ترجماتمقالات

أثر القراءة في أداء السياسيين: نتنياهو نموذجًا

نشر بنيامين نتنياهو مذكراته في أكتوبر 2022 في 736 صفحة باللغة الإنجليزية تحت عنوان “بيبي: قصتي”، وضمن ثنايا الكتاب تناول نتنياهو دور القراءة في إثراء مقدرته على اتخاذ قرارات في مجالات متعددة، وأوضح كيف ساهم شغفه بالقراءة في تحقيق تطور نهضة تعليمية انعكست على تطوير القدرات التكنولوجية في تحلية المياه والأمن السيبراني.

إنَّ الفقرات القادمة ليس الهدف منها الثناء على شخص نتنياهو، فهو مكروه حتى بين السياسيين في بلده، كما انخرط في العديد من الحروب في العالم العربي، حيث شارك بنفسه في شن هجمات على الضفة الغربية من قناة السويس بمصر وفي الجولان وفي إنزال جوي على مطار بيروت وفي معركة الكرامة بالأردن عام 1968، فضلًا عن حرب أكتوبر 1973. ثُمَّ قاد سلسلة من الحروب والغارات في غزة والضفة الغربية رئيسًا للوزراء قُتل فيها آلاف المدنيين. لكن الهدف منها هو الإشارة إلى بعض الجوانب التي يهتم بها السياسيون والقادة لتطوير قدراتهم الشخصية والنهوض ببلادهم، في مواجهة نماذج أخرى ابتلينا بها في بلادنا العربية تستخف بأهمية التعليم، حتى قال قائلهم ماذا يفعل التعليم في وطن ضائع؟!

دور الأب في الحث على القراءة والتعلم

يذكر نتنياهو أنَّ والده بنزايون المولود عام 1910 في بولندا حرص على أن يزرعَ فيه من الصغر حب القراءة وبالأخص في مجال التاريخ، حيث لقنه درسًا مفاده (إنَّ أولئك الذين لا يستطيعون فهم الماضي لا يمكنهم فهم الحاضر وأولئك الذين لا يستطيعون فهم الحاضر، لن يمكنهم استشراف ما يخبئه المستقبل). ولذا قرأ نتنياهو في شبابه كتابات ميكافيلي وهمنغواي وكتاب “قصة الحضارة” للمؤرخ ويل ديورانت، كما شارك في المدرسة الصيفية بجامعة هارفارد حيث حضر في عام 1973 ندوة لكارل دويتش عن القومية وفي مرحلة الجامعة درس الهندسة المعمارية ثُمَّ إدارة الأعمال في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

إنَّ تشجيع الأبناء على القراءة ظل ملازمًا للأب، فعندما بلغ التسعينيات من عمره، أعطى ابنه كتابين قرأهما للتو، الأول يصف تطور القنبلة الذرية والثاني يتناول سيرة حياة ريتشارد فاينمان الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل.

وفي موقف كاشف عن حجم تأثير والده عليه، يقول نتنياهو أنَّه سأله حين فاز للمرة الأولى برئاسة الوزراء في عام 1996، ما الميزة الأساسية التي ينبغي توافرها لشخص ما كي يشغلَ منصب رئيس الوزراء؟ فأجابه: ما رأيك أنت؟

أجاب بنيامين: “رؤية واضحة للمكان الذي تريد أن تقود إليه البلاد والتزام قوي بتلك الرؤية ومرونة كافية في السير نحو تحقيقها”.

قال والده: هذه سمات ينبغي توافرها لشاغل أي منصب قيادي. فرئيس جامعة أو رئيس شركة أو قائد عسكري سيجيبون جميعًا بهذه الإجابة نفسها، ثُمَّ أضاف المهم هو “التعليم، تعليم واسع وعميق، وإلا فسوف تكون تحت رحمة موظفيك”.

يضيف نتنياهو، على مر السنين تبين لي أنَّ رئيس الوزراء دون فهم أساسي للاقتصاد والعمليات العسكرية والتكنولوجيا والعلوم، يصبح عاجزًا أمام الخبراء. أما الأهم فهو التاريخ، فكيف يمكنك أن تعرف إلى أين تذهب إذا كنت لا تعرف حتى كيف وصلت إلى هنا!

فضلًا عن الاستفادة من نصائح والده، يؤكد نتنياهو أنَّه استفاد أيضًا من نصيحة لوزير الخارجية الأمريكي السابق كيسنجر قال فيها (في الحياة العامة، تعتمد على رأس المال الفكري الذي تراكمه قبل أن تدخله). ولذا يوضح نتنياهو أنَّه يبذل قصارى جهده لتجديد رأسماله الفكري باستمرار، حيث يقرأ كثيرًا في التاريخ والاقتصاد والتكنولوجيا.

القراءة والتطبيق الواقعي

سعى نتنياهو إلى القراءة لربط ما يقرأ بالواقع وبقراراته الحكومية. فعلى سبيل المثال يروي أنَّه في عام 2011، اتصل به البروفيسور إسحاق بن إسرائيل، وهو عسكري سابق يقدم له النصح في القضايا العلمية قائلًا (أريدك أن تقرأ هذا الكتاب).

سأله نتنياهو: ما نوعه؟

قال: إنَّها رواية.

أجاب نتنياهو: أنا لا أقرأ الروايات. فأنا أقرأ في التاريخ والسير الذاتية والفلسفة السياسية وعلم الآثار والتكنولوجيا والاقتصاد.

أصر إسحاق قائلًا: سترغب في قراءة هذا.

تناول الكتاب حربًا سيبرانية مستقبلية مفترضة بين الولايات المتحدة والصين.

اتصل نتنياهو بإسحاق بن إسرائيل في اليوم التالي قائلًا له (بقيت مستيقظًا طوال الليل وأكملت قراءة الكتاب. تعالى في أسرع وقت ممكن).

يضيف نتنياهو (في حين أنَّ لدى إسرائيل قدرات سيبرانية فعلًا، فقد أقنعني الكتاب أنَّه يتعين علينا المضي قدمًا بسرعة وشكلت لجنة إرشادية مع ابن إسرائيل وسكرتيري العسكري يوهانان لوكر، لتطوير المؤسسات والتمويل والإجراءات لإدخال إسرائيل بقوة في عصر الفضاء السيبراني.

كان السبب الأول لهذا التحرك هو الأمان. لا يمكن أن نكونَ في وضع أعزل مع هذه التكنولوجيا الجديدة القوية التي يمكن على سبيل المثال أن تعطلَ شبكة الكهرباء في البلاد. وقلت في كلمة بجامعة تل أبيب في يونيو 2011: في غضون سنة واحدة، يجب أن تكون إسرائيل من بين القوى السيبرانية الأولى في العالم.

كان إدخال القوة السيبرانية ضمن مجالات القوة شبيهًا بإدخال القوة الجوية في الحرب العالمية الأولى، وقد تطلب إنشاء قوة جديدة تمامًا ذات عقيدة جديدة. وهو ما استلزم استثمارات ضخمة في الجيش والموساد والشاباك، إلى جانب برامج لتجنيد الطلاب الأكثر موهبة منذ الصغر وإنشاء أقسام جامعية جديدة، كما استلزم إنشاء مركز وطني للدفاع السيبراني لحماية الشركات الإسرائيلية. ولحل معارك النفوذ البيروقراطية بين أجهزتنا الأمنية، أسست المقر الوطني السيبراني في 7 أغسطس 2011 وخصصت المسؤوليات والمهام وعينت الأشخاص لتنفيذها.

لقد ساعد الاستثمار الحكومي الهائل في الأمن السيبراني في تأسيس مئات شركات السيبر الجديدة. لقد تنافسوا مع بعضهم البعض…فما بدأ كتحدٍ أمني تطور الآن إلى فرصة اقتصادية عظيمة. ففي العالم الرقمي هناك حاجة إلى الحماية السيبرانية في كل مكان. بحلول عام 2017، استحوذت إسرائيل على ثاني أكبر عدد من صفقات الأمن السيبراني على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة وقبل المملكة المتحدة).

الإصلاح الاقتصادي

حين انشغل نتنياهو بملف الإصلاح الاقتصادي، أدرج التعليم ضمن أولوياته، حيث يوضح أنَّه (تساءل في حِقبة التسعينيات من القرن العشرين: لدينا يهود ناجحون بما يثير الدهشة خارج البلاد، وعدد قليل جدًّا من الناجحين في إسرائيل، فما السبب؟

 أجاب على نفسه: “المشكلة ليست في البشر، إنَّها مشكلة النظام في إسرائيل، وعلينا تغييره”. ففي حين كان الاقتصاد العالمي يتحول بسرعة إلى مجتمع متصل عالميًّا عبر نقل البضائع والأموال والخدمات بلمسة زر واحدة، هُمِشَت إسرائيل بسبب القيود على العملات الأجنبية، ففي عام 1998 لم يكن متاحًا للإسرائيليين أخذ أكثر من 7000 دولار من البلاد دون تصريح خاص من “بنك إسرائيل”، وعند عودتهم من الخارج اضطروا إلى إيداع وتسجيل جميع العملات الأجنبية التي بحوزتهم، وهو ما جعل أبسط المعاملات الاقتصادية الدولية تمثل جحيمًا بيروقراطيًّا، حتى أنَّ أحد أصدقاء نتنياهو اضطر إلى الحصول على إذن خاص من بنك إسرائيل للدفع بالدولار مقابل الاشتراك في مجلة نيوزويك).

