دروس من وحي التجربة السورية: الحرب التقليدية
مرت الثورة السورية منذ انطلاقها عام 2011 بأطوار مختلفة انطلاقًا من الحراك السلمي إلى الحراك المسلح والسياسي، ولم تأخذ هذه الأطوار المختلفة حقها من الدراسة والبحث وخصوصًا الحراك المسلح الذي شمل معظم الأراضي السورية خلال الفترة الممتدة بين عامي 2012 -2020 والتي شهدت معارك كبيرة تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية.
نسلط الضوء اليوم على بعض جوانب الحراك المسلح ضد نظام الأسد وحيثياته لعلنا نقف بذلك على بعض الدروس المستفادة من تلك المعارك التي شهدت استخدام أساليب وتكتيكات مختلفة، انطلاقًا من:
(1) حروب العصابات التي حققت نجاحًا كبيرًا مطلع سنة 2013، واستدعت التدخل الإيراني.
(2) الحرب شبه النظامية، والتي انطلقت مع إعلان تأسيس جيش الفتح في مارس 2015 وتحرير محافظة إدلب إذ استخدم الثوار لأول مرة تكتيكًا مشابهًا للجيوش، ولكن أدى تدخل الجيش الروسي لوقف انهيار النظام السوري، وانتقلت بعدها قوات الأسد بدعم من حليفها الروسي والإيراني إلى مرحلة الهجوم واستعادة الأراضي.
اليوم بعد توقف عجلة المعارك بعد نهاية حملة 2019 – 2020 على محافظة إدلب وما حولها، نتيجة التفاهمات السياسية الروسية – التركية، التي فرضت واقعًا جديدًا استمر طيلة السنوات الأربع السابقة، أعادت عملية طوفان الأقصى وما تبعها من الحرب الإسرائيلية على غزة واحتمالية اشتعال الجبهة اللبنانية وانشغال حزب الله وربما إيران بحرب مع الكيان الإسرائيلي وما قد تجره هذه الحرب على المنطقة بعمومها، عاد الحديث عن وجود فرصة حقيقة لقوى الثورة السورية لتغيير الواقع الميداني على الأرض وقلب الطاولة على النظام السوري، لكن الثورة وفصائلها مدعوة اليوم لإعادة النظر في مفهوم واستراتيجية الحرب التقليدية التي تنتهجها الفصائل منذ التدخل الروسي نهاية عام 2015 إذ لم تنجح في التكيف مع هذا التدخل حتى الآن.
الفصائل الثورية والحرب التقليدية:
في الحرب التقليدية يحتفظ كل معسكر بجزء من الأراضي الخاصة به، ويوجه من خلالها الضربات تجاه الطرف الآخر، وهي المرحلة التي تشكل خاتمة مراحل الحرب الثورية التي تبدأ بالحراك السلمي فالمسلح وصولًا لمرحلة التوازن ثم الحسم النظامي، وذلك بعد أن تصل القوات المعادية إلى مرحلة متقدمة من الضعف لا يبقى فيها معها غير بعض المدن الرئيسية، ليقرر الثوار الدخول في “مرحلة الحسم”، وفيها يشكل الثوار جيوشهم وأسلحتهم وفق نموذج الجيوش النظامية، ويبدؤون بشن معارك اجتياح شامل ضد المراكز التي بقيت بيد الحكومة.
وعند الحديث عن الحرب التقليدية فنريد من ذلك بحث واحد من أهم أسباب هذا التراجع المخيف الذي ضرب الحراك المسلح للثورة السورية، وبصورة أدق نتحدث عن إصرار الثوار السوريين على خوض الحرب بالطريقة التقليدية النظامية أي جيش مقابل جيش منذ التدخل الروسي عام 2015.
ويمكن لنا القول إنَّ الثوار السوريين أو معظمهم قد أجمعوا على قاعدة مهمة من خلال تجربتهم العسكرية، وهي أنَّ اكتساب القوة وتشكيلهم لقوات نظامية كبيرة، حتم خوض الحرب ضد النظام السوري والميليشيات الإيرانية بنمط الحرب التقليدية.
فعلى الرغم من أنَّ الفصائل الثورية أتقنت تطبيق معظم مراحل حرب العصابات انطلاقًا من نشأتها إلى المرحلة التي كادت فيها تسقط النظام السوري، لكن التدخل الروسي المصحوب بقوة جوية مدمرة، جعل الثوار عاجزين عن استكمال تقدمهم منذ نهاية عام 2015. وفي هذا الصدد لم يدرك السوريون هول التدخل الروسي، فاستمرت الفصائل المسلحة في عملياتها العسكرية بمنطق المجابهة المباشرة، فأطلقت معارك لفك حصار حلب 2016 ولتحرير حماة عام 2017، وعلى الرغم من النجاحات المبدئية فإنَّ تدخل القوة الجوية الروسية بعنف ساعد النظام السوري على استدراك الموقف واستعادة الأراضي التي خسرها خلال أيام معدودة، بل وسيطر على مناطق أخرى كانت بحوزة الفصائل الثورية.
ومن عجيب ما يمكن قراءته في هذا الصدد، ما كتبه “ديفيد جاليولا” في كتابه عن حرب مكافحة التمرد والذي كتبه عام 1964 “سيكون من الحمق أن يحشد المُتَمَرِّدُ كُل قوته المتاحة ليهاجم خصمه بطريقة تقليدية بهدف تدمير قوات العدو والاستيلاء على الأراضي… وبدلًا من ذَلِك، يمُلي عليه المنطق نقل قوته إلى ساحة مختلفة حيث قد تواتيه فرصة أفضل لتتكافأ موازين القوى”. كذلك يوجه جاليولا، نصيحته للقوات الحكومية أو ما يطلق عليها بقوات مكافحة التمرد قائلًا، إنَّه “إذا ما أرادت هذه القيادة التخلص من جمودها، فعليها التخلي عن حكم بعض المساحات من البلاد كالانسحاب وتسليم كُلّ شيء إلى المتمردين، ثُمَّ بدء هجوم مضاد… في المقابل، يجب على المتمرد أن يحافظ على مرونته، حَتَّى يصل إلى مرحلة توازن القوى مع مُكَافَحَة التَّمَرُد على أقل تقدير”.
وربما هنا تكمن مشكلة الثوار السوريين الذين لم يتسموا بالمرونة الكافية مع التدخل الروسي، فبقيت رغبة الفصائل الثورية في التمسك بالأرض وتشكيل قوات نظامية كبيرة تتنامى أكثر فأكثر. ولعل أبرز العقبات التي واجهت الثورة وتشكيلاتها المسلحة هي ضعف التكييف والاعتماد المفرط على القواعد الخلفية، وهذه العقبات من أبرز سمات الحرب التقليدية.
- التكييف البطيء
بقيت التكتيكات العسكرية (الهجومية – الدفاعية) التي استخدمها الثوار منذ التدخل الروسي نهاية عام 2015 حتى 2019 هي نفسها تقريبًا دون أي تكيف. وقد يعود ذلك لعدة أسباب من أهمها:
- تشتت الجهود على مستوى القيادة.
- عدم تغيير الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية بشكل ملحوظ.
- الاعتماد على الخبرات الميدانية.
فعلى سبيل المثال أصر الثوار على مواجهة قوات النظام والميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، بطريقة المواجهة المباشرة في محاولات تحرير حماة عام 2017 ومحاولات فك الحصار عن حلب عام 2016. وبالمقابل تمكنت قوات النظام السوري من التكييف بطريقة أسرع في مجابهة أساليب الثوار، فعلى سبيل المثال اعتمدت قوات الأسد ثلاثة خطوط دفاعية في بعض الجبهات لمواجهة تكتيك المركبات المفخخة بحيث يعرقل الخط الأول الضعيف نسبيًّا وصول المركبات إلى أهداف ذات قيمة عالية، وبالتالي كانت معظم الهجمات بهذا التكتيك دون النتائج المرجوة.
أيضًا يبدو من التطورات اليومية في الشمال السوري أنَّ قوات النظام نجحت في توظيف المسيرات الانتحارية بطريقة أسرع في ظل رخص وسهولة تصميم هذه الطائرات.
من المشكلات الأخرى أيضًا تكييف الثوار بشكل عكسي مع الحرب الثورية التي تعتمد بدورها على التخريب والتعطيل المتعمد للقوى النظامية، حيث تخلت أغلب القوى الثورية عن عمليات التخريب وحرب العصابات الفعالة والانتشار السري في بقية المحافظات التي خسرتها منذ عام 2018 – 2019.
2- خطورة الاعتماد على القواعد الخلفية
يعتبر الانتشار واحدًا من أهم مبادئ الحرب الثورية، ونقصد به الانتشار عبر السكان والجغرافيا بما يحقق أكبر قدر من السيطرة حيث يشتت العدو ويجبره على توزيع قواته ليصبح ضعيفًا في أغلب النقاط. ولأنَّ وجود مراكز ثقل جغرافية للثوار قد يهدد الثورة في حال استطاع العدو السيطرة عليها بحملات الاجتياح، فإنَّ تطبيق مبدأ الانتشار يجعل فرصة العدو في السيطرة على القواعد الخلفية للثوار أصعب.
وبالعودة للحالة السورية نجد أنَّ بعض المحافظات النائية بدأت في تحقيق هذا المفهوم، ونعني هنا محافظات درعا والسويداء تحديدًا، وفي غالب الأمر فقد شكلت هذه المحافظات لأسباب داخلية خاصة بها، أرقًا لقوات النظام، وفي نفس الوقت بقيت مراكز الثقل الأخرى خصوصًا في العاصمة دمشق في مأمن عن هذا القلق؛ بل إنَّ قوات النظام السوري راحت تفكك العديد من الحواجز الأمنية المنتشرة داخل هذه المدن ما يعكس شعوره بالراحة والاطمئنان ويسمح له في نفس الوقت بتفريغ جزء كبير من جهوده نحو مراكز أخرى.
الخاتمة
لا بُدَّ لنا من إدراك قضية جوهرية، وهي أنَّ الحرب الثورية تحتاج للصبر، لأنَّها من نوعية الحروب التي تتخذ مسارًا تصاعديًّا تدريجيًّا، حيث يفتقر الثائر إلى القوة الكافية في البداية، وإلى التنظيم وتجهيز قواته وتطويرها وصولًا إلى مرحلة التوازن مع العدو والتغلب عليه، وإنَّ أي محاولة لحرق المراحل قد تؤدي إلى خسائر كبيرة تعيده إلى نقطة البداية من جديد.
وإنَّ حديث الثوار السوريين عن استعادة السيطرة على بعض المناطق وتحرير مدن كبرى يجب أن يكون مصحوبًا بدراسة مستفيضة عن التجارب السابقة والتكيف السريع والفعال مع تطورات الحرب وبيئتها الحالية، ومحاولة توسيع نطاق المواجهة مع النظام بعيدًا عن قواعد الثوار الخلفية، وذلك رغم الحديث عن ترهل النظام السوري وانشغال حلفائه في معارك أخرى، فحتى الآن ما زال للقوات الإيرانية والروسية وحزب الله اللبناني تواجدا قويًّا وفعالًا على الأرض، وكما قال الفاروق -رضي الله عنه- عندما بعث مع أبي عبيد بن مسعود، سليط بن قيس لفتح العراق وقال له: “لولا عجلة فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث”.