سياسيمقالات

طوفان الأقصى والفرصة السانحة لسُنة لبنان

منذ السابع من أكتوبر الماضي ومعركة “طوفان الأقصى” تلقي ظلالها الوارفة على المشهد اللبناني برمته، على الصعد السياسية والأمنية والشعبية. فمنذ اليوم التالي، دخل جنوب لبنان على خط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وإنَّ بمعركة لها ضوابطها الميدانية المحسوبة. وتصدر حزب الله المشهد الميداني، كما هو متوقَّع عند كل تصعيد تشهده الجبهة الجنوبية في لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي. لكن اللافت هذه المرة هي هذه الأسماء التي كسرت احتكار الحزب لميدان المواجهة، حيث عاد اسم “قوات الفجر” الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان إلى المشهد، وبرز اسم “كتائب القسام في لبنان” لأول مرة في الجنوب، عبر عمليات استهدفت مواقع ومستوطنات الاحتلال في شمال فلسطين المحتلة.

ورغم تواضع هذه العمليات وتواضع الحضور العسكري لـ “الفجر” و”القسام” في الجنوب، فإنَّ رجع صداها تردد بقوة في الداخل اللبناني، خاصة داخل الساحة السنية التي أظهرت تأييدًا وحماسًا كبيرًا لهذا النشاط السني المقاوم.

سنوات التيه

تحمل الذاكرة السياسية لسُنّة لبنان تجارب توصف بالمؤلمة والمخيبة للآمال، فمن تنحية رجال السياسة الأقوياء مرورًا بالتضييق على الحركات الإسلامية الفاعلة ووصولًا إلى ترهيبهم بإلصاق سمة “الإرهاب” بهم، دخل سنة لبنان دهليز التيه الطويل منذ قرابة ثلاثة عقود. ولا يكادون يستفيقون من صدمة -سياسية كانت أم أمنية- حتى يدخلون في أخرى، لضياع البوصلة وضعف التصورات حينًا، وبفعل فاعل أحيانًا أخرى.

آخر هذه التجارب تمثلت بالثورة السورية، التي تداعت المكونات السنية اللبنانية لنصرتها على كافة الصعد قبل أن يحسم النظام السوري وحلفاؤه -وفي مقدمتهم حزب الله- المعركة مع فصائل المعارضة السورية على طول الحدود مع لبنان في عام 2016. وانعكست هذه الهزائم التي منيت بها الثورة على واقع السنة في لبنان، وشكلت صدمة جديدة عززت عامل الإحباط السني الذي بلغ ذروته مع اعتزال رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري للعمل السياسي عام 2019. وقد أبرزت حركة الهجرة المتصاعدة في السنوات الأخيرة والفتور الشديد تجاه الانتخابات النيابية الأخيرة هذا الإحباط السني، وفقدان ثقة السنة بالرموز والزعامات على مختلف توجهاتهم ومستوياتهم.

بيادق الرياض

منذ اتفاق الطائف عام 1989 وحتى الآن، كرست السعودية نفسها راعيًا -بل موجهًا- لسنة لبنان. فمنذ تنصيب رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري زعيمًا سنيًّا ثُمَّ ابنه سعد خلفًا له، حرصت المملكة على اختزال الساحة السنية بأسماء تدين لها بالولاء، ودأبت على إقصاء كل صوت يعارض خياراتها وسياساتها تجاه لبنان.

ولطالما ورطت المملكة السنة بمعارك خاسرة تحت شعارات طائفية تنفيذًا لأجنداتها السياسية، كما في أحداث 7 أيار عام 2008؛ حين تدفق المال السعودي لتجنيد المئات من شباب السنة لصالح تيار المستقبل وزجهم في المعركة بمواجهة حزب الله وحلفائه، التي تُرك فيها الشباب فريسة سهلة لعناصر الحزب المدربين والمسلحين جيدًا. وتلا ذلك أحداث مشابهة في مناطق متفرقة من البلاد، في صيدا وطرابلس والبقاع، لعبت فيها الرياض دور الممول والمخطط والمسلح قبل أن تسحب يدها وتعطي الغطاء السياسي عبر وكلائها للخُطة الأمنية في عهد وزير الداخلية نهاد المشنوق عام 2015. واعتُقل بموجب هذه الخُطة الأمنية العديد من الشباب السنة، وحكمت عليهم المحكمة العسكرية ببيروت بالسجن سنوات طويلة في ظل تنصل سعودي واضح حين تيقنت الرياض فشل رهانها على رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وتياره.

منذ اعتزال الحريري العمل السياسي، أسندت الرياض ملف سنة لبنان إلى سفيرها في بيروت وليد البخاري، الذي ركز إدارته لمرحلة ما بعد الحريري على ثلاثة محاور: ترهيب المخالفين لسياسة المملكة بالإقصاء، وترغيب الطائعين بالمال والمناصب والإطراء، وربط السنة بحزب القوات اللبنانية ورئيسه سمير جعجع.

ومنذ بدء معركة طوفان الأقصى، أوعز البخاري للساسة والإعلاميين والمشايخ المرتبطين به بالتشكيك في أعمال المقاومة الفلسطينية وجدواها، وتخذيل سنة لبنان خصوصًا عن مناصرتهم وتأييدهم انسجامًا مع سياسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الطامح لاستكمال التطبيع مع تل أبيب. ولذا، يبرز الدور السعودي عبر العقود الماضية في تخدير السنة وتحويلهم إلى بيادق وأدوات في الاستحقاقات السياسية والأحداث الأمنية في لبنان بما يخدم المملكة في صراعاتها الإقليمية.

الاستظلال بحماس

عزَّزت حركة حماس في السنوات الأخيرة نشاطها في لبنان، واستأنفت علاقتها بحزب الله لتأمين الغطاء اللازم لهذا النشاط، ووجدت في الفراغ الذي يتخلل الساحة السنية فرصة لاكتساب عمق وغطاء شعبي لبناني في بيئة يجمعها على كافة تنوعاتها نصرة القضية الفلسطينية. ونظرًا للزخم الذي أحدثه “يوم 7 أكتوبر المجيد”، كما يحلو لسنة لبنان تسميته، حظيت حماس بتأييد شعبي واسع في مراكز الثقل الديمغرافي السني. وقد ظهر هذا جليًّا في مراسم تشييع شهداء “كتائب القسام بلبنان” و”قوات الفجر” في كل من طرابلس وطريق الجديدة ببيروت وصيدا والبقاع، وفي بيانات التأييد والتبريك الصادرة عن هيئة علماء المسلمين في لبنان التي تمثل مرجعية معتبرة لدى كثيرين في هذه المناطق السنية.

فبعد عقود من الإقصاء عن جبهة المقاومة في الجنوب، واحتكار حزب الله لهذا العنوان، والتوريط في معارك ذات عناوين طائفية ومضامين سياسية إقليمية، وجد سنة لبنان في عمليات “القسام” في الجنوب معركتهم المسلوبة ودورهم المفقود منذ اتفاق الطائف. كما وجدوا في حضور حماس السياسي والغطاء الذي تتمتع به بحكم تحالفاتها المتنوعة مشروعًا لطالما بحثوا عنه في غمرة المشاريع التي استخدمتهم ووظفتهم بلا طائل.

ولكونها عامل جذب وعنوانًا جامعًا لا خلاف عليه في الشارع السني، بدأت مظلة حماس تحل محل مظلة السعودية وأذرعها في لبنان. فاستنقاذ السنة من الأجندات التي حاولت توظيفهم واستظلالهم بهذه المظلة سيحرم الرياض ورقة الشارع التي تلجأ إليها كلما وصلت سياساتها إلى حائط مسدود.

نقطة التحول

من المفيد اعتبار “طوفان الأقصى” نقطة تحول لا بالنسبة للقضية الفلسطينية فحسب، بل لواقع أهل السنة في لبنان أيضًا. فالمعركة إذ تضع الجميع بين طرفين: مناصر للقضية الفلسطينية والمقاومة في غزة، ومتواطئ مع الاحتلال الإسرائيلي متآمر على المقاومة، تسقط في لبنان مرجعية الرياض وتبطل دعاويها برعاية سنة لبنان وحفظ وجودهم.

من المهم في بلد كلبنان، تتعدد فيه الأحزاب والطوائف وتتداخل فيه الأجندات والمصالح والأحلاف الإقليمية والدولية، من المهم أن يفكر السنة بطريقة موضوعية بمعزل عن الدعاية الإعلامية التي يراد بها توظيفهم لا حفظهم.

ولذا، فربط النزاع مع حزب الله بمعنى الاتفاق على عدم تعرض طرف للأخر من شأنه أن يوفر على السنة مزيدًا من الاستنزاف في حلقات الصراع غير المجدية، والالتفات إلى ترتيب البيت السني الداخلي بما يتوافق مع مصالح سنة لبنان لا مع مصالح إقليمية مغايرة. وذلك لا يعني التماهي مع المصالح الإيرانية ودور إيران في سوريا والعراق مثلًا، فالمراد تحرير الشارع السني من أي دور وظيفي لا من القبضة السعودية فحسب.

كما أنَّ الاستظلال بمظلة حماس كفيل بجمع الشتات السني حول عنوان جامع، والعودة إلى الدور المقاوم في الجنوب الذي يُعدُّ رافعة سياسية وشعبية لمن يشارك فيه. فلبنان جزء من منطقة مشتعلة على الدوام، متاخمةً لفلسطين من جنوبه وسوريا من شماله وشرقه، وإنَّ تعافي سنة لبنان وتماسك صفهم ووضوح مشروعهم يخدم بالضرورة بؤر المقاومة وما تبقى من بؤر الربيع العربي المجاورة، ويعيدهم إلى حلقة التأثير بعيدًا عن الدور الهامشي الوظيفي.

الفرصة، المكاسب والمخاطر

تمر المنطقة اليوم بمنعطف حاد وخطر بالنسبة لكافة الأطراف، وخاصة لإيران والجماعات الموالية لها في العراق، سوريا، اليمن، ولبنان. وبدوره يدرك حزب الله حساسية موقفه الآن، خاصة مع تصاعد المواجهة في جنوب لبنان، كما يفهم ضرورة حماية خطوطه الخلفية في الداخل اللبناني حيث يتربص به خصومه من أحزاب اليمين المسيحي وغيرهم. ولذا، فمن غير المستغرب أن الحزب بات يسعى لتسوية علاقته مع المكونات السنية في لبنان وإشراكهم في مواجهة إن اندلعت فقد تكون مصيرية بالنسبة له، وذلك كي لا يبقى وحيدًا في خندق بصبغة لون مذهبي واحد.

وفي المقابل، تتقاطع مصلحة الحزب مع ضرورة نهوض السنة من تحت ركام المرحلة السابقة، وصياغة مشروع له رؤيته تجاه المرحلة المقبلة، وبناء قاعدة متماسكة قادرة على التحرك ضمن الهوامش التي قد تتيحها تداعيات “طوفان الأقصى” على المنطقة ككل ولبنان خصوصًا. وسيكون التحرر من القيود السعودية ممكنًا في ظل فقدان سنة لبنان عمومًا الثقة بوكلاء الرياض ورهاناتها الخاسرة، وتوجه الأخيرة نحو القوات اللبنانية وسمير جعجع بعد أن ضحت بالحريري وتياره. أضف أن صمود حماس في هذه المعركة وبقاءها سينعكس إيجابًا على دور الحركة ونفوذها في لبنان، حيث سيكون التعاطي معها كطرف له كلمته في المنطقة وليس كمجرد فصيل مقاوم يتلقى الدعم من إيران فحسب.

ولأن الظرف الإقليمي الحرج يشمل لبنان ولا يستثني سنته فإن مبادرة كهذه تحمل أخطارا عديدة، غير أنه لا بد منها، إذ التموضع في خندق حماس والاستظلال بها يعني مواجهة المشروع الأمريكي- الصهيوني وأدواته في لبنان وخارجه. وستتعاظم هذه الأخطار وتشتد فيما لو تراجع دور حماس ونفوذها بعد الحرب.

إن الساحة السنية في لبنان غنية بالطاقات والخبرات على مستوى القاعدة الشعبية والنخب، إنما يلزمها الاجتماع على الأصول الجامعة والثوابت وتجاوز القضايا الجانبية في واقع يستوجب منهم ذلك. كما أن عليها تفويت الفرص على من يحاول في كل مرة توريطها في مواجهات لا أفق لها، سواء مع الدولة اللبنانية ومؤسساتها أو مع أطراف داخلية أخرى.

الحديث في هذا المقام يطول وتصعب الإحاطة به من كافة جوانبه في هذه الورقة الصغيرة، إلا أن معالم النجاح المتمثلة بالظرف الإقليمي الحرج وشغور الساحة السنية وخسارة الرهانات السابقة قائمة، وتستلزم شجاعة ومبادرة حذرة. والله من وراء القصد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى