
لطالما شكّلت قضايا التكفير والطائفية مفاصل حساسة في تاريخ الأمة؛ لا من حيث بعدها العقدي فحسب، وإنما أثرها العميق في تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية، وتحديد معايير الولاء والبراء، ومواجهة التهديدات الخارجية.
غير أنَّ التناول المعاصر لها غالبًا ما جاء مضطربًا، تتجاذبه العواطف والاصطفافات، ويغلب عليه التوظيف الانتقائي للنصوص والتجارب، والاستخدام السياسي بما يتخطى تطويع الأمة لنظام حكم أيًا كان أو عصبيتها لفرقة ما؛ إلى محاولة توظيفه لخدمة مخططات عالمية وأجندات خارجية، لصناعة حالة من العداء والتناحر البيني المطلق؛ بما يحجب أي فرصة للفهم والتمييز حتى داخل الطائفة الواحدة.
كما تُسحق باسم الدين والطائفة والمذهب؛ جماهير عريضة من المسلمين، وتكُفّر باسم قضايا لا تعرف عنها شيئًا، وتُسفك دماؤهم بأدلة جاهزة أُعدّت مسبقًا لمعارك لم يخُوضوها، فلا يدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قُتل!
وإذا كانت بعض أصول السنة في الحكم على الفرق والأفراد لها قواعد ثابتة؛ فقد تم اختزال وتغييب تلك القواعد واختراع أصول جديدة مضاهية لها، وهي إن كان لبعضها أصل إلا أنَّ بعضها الآخر عديم الأصل، أو ذو أصول عند فرق أخرى كالخوارج!
فقد صار التكفير بالشبهة مفضلًا على اليقين، والاجتهادي مقدمًا على النصي، والكافر الأصلي أقرب من المخالف المِلي ـولو كان من الغلاةـ والتصق اسم الفعل بفاعله دون شروط ولا موانع ولا عوارض، وقدمت الفتوى على الأصل المحكم، وصارت الجريمة مبررة في حق البعض، وهي ذاتها مكفرة في حق آخرين، بما يهدد أصول السنة من حيث زعم أبناؤها الذود عنها!
إنَّ تأميم الدين واستخدامه لشرعنة أنظمة البطش وتصفية الخصوم، واختزال التراث في فتاوى عقيمة ترتهن الأمة بيد أنظمة الجور التي بايعت أعداء الأمة مؤخرًا، أصبح سلاحًا لوأد أي مشروع حقيقي للمقاومة؛ وتقطيع أرحام هذه الأمة، في تمهيد أخير لذبحها على يد عدوها من الوريد إلى الوريد، أو من النيل إلى الفرات!
لقد آن الأوان أن نُعيد فتح ملف التكفير والطائفية بميزانٍ معتدل يتسق وروح الشريعة، وبعيد عن التسييس، وشعارات السُخرة التي تستخدم اليوم باسم “السنة” و”الشيعة” لا استنهاضًا للشرع ولا نصرة للدين، مما ضيع الأمة بين ولاية المتغلب وولاية الفقيه، وقد أثبتت الأحداث أنَّ الخطر وجودي وشامل، وأنَّ على العقلاء من كلتا الطائفتين الانتصاب لمراجعة تصحيحية من الناحية الشرعية والتاريخية، أو تضيع هذه الأمة وتمضي إلى مزيد من الأزمات.
علاقة الجرائم بالكفر والتكفير
تسود الوسائط الاجتماعية نشريات ومكتوبات تربط بين تكفير الشيعة أو “الرافضة” حسب الاصطلاح الشائع عند بعض الفئات الإسلامية؛ وبين ما ينسب إليهم من جرائم حصلت في العراق قديمًا وسوريا حديثًا؛ كالقتل والتعذيب والاغتصاب وغيرها، ودون جدل عن حجم وحقيقة تلك الجرائم، وحدوث مثلها من فئات تنتسب جملة إلى السنة كـ “داعش” مثلًا ـفليس هناك تبرؤ جماعي ومؤسسي وعلمي شيعي منهاـ إلا أنَّه لا يعنينا هنا مناقشة هذه القضية، بقدر ما نناقش قضية “التكفير بالجريمة”، أو بالاصطلاح السني “التكفير بالكبيرة”، وهي مسألة خطيرة يجترها كثير من المنتسبين إلى السنة بمنتهى البساطة، ولا يدرون أنَّهم بذلك ربما يُعمِلون أصول فرقة أخرى غير التي يزعمون الانتساب إليها؛ إذ يكررون دعوى الخوارج واعتقادهم بحرفيته!
كما أنَّ هناك تناقضًا آخر فجًا وصارخًا إذ يتم تكفير الشيعة بجرائم مشابهة تمامًا لما اقترفته فئات مجرمة في بداية أمر هذه الأمة من بعد دولة الراشدين، فقد اقترف بعض خلفاء بني أمية منذ عهد يزيد والأمراء والعمال من بعده حتى نهاية ذلك العصر تقريبًا؛ مثل هذه الجرائم بل شر منها، وكان ذلك بحق خيار الأمة من القرن الأول، فلم تقتصر تلك الجرائم على آل البيت الشريف، وإنما ضد جماهير عريضة من التابعين ومن تبقى من الصحابة، وبني المهاجرين والأنصار، والعلماء والقراء، رضي الله عنهم جميعًا.
•وقد نبأ النبي ﷺ بذلك، فعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: (كان أبغض الأحياء إلى رسول الله ﷺ بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف)، أخرجه الحاكم في المستدرك وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو عند أبي يعلى والطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا مطرف بن عبد الشخير وهو ثقة.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا) ” قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين” رواه البخاري في التاريخ، وابن جرير وغيرهما، وهو بروايات كثيرة بعضها عن سيدنا علي -رضي الله عنه- وغيره.
• وقد قال أبو هريرة -رضي الله عنه- “حفظت من رسول الله ﷺ وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا الحلقوم”. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: “حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفًا على نفسه منهم، كقوله: (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان)، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنَّها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة”.
• وفي الصحيح عن سيدنا أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: “هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان؛ لفعلت. كما في مسند الإمام أحمد ورواه البخاري دون لفظ “سفهاء”. وكان سعيد بن عمرو يقول في بني مروان حين ملكوا بالشام وغيره عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا أنت أعلم”.
كما تنبأ بما فعلوا مما هو أخطر من ذلك من تبديل بعض الشرائع كتأخير الصلاة عن وقتها خاصة صلاة الجمعة، وإبطال التلبية في الحج، ففي صحيح النسائي عن سعيد بن جبير قال: كان ابنُ عباسٍ بعرفةَ فقال: مالي لا أسمَعُ الناسَ يُلَبُّونَ؟ فقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: يخافونَ من مُعاويةَ فخرَج ابنُ عباسٍ من فُسطاطِه فقال: لبَّيكَ فإنَّهم ترَكوا السُّنَّةَ من بُغضِ عليٍّ(. وفي صحيح البخاري قال عمران بن حصين حين صلى مع علي – رضي الله عنه- بالبصرة: “ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله ﷺ فذكر أنَّه كان يكبر كلما رفع وكلما وضع”.
وكلها أحاديث صحيحة بعضها في البخاري ومسلم، ولكن يتم الققز على تلك الأحاديث الشريفة، والوقائع التاريخية -وكثير منها مسندة- وتجاوزها واختلاق مناقب تضادها ولا توافق العقل ولا يسندها النقل، بل واعتبار أولئك الملوك خلفاء للمسلمين والترضي عليهم!
وكل هذا لا بأس به فهو رأي واسع موروث بأثر رجعي كقصور ذاتي لمآسي حركة التاريخ، وامتداد لتوقير السلطة الذي فرضته بالذهب والسيف، رغم استمرار نفس هؤلاء الذين يمجدونها في تسمية هذه الفترة “بحكم المتغلب”! ولو كانت سلطة فاضلة فلماذا اعتبرها الأولون مفروضة عليهم بغلبة السيف إذًا!
ثم لماذا نكفر الشيعة اليوم لارتكاب نفس الجرائم بحق طائفة من الأمة، والفعل الواحد لا يكون حسنًا وقبيحًا في نفسه أبدًا؛ ولا يكون إيمانًا في حق طائفة وكفرًا في حق أخرى بذاته، إذ ربما كان بغيره!
التكفير بسب الصحابة وعارض التأويل
لم تكن الرافضة أول فئة تسب الصحابة أو تكفرهم أو تقتلهم، فقد سبقتهم الفئة الباغية في الشام، بلعن علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن والحسين -رضي الله عنهم- على المنابر ستين سنة حتى أبطله عمر بن عبد العزيز، ستون سنة وآل رسول الله يسبون على المنابر!
كما كفرت الخوارج من تبقى من الصحابة وسائر المسلمين بل وقتلتهم، ورغم تعدي سلفهم ذي الخويصرة على مقام النبوة، ورغبة النبي ﷺ في الأمر بقتله -ولو لم يفعل- فإنَّه لم بحكم بكفره ولا بكفر الفئة المارقة التي نبأ أنَّها تأتي امتدادًا لفريته، كما لم يفعل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- آنذاك، رغم ميل البعض لتكفيرهم بالفعل، وكانت فتواه فيهم بأنَّهم: “إخواننا بغوا علينا”؛ فقد اعتبر “عارض التأويل” كمانع شرعي من تكفيرهم، ونفس العارض متوفر عند الرافضة في تكفيرهم بعض الصحابة رغم شناعة الأمر من كلتا الطائفتين، فلم لا يسعنا ما وسع أهل السنة والسلف إن كنا نزعم الانتماء إليهم!
المعيار غير ثابت؛ يساء لآل البيت -رغم صحبتهم وقرابتهم ونصوص الوحي المتواترة في حقهم- فتقبل طائفة من أهل السنة ذلك بل وتبرره وتمجد فاعليه من بني أمية لسطوهم على خلافة المسلمين، بينما لم تفعل مع الخوارج لأنَّهم كانوا مجرد فئة ثائرة مارقة لم تستلم سلطة تشرعن جرائمها وتضفي عليها القداسة!
وإن سب الرافضة الصحابة رضي الله عنهم، حتى ولو كانوا طلقاء من المتأخرين أو بعض المجهولين استدلوا بذلك على كفرهم، رغم أنَّ الفعل واحد!
أهل القبلة وأصل الدين
الأصل أنَّ من اجتمع معنا في أصل الدين فهو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله، وأصل الدين هو: الإيمان (بالله ﷻ، والرسول ﷺ؛ والإسلام). قال الله ﷻ: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وإتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)، ومما صح عن النبي ﷺ: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذاكم المسلم له ذمّة الله، وذمّة رسوله، فلا تُخْفِرُوا الله في ذمّته)، هذا وقد عدد رسول الله ﷺ الفرق التي ستتفرق عليها هذه الأمة، وحذر من الافتراق في الدين لكنه عدها من هذه الأمة ولم ينف عنها هذا الانتماء.
فكيف تصنع بلا إله إلا الله!
والأصل هو تعظيم مقام كلمة التوحيد وشهادة أنَّ لا إله وقد صحت الأحاديث عن رسول الله ﷺ في وجوب اعتبار هذا الأصل ولو وقع من كافر أصلي محارب أوجع في المسلمين، فكيف بمن هم منتسبون إلى هذه الأمة أصلًا ولو وقعت منهم مكفرات ولو أوجعوا في المسلمين؛ وفي حديث أسامة المتفق عليه: (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله)!
فأمور كالغلو في الصالحين وآل البيت والتوسل والاستغاثة والتبرك وغيرها، مما وقع فيه الخلاف فليست محكمة ولا مجمعًا عليها، ومن كفر الشيعة بهذه الأفعال سيكفر فئامًا عريضًا من المسلمين كالصوفية وغيرهم وهم مندرجون جملة تحت أهل السنة فلم يتبرأوا منها ولم تتبرأ منهم، ومن أصول السنة التفريق بين الفعل والفاعل والاسم والمسمى.
الكافر الأصلي النصي أم الاجتهادي!
يحدد المحور السابق الأصل المعتبر لا الرأي والاجتهاد والنظر الاحتمالي، فالأصل أنَّهم “أهل قبلة”، لا يخرجون من الدين إلا بيقين كما دخلوه بيقين، وحتى لو صح الاجتهاد في بعضهم بالكفر فإنَّ من أصول السنة عدم المساواة بين الكافر الأصلي الذي ورد النص الشرعي بكفره كالمشركين عباد الأوثان والأصنام، وأهل الكتاب وأمثالهم من الكفار والملاحدة؛ وبين المسلم المِلِّي الذي يقع منه أفعال مكفرة خاصة مع عدم الاتفاق عليها.
وإذا تقرر هذا الأصل فكيف يسوغ للبعض بعد ذلك أن يسوقوا للفكرة البائسة: “الرافضة شر من اليهود والنصارى”! وهو شعار أطلق قديمًا خلافًا للشرع ثم طغى على المنهج، وهو وإن تم تمريره في زمن قوة وتمكين للأمة، فكيف يجوز ترويجه اليوم، وهم يحتلون مقدسات المسلمين وأرضهم ويعيثون فيها فسادًا، ويقضمونها من أطرافها دولة بعد دولة!
أهل السنة لم يجمعوا على تكفير الإمامية
من الملاحظ أنَّ جل من يتكلمون في تكفير الإمامية الإثنى عشرية يظنون ذلك إجماعًا، فيأخذونه بقوة ولا يقبلون فيه صرفًا ولا عدلًا؛ بل يوالون ويعادون فيه إذ يحسبون أنَّ هذا هو الدين، فهذا هو ما تم ترسيخه بقوة المال والسياسة من بعض دول الخليج المرتاعة من مد الثورة الساخن إلى جوارها منذ خمسة وأربعين عامًا! وربما يفاجئهم القول إنَّ أهل السنة لم يجمعوا على التكفير، بل تفرقوا فيه على ثلاثة أقوال:
1- تكفير الإمامية: وقال به نفر من العلماء من مختلف المذاهب وإن كان أكثرهم من الحنابلة وهذا مشهور فيهم ضد كثير من المخالفين، بل إنَّ المرء ليعد عد عشرات الأقوال -وربما أكثر- لابن تيمية والإمام أحمد بن حنبل من قبله؛ بالاستتابة لبعض أصحاب المعاصي والمخالفات الاجتهادية.
2- تكفير علمائهم دون عوامهم باعتبار قيام الحجة عليهم بعلمهم، وهو تحكم لا دليل عليه، فيعذر بالتأول العامي والعالم ولا فرق.
3- اعتبارهم مسلمين غلاة متأولين.
وإذا تبين هذا فكيف نجعل تكفيرهم قولًا واحدًا هو الدين وهو المذهب والمنهج، بينما المذهب يفترق فيهم على ثلاثة أقوال؛ فلماذا النكير والتشنيع على قول من الثلاثة وكأن صاحبه فارق السنة، ولماذ لا يسعنا خلاف أهل السنة! فمن أصول السنة عدم النكير أو التشنيع في مواطن الخلاف، أي الخلاف المعتبر؛ إذ يعني وقوع الخلاف أنَّ الأمر اجتهادي ظني لا قطعي.
لماذا نختلف في الإمامية دون غيرها!
وإذا كانت الشيعة فرقًا قددًا، فلماذا نختلف اليوم مع من يكفرهم خاصة، بينما لم نختلف في الدروز والإسماعيلية والنصيرية والبهائية والبابية ونحوها!
والجواب ببساطة شديدة هو أنَّ أهل السنة اختلفوا في الإثنى عشرية “الرافضة” بينما الخلاف في الآخرين أقل، لأنَّ الرافضة على أصل الدين [الله – الرسول – الإسلام] ويصلون لقبلتنا ويأكلون ذبيحتنا، ويقيمون فرائض الإسلام الكبرى جميعًا، بينما يختلف الآخرون -ممن ذكرناهم- في حقيقة الألوهية والنبوة والإسلام، فلماذا لا يسعنا خلاف أهل السنة، وكيف يتهم من يدافع عن منهج السنة بالتشيع والتأيرن ونحوها من القبائح، وأولى بأصحابها أن ينسبوا للتصهين إن عوملوا بالمثل، وأي الفريقين أحق بالانتساب للسنة ومنهجها!
وكما فرقنا بين فرق واعتقادات الشيعة بتفريق علمائنا بينها؛ فإننا نفرق كذلك بين الجاحد والمتأول ضمن الطائفة الواحدة، فليسوا سواءً في الحكم، وهذه كلها أصول السنة في الأسماء والأحكام.
جرائم في حق منهج السنة
إنَّنا هنا لا ننصب أنفسنا وكلاء عن الشيعة أو غيرهم، وإنما ندفع عن السنة التي اختلط فيها الاعتقادي والسياسي والتاريخي، فلأهل السنة منهج وأصول وقواعد ضابطة ربما ليست لغيرهم، فليس لنا أن نسمح لفئات منا اليوم موجهة بدافع التمويه التاريخي والتزييف السياسي الذي جلَّ بالمال زحفه وعظم؛ أن تبدل ذلك المنهج وتهدد واقع الأمة بخيارات موهومة تظن أنَّها تتمثل هذا المنهج إذ هي تخترع شيئًا جديدًا وتنصر العدو الظاهر المباشر وتفتح الباب ليحيق بها هذا الخطر المحدق.
فبينما كان الخط السياسي لأهل السنة ينحدر في الخط التاريخي بما يزري بالمشروع نفسه، حيث تم تطويعه للفتوى السلطوية “ولاية المتغلب” التي ربما ناسبت زمانها أو أجبرت عليه، وهو ما غيب أي مشروع سني منذ قرون، بل وقتل الفقه السياسي السني منذ أطروحة “غياث الأمم” للجويني؛ كان الخط السياسي للخميني يطوع الفتوى “ولاية الفقيه” للمشروع، ربما ليخرج من طوق “غيبة الإمام” الذي خنق التشيع وغيبه في السرداب منذ اخترعه العباسيون لإخماد ثورات الشيعة.
وإذا كنا من أهل السنة ونزعم الغيرة على السنة؛ فلماذا لا نلزم “أصول أهل السنة” وقد ذكرت بعضها ولا يسعف الوقت والمقام بسردها تفصيلًا أو الاستدلال لكل منها، بل والسؤال الأهم: لماذا لا يسعنا اختلاف أهل السنة، فإن كانوا تفرقوا على أقوال فلماذا يُتَهم ويُخون من يختار رأيًا مخالفًا من بين هذه الآراء وفي ذلك اتهام للمنهج نفسه وللعلماء الذين اختاروا نفس الخيار قديمًا وحديثًا!
بل إنَّ أكثر هؤلاء المتعصبين لا يعرفون هذه الأصول من الأساس، والعجيب أنَّهم حتى لو عرفوها وسردت عليهم عشرات المرات لا يتوقفون لفهمها والتأكد من صحتها، وإنما يتجاوزونها إلى نفس الرأي المعلب والمحفوظ وكأنه الهوى قد استحوذ على الهواة، أو هو ما وجدوا عليه آباءهم فهم على آثارهم مقتدون!
كما يعنّ سؤال ضروري؛ لماذا لا نطوع الفتوى لصالح الدين والأمة فنختار من بين تلك الآراء ما يرأب صدع الأمة ويجسر هوة العداء ويخدم الصالح العام فيها، بدلًا من الرأي الذي يدعم عدوها ويعجل بهلاكها وزوالها! أليس دور الفتوى من حيث الأصل هو مراعاة الواقع!
ولماذا نتجاوز عن الجرائم الروسية والجرائم الأمريكية والجرائم الصهيونية، ونقبل التعامل والتواصل معهم، ولا تزعجنا إلا الجرائم الرافضية فقط! والجريمة هي الجريمة أيًا كانت هوية أو طائفة فاعلها!
نقلة خطيرة في واقع الأمة السياسي
لفت نظري في كلام حسن نصر الله أكثر من مرة بصيغ مختلفة؛ أنَّ الشيعة قد أرسوا مرحلة معينة خطت سطورًا كتبها التاريخ ولم يعد من الممكن محوها!
ولعل ما كان يرمي إليه هو قراءة الواقع كسطر في السياق التاريخي وليس هو أول الأمر وآخره، وهي ركيزة في غاية الأهمية تستلزم تدقيقًا وتعمقًا، فالرجل وغيره من قيادات الشيعة يدركون أهمية ما يمكن تسميته “بالتراكمية التاريخية”، واعتبار المرحلة -بانتصاراتها وانكساراتها- كمحطة في سياقها وليست مشهدًا مستقلًا ولا نهاية المطاف!
فالفرق بين النقلة التاريخية الحالية والمراحل التاريخية السابقة؛ هو أنَّ الدول التي مثلت الشيعة تاريخيًّا كانت نتاج ثورات قامت لمظالم أو كمناكفة وثارات متناحرة ضد دول وممالك أهل السنة تحديدًا. كما كانت تسيطر على مجتمعات أغلبيتها من “السنة”، رغم استمرار القطيعة مع بقية مكونات الأمة؛ كما كانت في أغلبها دولًا تميل إلى الشدة والبطش بالآخر كحال أي مستضعف مضطهد حين تمكنه من السلطة، مع اعتبار التحيزات التاريخية في روايات الخصوم.
ولكن الصورة تبدو مختلفة هذه المرة بعد قيام جمهورية الثورة في إيران ـولأول مرةـ ضد الشاه كإمبراطور شيعي علماني مُوالٍ للغرب، إذ تفردت الشيعة بدولة مركزية وأذرع متحالفة في محاكاة لصورة مصغرة من الخلافة السنية التي قامت في مجتمعات متعددة الطوائف والمذاهب، ولذلك صارت إيران تجمع وتقبل بقية الكتل الشيعية كالنصيرية والدروز والإسماعيلية وغيرهم، رغم مناقضتها اعتقاديًّا، كما وجدت نفسها -لأول مرة أيضًاـ في خصم التصدي لبعض قضايا الأمة “كالقضية الفلسطينية” وليست قضية الشيعة فحسب، والصدام مع أعداء وخصوم الأمة جميعًا رغمًا عنها.
ويمكننا اعتبار أنَّ الشيعة قد وقعوا في “مصيدة الدولة” بما يشبه “الخلافة الشيعية”، والتوسع ولو رغما عنهم ولو لمصلحتهم في النهاية، ولكنه حكم الصدارة، كما انقلبت آية المظلومية بكل سوداويتها وحقدها أيضًا هذه المرة؛ فقد صارت لأهل السنة في العراق وسوريا وغيرها، ولها مشروعيتها وثأرها المستحق!
تفوق الكيان والخطر الوجودي!
تسيطر دولة الكيان اليوم على أغلب العواصم والأنظمة العربية، في احتلال ثقافي واقتصادي وسياسي تجاوز حد التطبيع إلى التحالف الكامل المعلن منه وما خفي أعظم، بالإضافة إلى الاحتلال والتهديد العسكري الشامل لعدة مناطق من بلاد العرب!
والمشكلة في تفضيل البعض لانتصار العدو الصهيوني بزعم أنَّ الشيعة أكثر كفرًا وإجرامًا منهم -وهو من أعجب العجب- كما أنَّه قلب كامل لحقائق الشرع، وهو إشكال وجودي يشكك في “ولاء أو عقول” كل من يتولى كبر التعظيم من خطر الشيعة والتهوين من خطر الصهاينة والصهيونية، ولا أعني به البعد الديني والاعتقادي فقط، والذي نجحت دول الخليج -خلال عقود- في عكس هذا المنطلق وتوجيهه ضد فرقة من المسلمين وإن ساعدت هي أيضًا بتجاوزاتها على ذلك.
لكن الإشكال الوجودي هو في تغييب خطر الصهيونية كمشروع عالمي عابر للأمم، دشنته كل بريطانيا ودعمته دول أوروبا والكتلة الغربية وأمريكا وروسيا، وتتحالف معه الهند ولا تمانع من وجوده الصين وغيرها! وكل هذا ضد فئة وحيدة من البشرية، وهي الأمة المسلمة فقط!
وما كنا لنظن -وربما أجيال كثيرة قبلنا- أن تخفى هذه الحقيقة، أما وقد أصبح الأمر كذلك، فلا بُدَّ من وقفة حاسمة؛ لأنَّ الاختراق الصهيوني لم يعد يقتصر على الاختراق من القمة حيث الحكام والأنظمة فحسب، بل تعداه إلى اختراق القاعدة الاجتماعية والإسلامية!
وختامًا؛ فإنَّ أعظم ما يهدد المنهج السني اليوم ليس هي فزاعة التشيع ولا التغول الإيراني كما يزعم البعض، وإنما هو هذا التفكك الداخلي في فهم أصول السنة ذاتها، حين تُجتزأ من سياقها، وتُستعمل ضد بعضها بعضًا، وتُسلّم لأهواء عتاة الساسة وتيارات الكراهية، وبينما تتعاظم السيطرة الصهيونية على مفاصل القرار العربي والإسلامي، نجد من لا يطيق خلافًا مع المنتسبين جملة للإسلام فضلًا عن إدارة ذلك الخلاف، لكنه يطبع قلبه ولسانه مع العدو الوجودي، ويكأنهم لم يقرأوا قول الله ﷻ: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).
فهل آن لأهل السنة أن يراجعوا موقع أقدامهم، ويعيدوا ترتيب أولوياتهم، ويستعيدوا منهجهم قبل أن يصبح اسمها مجرد واجهة لاستراتيجية الهزيمة والانقسام، أو يصبح من الماضي حين ترث بعض الفرق المخالفة إرثها وتراثها!