 لقد رأى نتنياهو أنَّ إسرائيل لا تستطيع بناء قوتها العسكرية دون بناء قوة اقتصادية أولًا، ومفتاح ذلك هو الأسواق الحرة والتكنولوجيا المتقدمة. وهو ما استلزم إجراء إصلاح شامل للسياسات الاقتصادية شبه الاشتراكية التي كانت قائمة في إسرائيل منذ عقود. ولتحقيق ذلك اهتم بإصلاح قطاع التعليم، حيث رأى أنَّ الجامعات الحكومية لا تنتج عددًا كافيًا من علماء الرياضيات والمهندسين وتبنى سياسة تهدف إلى زيادة سريعة في عدد المهندسين والفنيين المدربين على التكنولوجيا العالية في الجامعات.

اجتمع نتنياهو مع اللجنة التوجيهية المشرفة على الجامعات، التي تتكون من رؤساء الجامعات ووزير التربية والتعليم، وقال لهم (لقد جئت من عائلة أكاديمية، ولدي أقصى درجات الاحترام لدراسة العلوم الإنسانية. ولكن إذا كان من الممكن في ظل الوضع الحالي للاقتصاد العالمي استخدام أموال الحكومة لتمويل دراسة شعر التبت في القرن السابع عشر أو دراسة الإلكترونيات الدقيقة، فعلينا إذًا وضعها في الإلكترونيات الدقيقة). واتفقوا على تبني برنامج أسفر عن زيادة عدد خريجي العلوم والرياضيات بنسبة 50 % في ست سنوات، بما في ذلك خريجي الكليات الخاصة. وخدم العديد من هؤلاء الخريجين في أجهزة الاستخبارات والجيش الإسرائيلي حيث اعتادوا على الابتكار وحل المشكلات بسرعة.

التطور التكنولوجي وكسر حاجز المقاطعة

عبر الاهتمام بالتعليم، حققت تل أبيب قفزات تكنولوجية بالأخص في الري بالتنقيط عبر أنظمة محوسبة تحدد بواسطة أجهزة استشعار أرضية أي جزء من الحقل جاف أو غير جاف، مما يساهم في توفير المياه. كما أعادت تدوير 90 % من مياه الصرف الصحي لديها وبَنَت محطات ضخمة لتحلية المياه على البحر الأبيض المتوسط، مما ساهم في حل أزمة عجز المياه لديها وهو ما جعل العديد من الدول تتهافت على التعاون معها للاستفادة من هذه التقنيات ونقل الخبرات وساهم في كسر حاجز المقاطعة التي تسببت فيها سياساتها القمعية تجاه الفلسطينيين.

يلاحظ خلال المذكرات، أنَّ نتنياهو لم يمتدح من السياسيين الإسرائيليين شخصًا بقدر ما امتدح رون ديرمر السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن ووزير الشئون الإستراتيجية الحالي. فهو مثل نتنياهو كان يحمل الجنسية الأمريكية وتخرج في جامعة أكسفورد، ويصفه نتنياهو بأنَّه حاز على تعليم عميق. ويشير نتنياهو إلى أنَّه رغم اهتمامه بالجوانب العملية من الأمور، فإنَّه يحب أن يخوض مع ديرمر نقاشات فلسفية وتاريخية.

هل نتنياهو يبالغ؟

قد يقول قائل إنَّ نتنياهو يبالغ في تصوير دور القراءة في حياته لاكتساب صورة المثقف، وهو احتمال يقوم على ما اشتهر عنه من مراوغة وخداع، لكننا نجد في مذكرات جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأمريكي السابق ترامب وزوج ابنته إيفانكا، واقعة توضح مدى اهتمام نتنياهو بالقراءة، حيث يقول كوشنر (لقد التقيت برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قبل سنوات عديدة، وبالتحديد عندما أمضى عطلة نهاية الأسبوع مع عائلتي في إحدى رحلاته إلى الولايات المتحدة. في ذلك الوقت، دعاه والدي للبقاء في منزلنا في نيوجيرسي أثناء تواجده في المدينة. بقي بيبي في غرفة نومي، لذلك هبطت إلى الطابق السفلي، حيث كنت أنام مع حراسه… أخرج بيبي رواية “توقعات عظيمة” لتشارلز ديكنز من رف مكتبتي لقراءتها. في صباح اليوم التالي، سأل عما إذا كان بإمكانه أخذ الكتاب لإنهائه في الطريق خلال سفره. كان من دواعي سروري أن أعطي له الكتاب لكنه كان هدية. قلبت الصفحة الأولى وأريته الإهداء على الكتاب من صديقتي في ذلك الوقت. ابتسم بيبي وتركه بلطف).

في الختام، إنَّ القراءة ينبغي أن تكون ممارسة يومية مثل الطعام والشراب، فبها يعرف المرء دينه وتاريخه ويفهم واقعه وواقع خصومه وتتسع بها معارفه وآفاق تفكيره ورؤيته للأمور ودونها يكون كالأعمى الذي يسعى إلى عبور طريق سريع بمفرده.

أحمد مولانا

ماجستير علاقات دولية، باحث في مجال الدراسات الأمنية والسياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى