأةً ويصعب التكهن به، فالثوار يتطورون وينضجون، والأنظمة المتضررة تغير دائمًا في تكوينها وكفاءتها وموقفها استجابة للتغيرات التي تطرأ ميدانيًّا، ولهذا السبب نص الجيش الأمريكي في دليله لمكافحة التمرد على قاعدة مفادها: في الحروب الثورية الجانب الذي يتكيَّف أسرع من غيره ويسبق خصمه في تطوير التكتيكات والأساليب هو الذي يحقق النصر.

المرحلة الأولى: حروب العصابات والعمليات النوعية

اعتمدت فصائل الثورة السورية بعد انتقالها من المسار السلمي إلى العسكري على تكتيكات حروب العصابات عمومًا مثل: الحركة السريعة والمجموعات الصغيرة والأسلحة الخفيفة والعمليات النوعية من قبيل الإغارة والكمائن والاغتيالات والتخريب، وقد حققت نجاحًا كبيرًا مطلع سنة 2013 مكنها من السيطرة على معظم أرياف سوريا، وتحرير عدة مراكز محافظات -كليًّا أو جزئيًّا- مثل الرقة والبوكمال ودير الزور ودرعا وحلب. 

لكن نظام الأسد بعد ذلك تكيَّف مع هذه الأساليب، واحتوى الانشقاقات التي حصلت في جيشه، وانسحب من الأطراف والبوادي والأرياف، ونظم حملات كبيرة ومركزة على الطرق الرئيسية ومراكز المدن المهمة على رأسها حلب، وأطبق الحصار على الجبهات المهمة خاصة تلك القريبة من دمشق وجعلها جيوبًا منعزلة عاجزة عن مؤازرة بعضها البعض، فكان ذلك سببًا في تراجع الثورة وضعفها أواخر 2014 خاصة أنَّه تزامن مع اندلاع حروب دموية مع تنظيم الدولة “داعش”.

المرحلة الثانية: الحرب شبه النظامية

كان إعلان تأسيس جيش الفتح في مارس 2015 وتحرير محافظة إدلب حدثًا مدويًّا نقل الحرب السورية إلى مرحلة جديدة، إذ استخدم الثوار لأول مرة تكتيكًا مشابهًا للجيوش، تمثل في: أعداد كبيرة وصلت إلى سبعة آلاف مقاتل، ومعدات عسكرية ثقيلة، وتمهيد ناري مستدام نوعًا ما، وهجوم شامل من مختلف المحاور. فاجأ هذا الهجوم قوات الأسد، وكان سببًا في تحرير مدينة إدلب خلال زمن قياسي اقتصر على أربعة أيام، وما تلاه من تحرير مدن مهمة مثل جسر الشغور وأريحا وسهل الغاب، وبدا جيش الأسد كأنه تفككت أوصاله وانهارت معنوياته وأصبح عاجزًا عن صد جيش الفتح الذي هدد حلب وحماة واللاذقية، وصرحت روسيا فيما بعد أنَّها لولا تدخلها ما استطاع النظام السوري الصمود أكثر من أسبوعين.

واكب الأسد هذا التطور الثوري المهم، واستعان بحليفيه روسيا وإيران، لتنطلق حملة شرسة أواخر 2015 بزخم لم تشهده الثورة منذ بدايتها، فتدخلت روسيا بكل ثقلها وشنت حملات جوية مركزة ونشرت ضباطها وقواتها النوعية في غرف العمليات والجبهات، وأعلنت إيران النفير العام لميليشيتها من أفغانستان ولبنان والعراق في مشهد شبيه بالحملات الصليبية لكنها بلون طائفي شيعي، وواجه جيش الفتح حملة شرسة من ثلاثة محاور في نفس الوقت في ريف حماة وريف حلب وريف اللاذقية، فأدى هذا التطور -وما تلاه من مسار أستانا السياسي الذي جمد الجبهات- إلى سقوط حلب ووريف دمشق ودرعا وريف حمص وأجزاء واسعة من الشمال السوري، وكاد أن يقضي على الثورة لولا التدخل التركي بعد سقوط الطريق الدولي حلب – دمشق، والتوازنات التركية الروسية، والتغيرات الدولية التي صرفت اهتمام اللاعبين الدوليين إلى الساحة الليبية ثُمَّ الأذربيجانية ثُمَّ الأوكرانية.

المرحلة الثالثة: العودة إلى العمليات النوعية

هناك عدة عوامل أدت إلى تجميد نظام الأسد للجبهة العسكرية في الشمال السوري، لعل أهمها:

  1. انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية التي تمثل أولوية قصوى لها، فأوكرانيا هي المدخل البري إلى موسكو والخسارة هناك تعني تهديدًا وجوديًّا للأمن القومي الروسي.
  • انشغال إيران بالمستجدات في أذربيجان على حدودها الغربية حيث خسرت رهانها على الأغلبية الشيعية بعد توثيق العلاقات بين باكو وأنقرة، وانشغالها أيضًا على حدودها الشرقية مع عودة طالبان للحكم، وتصاعد نشاط الحركة الانفصالية في بلوشستان، إضافة إلى الصراع الجديد الآن مع إسرائيل بعد طوفان الأقصى.
  • الانهيار الاقتصادي لحكومة الأسد وتدهور العملة وتوقف عملية إعادة الإعمار التي راهن عليها بعد استرداده معظم الأراضي السورية.
  • ترهل جيش الأسد، وانتشار ظاهرة أمراء الحرب وعصابات الفساد والمخدرات، وقلقه من مواجهة القوة العسكرية المنظمة للثوار في إدلب إثر انشغال العناصر الروسية والإيرانية التي كانت سببًا في انتصاره في السنوات السابقة.

وفي ظل هذا الانكماش في إرادة الأسد العسكرية وانصراف حلفائه عنه؛ بدأت غرفة عمليات الفتح المبين التي تمثل فصائل ثورية تستخدم أساليب مختلفة عن تلك التي استخدمتها في عهد جيش الفتح، مما شكل معالم مرحلة متقدمة في الحرب السورية، فأصبحت العمليات النوعية مثل القنص النهاري والليلي، التسلل خلف الخطوط، الإغارة، الكمين…شائعة إن لم تكن يومية، وفي سنة 2023 حسب بعض الإحصائيات على مواقع الإعلام العسكري، تسببت هذه التكتيكات في مقتل أكثر من ألف مقاتل من جيش الأسد وخسارته للعديد من المواقع المهمة والحاكمة.

هل تشكل المسيَّرات الانتحارية تكيّفًا جديدًا لجيش الأسد مع واقع الحرب؟

سُجلت الأشهر القليلة الماضية حالات متزايدة لاستخدام جيش الأسد للطائرات الانتحارية، ولعل هذا التكتيك الجديد استفاد من الساحة الأوكرانية التي نقلت الحرب الحديثة إلى بُعد جديد يعتمد على الطائرات المسيرة الصغيرة، لكن هذا التكتيك حتى الآن لم يشمل كل جبهات الحرب والمحاور العسكرية في سوريا، ويظهر من خلال عمليات الاستهداف المتقطعة والعشوائية أحيانًا أنَّ قوات الأسد ما زالت تدرب طواقمها على هذا السلاح وتختبر مدى جدواه، وما زال الطريق أمامها طويلًا ليصبح في مقدورها استخدامه بطريقة منظمة مستدامة تحقق خسارة استراتيجية للثوار.

وفي المقابل يظهر أنَّ الفصائل تكيَّفت أيضًا مع هذا الأسلوب وباشرت بتوظيفه لصالحها، إذ سُجلت أيضًا عدة عمليات استُخدمت فيها الطائرات المسيرة، أشهرها عملية الكلية العسكرية في حمص في أكتوبر 2023 التي أودت بحياة العشرات من ضباط الأسد.

إنَّ استخدام الطائرات الانتحارية دون تقدم بري وحملة هجومية حاسمة لن يحرز نصرًا حقيقيًّا على الأرض، وما نراه من كلا الطرفين أنَّه يفتقد للعزم، ويحرص على إبقاء الوضع العسكري على ما هو عليه، فالأسد لا يريد أن يخوض حربًا دون حلفائه إذ لن يقدر على تحمل تبعاتها الاقتصادية والسياسية، وفصائل الفتح المبين ما زالت متشككة في قدرة روسيا وإيران على دعم الأسد، ومتخوفةً من فتح معركة لا يمكن تحمل تبعاتها، ولا تريد المخاطرة بإفساد العلاقات مع تركيا المتمسكة بالهدنة.

بِناءً على ما سبق؛ فإنَّ الحرب السورية ستبقى باردة إلى أن تحدث تغيرات دولية تجرِّئ أحد الأطراف على إشعال الفتيل، وإنَّ استخدام العمليات النوعية والطائرات الانتحارية الآن من قبل الطرفين ليس إلا تكتيكًا ثانويًّا لاستنزاف الخصم على محاور الرباط والدفاع، ولا ينذر بحرب حقيقية.

أسامة عيسى

باحث في الدراسات العسكرية والشأن السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى