مقالات

احتمالات الحراك الاجتماعي والسياسي في الحالة المصرية

تسارعت الأحداث في المنطقـة العربيـة منذ عام 2011 حيث بدأت كحراك اجتماعي وسياسـي، ثُمَّ تطورت لتصبح ثورة أو ما يشبه الثورة التي تهـدف إلى تغيـير أنظمـة الحكـم، وتحسـين الأوضـاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية التي عانتها شرائح كبيرة خاصة الفقـراء والشـباب العاطلين عن العمل، وتفاوتت نظرة المتابعين بين من اعتبر هذا حدثًا تاريخيًّا يمثل ثـورة اجتماعيـة متكاملة الأركان، ومن اقتصر تصوره على كونها هبة شعبية من نوع الانتفاضات والاحتجاجات التي لا تـرقى إلى درجـة الثـورة!

ويختلف الباحثون في العلوم السياسية والاجتماعية والمفكرون والنخب السياسية وغيرهم؛ حول تعريف مفهوم الثورة والفرق بينه وبين مفـاهيم أخـرى مشـابهة لـه، كالهبات الشعبية والانتفاضـات والاحتجاجـات وغيرها.

ويكاد الباحـث في العلـوم الاجتماعيـة لا يجد تعريـفًا واحـدًا متفـقًا عليـه لمفهـوم الثـورة لكي يميزه عن غيره كالتمرد والعصيان، حيث تشترك جميعًا في أنَّها تعني نوعًا من التحول الجـذري لكـل الـنظم الاجتماعيــة والسياســية والاقتصــادية القائمــة ولو بدرجات متفاوتة، أو علــى الأقــل تغيــير النظــام السياســي بطــرق تخــالف الشرعية السياسية المهيمنة على المجتمــع!

ويعرف عزمي بشارة في كتابه “الثورة والقابلية للثورة” المقصود بالثورة على أنَّها: “تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القـائم في الدولة، والثورة بهـذا المعنـى هـي حركـة تغييـر لشـرعية سياسـية قائمـة لا تعتـرف بهـا وتسـتبدلها بشـرعية جديـدة”. وهو بهذا يميـز الثـورة عـن الانقـلاب العسـكري حيث “لا يعكـس تحركـًا شـعبيًّا بالضـرورة، لكنـه يبقـي الإمكانيـة مفتوحـة لأن يشكل انقلابًا عسكريًّا مدعومًا شعبيًّا هدفه تغيير نظام الحكم”. كما أنَّه “يميز الثورة عن الانتفاضـة الاحتجاجيـة الشـعبية أو التمـردات على أنواعها في حالة عدم طرحها مسألة تغيير النظام الحاكم”.

 فما حدث في مصر مثلًا في ثورة ٢٥ يناير عام ٢٠١١ تجاوز مفهوم الاحتجاج والانتفاضـة لأنَّه طالب “بإسقاط النظام” لكـنه بالكاد يشبه الثورة، لكنه ليس كذلك، فلـم يتجـاوز حـدود التعبـير عـن المعاناة الاجتماعيـة والاقتصـادية للجماهير، بينما افتقـر لأي مشـروع بـديل للنظـام السياسـي القائم، فلـم يمـس الجـزء الأكبـر مـن جهـاز الدولـة بالتغيير كما لم تشمل أي تحول عميـق فـي البنية الاجتماعيـة.

ولكن، وللموضوعية فقد حدث قدر من التفكيك في نظام السلطة نفسه أو بمعنى أدق شبكة العلاقات الرأسية والأفقية وأجهزته العسكرية والأمنية، وما زال هذا الترهل والتراخي في تماسك تلك المنظومة ساريًا حتى اليوم، كما أخذت حالة الخوف من البطش السلطوي التي أعادت السيطرة على مقاليد الحكم بالحديد والنار والقتل الجماعي؛ في الخفوت كما اتضح في حراك ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩ الذي دعا له المقاول محمد علي، مع كمون حالة ثوريـة في جيل الوسط الحالي -وهو الذي عاين الثورة- يمكن وصفها بطويلة الأمـد رغم تركيز النظام على قمع فئات الشباب والنساء، وهي الفئات التي خرجت من عزلتها وشاركت بقوة لأول مرة في أحداث الثورة.

فالثورة بمفهومها كتغيير جذري لكل الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لم تحدث فعليًّا في مصـر والمنطقـة العربية، إذ الثورة لا بُدَّ لها من أيديولوجية ثوريـة وطبقـة اجتماعيـة ونخبـة تقودهـا، وهذه النظرة وإن كانت متأثرة بالتفسـير الماركسـي الكلاسـيكي للثورة، إلا أنَّها صحيحة في مجملها، رغم خصوصيات هذا الحراك العربي بجغرافيته المختلفة تاريخيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا.

 ومع ذلك فإنَّ الثورة في مصر -كما غيرها- طالبت كما أسلفنا بإسقاط النظام، وهو ما نجحت في اليسير منه بإزاحة وخلع رأس جبل الجليد المتمثل في حسني مبارك وبعض رجاله فقط، كما رفعت خلافًا للسائد شعار “الشعب يريد” و”بأمر الشعب” وهي شعارات تخالف فكر النخب الحاكمة في بلادنا العربية، التي لا تعرف إلا أمر الحاكم وإرادته.

وبمراعاة هذه الأركان الثلاثة للثورة فإنَّ غياب النظرية الأيديولوجية وكذلك النخب القائدة في مجتمعاتنا؛ كنتيجة لحالة الهشاشة المجتمعية التي كرستها أنظمة الحكم بمفهومها الشامل، كل ذلك يجعل الواقع حتى الآن غير مؤهل للقيام بثورة صحيحة، رغم قابليته بامتياز للانفجار مع استعداد النظام للقمع الدموي والوحشي لأي انتفاضة وعدم السماح باندلاع أي حراك مهما كان نوعه، وهو ما كرره وتعهد به رأس النظام مرات كثيرة، ما يفتح الباب لحالة فوضى عارمة ووحشية لا تبقي ولا تذر.

إنَّ دليل أهمية المفهوم الأيديولوجي الراديكالي كضرورة لنجاح أي ثورة، هو نموذج الثورة الإيرانية كمجتمع شرقي ينتمي جملة لنفس المنطقة ثقافيًّا ودينيًّا رغم اختلاف المذهب والعرقية؛ فقد نجح آية الله الخميني في إنضاج الثورة حتى وصولها لآخر مراحلها عبر تطوير نظريته الفلسفية الثورية بناء على الخط العرفاني الفلسفي الذي تبناه خلافًا لمدرسة المراجع التقليدية في قم -النمطية التفكيكية- في الخط المعرفي القائم على التقليد وأدلة المذهب؛ حيث مثل تمردًا أو ثورة عليه قبل أن يقود ثورة على نظام الشاه نفسه، وتحكم في الشارع من خلاله، وهو ما أنتج وأعاد إحياء وبلورة فكرة “الولي الفقيه” للإفلات من عقدة انتظار إمام آخر الزمان لإعلان الجهاد وإقامة الحكومة الإسلامية، وهو ما يمثل طفرة فريدة في تسخير الفتوى لخدمة المشروع، بعكس الوضع السني الحالي، الذي يجهض المشروع في خدمة الفتوى، التي غالبًا ما تكون لصالح أنظمة الحكم.

وإذا كانت أغلب الحركات السنية التي وصلت إلى سدة الحكم بدرجات وصور مختلفة قد أذعنت مبكرًا للنموذج الغربي، وأعلنت انحيازها للنموذج الديمقراطي على الطراز الغربي، فقد مثل ذلك انهزامًا أمام مشروع التغريب الذي يفترض بها التمرد عليه وقيادة ثورتها ضده، مثل نموذج العدالة والتنمية في تركيا، والحرية والعدالة في مصر، والعدالة والتنمية في المغرب. وهو الخط شبه الديمقراطي الذي حاول به العلامة الشيعي مطهري معادلة مظاهر الشمولية والديكتاتورية التي لاحظها في الخط الأيديولوجي الراديكالي الذي تزعمه نظام الولي الفقيه، فدعا متأخرًا لدمج منصبي المرشد والرئيس وانتخاب هيئة تشخيص مصلحة النظام، وهو أحد منظري الثورة ورفيق الخميني، إلا أنَّه كان يمثل محاولة تصحيحية لطرح أيديولوجي قاد ثورة فعلًا أي أنَّه ليس تراجعًا عن منطلقات منهجية قبل نجاح المشروع نفسه.

وإذا كان المنظرون الثوريون والمفكرون من العيار التاريخي لا يظهرون فجأة كما تحتاج نظرياتهم وطروحاتهم فترات زمنية طويلة نسبيًّا لتلقين فلسفتها للجماهير التي ستتحرك بها، وإذا كنا نعاني فقرًا في هذا الطراز وتلك الطروحات، ولا نملك الوقت لانتظارهم أو صناعتهم في الحقيقة، إلا أنَّه من الواجب على النخب الاجتماعية السياسية عامة والإسلامية منها خاصة؛ الإسراع في وضع أسس تصورات ذات طبيعة جذرية في مواجهة منظومة الحكم الحالية؛ حيث تصلح هذه التصورات للانطلاق المبدئي منها وبها نحو نظام جديد يمثل انقلابًا فكريًّا حقيقيًّا يقي المجتمع التفكك والفوضى المدمرة المتوقعة في حالة الفراغ السياسي القادم بلا ريب، كما يستطيع اتخاذ كافة التدابير لحماية الحراك القادم، الذي سيواجه دون شك بدفاعات واستعدادات غاية في الصرامة.

خالد سعيد

سياسي مصري

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الحاجة إلى الرؤية

    ما هي الرؤية التي تتجسد في خطة عملية تهدف إلى تحقيقها في الواقع العملي؟ هل تنطلق الرؤية من الفكرة القومية الوطنية ضمن سقف سايكس بيكو التي فرضها الغرب المستعمر على المنطقة وروّج لها دعاة الوطنية والقومية، ووضعوا أيديهم بأيدي فرنسا وبريطانيا لنيل الاستقلال أولا من الخلافة العثمانية ثم لبناء أوطانا مزدهرة كما زعموا؟ https://resalapost.com/2023/08/08/%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%b9%d9%82%d8%af-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%ac%d8%b2%d8%b1%d8%a9-%d8%b1%d8%a7%d8%a8%d8%b9%d8%a9%d8%8c-%d8%ac%d9%88%d8%a7%d8%a8%d9%8b%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b3/ إقامة الخلافة هي تاج فرائض الدين، كما بيّنت في مقالتي بعنوان “مرور 102 سنة على هدم دولة الخلافة”،و جعل إقامة الخلافة هي الهدف الاستراتيجي يعني حكما وحتما التخلص من أوهام “الحلول الوسط” مع الأنظمة القائمة تحت مسمى الإصلاح الجزئي الترقيعي، وهذا ما اتبعته جل الحركات الإسلامية خاصة في عقد الربيع العربي كما شاهدنا في حركة النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر وحزب العدالة والتنمية في المغرب.

    وإقامة الخلافة يتضمن حكما وحتما إعلان القطيعة مع مشروعية سايكس بيكو وما نتج عنها من نظم قطرية وطنية أصبحت اقفاصا تحطم وحدة الأمة، و هذا يعني نزع الشرعية عن هذه الأنظمة وما تفرع عنها من أركان الحكم والقضاء والاقتصاد والإعلام تم هندستها لخدمة الاستعمار الغربي. ما يعني بالتالي التخلي عما يسمى بالمرحلة الانتقالية ما بين إزاحة الطاغوت السابق وما بين تدشين المرحلة الجديدة في إعادة صياغة الدولة والمجتمع وفق الرؤية الحضارية الإسلامية، وليس وفق قواعد سايكس بيكو ووريثته عصابة الأمم المتحدة، ولا وفق شروط ضباع الاستعمار الغربي المسمّى، زورا وبهتانا، بالمجتمع الدولي.

    اقرأ: قلق الدول الصغيرة من الدول المجاورة الأكبر منها.. هل هو مشروع؟

    نعم هذه نقطة الصفر في تحديد الرؤية الاستراتيجية المقترحة، فأول خطوة فيها تحديد نقطة الإنطلاق وتحديد الهدف المراد تحقيقه، ما بينهما يتم تحديد طريق الوصول لتحقيق الهدف. وحين ندرك حقيقة عداء الاستعمار الغربي للإسلام والمسلمين فحينها لن نثق فيما يسمى بالمرحلة الانتقالية ليتم إجراء انتخابات ل”جمعية تأسيسية تشريعية” تعمل على صياغة دستور جديد وهذا كله يستغرق سنوات من العمل، كما شاهدنا في مصر. كما أننا لن نسمح لفلول النظام السابق بالقيام بالثورة المضادة مستعينين بأدواتهم في الإعلام المأجور والقضاء الفاسد، بل لا بد من إزالة كل هؤلاء من مراكز التأثير والقرار فورا.

    وللتمكن من تحقيق هذا كله فلا بد من كسب قوة الشوكة العسكرية التي تحمي الكيان الجديد، ولا ينفع هنا الرهان على صندوق الانتخابات، وما جرى في الجزائر (1991) ومصر وتونس يُغنينا عن كثير نقاش. فالكيان الجديد يقتضي التخلص من أية قوة مادية قد تكون سندا لفلول النظام السابق تمكّنهم من الشغب على الكيان الجديد ومحاولة هدمه.

    بخلاف هذا كله، أي ما لم ننطلق من هذه النظرة في التغيير الجذري، فإن المراهنة على صفقات وتسويات مع فلول النظام السابق، أو الوثوق بوعود معسولة من مبعوثي عواصم الاستعمار فهذا هو الانتحار بعينه، ولعل معاناة الربيع العربي تكفي شاهداً ودليلاً على صحة ما نقول!

    وما ذكرناه أعلاه يفرض علينا بلورة النظرة الشرعية لكل ما يتعلق بتفاصيل الحكم وفق أحكام الشريعة وبعيداً عن لوثات الحضارة الغربية السامة المسمومة..و قد صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب غضباً شديداً وقال: “أفي شك أنت يابن الخطاب) وفي لفظ (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو أن أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي”. فلا ينهانا الرسول عن قراءة ما في التوراة ثم يجيز لنا اقتباس ما جاء في شرائع الغرب المستعمر تحت عنوان “الحضارة الإنسانية المشتركة”.

    ثم كيف يليق بالحركة الإسلامية التي قامت منذ عقود على الدعوة لتحكيم شرع الله ثم هي لا تفصّل كيف يكون تطبيق شرع الله، بل تكتفي بإطلاق شعارات برّاقة فضفاضة لا تُسمن ولا تغني من جوع، فإذا وصلت إلى الحكم لجأت لإحياء دستور كذا وكذا مما تم وضعه برعاية عواصم الاستعمار، فهل هذا صنيع من هو جاد بتحقيق النهضة المنشودة، أم هو قصور فاضح ينبغي تداركه فورا.https://resalapost.com/2023/08/27/%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%A8%D9%8B%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%9F-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى