استراتيجيعسكريمقالات

اختلاف قواعد اللعبة: الصراع الإيراني الإسرائيلي من منظور نظرية الألعاب الفائقة

تشهد الساحة الإقليمية تصعيدًا غير مسبوق في المواجهة بين إسرائيل وإيران، فبعد تصاعد التصريحات بين الطرفين بالتزامن مع وصول المفاوضات الإيرانية الأمريكية لطريق مسدود، والإجراءات الأمريكية بإعلان حالة التأهب القصوى في جميع القواعد الأميركية بالمنطقة وإخلاء عائلات الجنود، جاء الهجوم الجوي الإسرائيلي على إيران، والذي طال مئات المواقع والأهداف النووية والعسكرية والبنى التحتية المدنية، مخلّفًا خسائر كبيرة في صفوف قيادات الصف الأول للحرس الثوري والجيش والقوة الجوية فضائية، أبرزهم “حسين سلامي” قائد الحرس الثوري، ورئيس الأركان “محمد باقري”.

الضربات الإسرائيلية تمثل تطورًا كبيرًا في حجم ونوع الاستهداف، فما بدأ قبل نحو عامين كمواجهات غير مباشرة تطور تدريجيًّا لحرب مفتوحة تجاوزت قواعد الاشتباك التي حكمت المواجهة بين الطرفين طويلًا، وهو ما يفرض تساؤلات حول تصور القوتين عن الحرب وطبيعة استعداداتهما على مستوى التخطيط الاستراتيجي.

من منظور نظرية الألعاب الفائقة (Hyper Game Theory)[1]، لا تكمن خطورة التصعيد في حجمه وآثاره فقط، بل في تباين تصورات طرفي النزاع حول طبيعة اللعبة نفسها، ففي الصراعات المعقدة وفي بيئات التنافس الاستراتيجي يمثل البعد الإدراكي الجزء الأخطر من المعركة، وهو ما سيناقشه هذا المقال؛ إذ تشير معطيات المواجهة القائمة إلى أنَّ كلًا من تل أبيب وطهران تنطلقان من فرضيات وتصورات مختلفة في إدارة الصراع، وبالتالي يخوض كل طرف الصراع بقواعد مواجهة، وأدوات ردع، وغايات اشتباك مختلفة.

عرّف اللعبة قبل أن تخوضها

هل تخوض إيران ودولة الاحتلال نفس المواجهة؟ قد يبدو هذا التساؤل غريبًا أو بديهيًّا للوهلة الأولى، لكنه أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث يُسلط الضوء على قضية التباين المعرفي أو الإدراكي الذي يحكم سلوك الطرفين في إدارة الصراع، والذي يعكس فهمهم لها: ما حدودها؟ ما أهدافها؟ وما نهايتها الممكنة أو المطلوبة؟

فهل يفهم المسؤولون الإيرانيون المواجهة الحالية كما يفهمها نظراؤهم الإسرائيليون، هل هي مواجهة متكررة أم نهائية؟ هل هي جزء من سياق أكبر (المفاوضات النووية) أم أنَّ لها سياقها الخاص؟ هذه الأسئلة تحكم ردود الفعل وإجراءات الردع والتخطيط الحربي والسياسي.

في نظرية الألعاب الفائقة لا يقتصر تحليل الصراع على موازين القوة، وإنما يتعداها إلى فهم طبيعة اللعبة (الصراع) نفسها، وتصورات اللاعبين عن بعضهم، وبالنظر في وقائع المواجهة الحالية بين تل أبيب وطهران منذ 7 أكتوبر 2023، نجد أنَّ هناك تباينًا واسعًا بين تصورات الطرفين للمواجهة، فبينما تسعى إيران إلى احتواء ارتدادات عملية “طوفان الأقصى” التي فجرت المواجهة الحالية، تسعى دولة الاحتلال لاستثمارها للتأسيس لحالة جيوسياسية جديدة.

تدير طهران الصراع الحالي بمفاهيم استراتيجية أطَّرت أمنها القومي لعقود، مثل مفهوم الصبر الاستراتيجي، الردع المركب، والمقاومة النشطة[2]، وهي كلها مفاهيم تؤسس لحالة المواجهة المحكومة أو مواجهة ما دون الحرب المفتوحة، كما تعتمد طهران على الخطاب والاستراتيجيات الإعلامية كسلاح أساسي في المواجهة والردع. ولم تطرح الأوساط الفكرية والأمنية الإيرانية أي تصورات أو نظريات للحرب الشاملة؛ إذ تتمحور معظم الأدبيات في هذ الحقل حول الاستراتيجية الكبرى للجمهورية الإسلامية التي تسعى للتحول لقوة نووية، عبر تفادي المواجهة المباشرة، واعتماد أدوات الردع غير المتماثل والحرب بالوكالة، في إطار صراع طويل النفس يدار تحت سقف الاحتواء.

في الاستراتيجية الإيرانية يشكل الوقت عامل قوة، إذ تبحث طهران عن المواجهات المطولة لاستنزاف العدو وإنهاكه وكشفه، بالإضافة لبناء قدراتها وتحالفاتها وتوسيع نطاق حضورها إقليميًّا، في حين يمثل الوقت عامل ضعف للدولة اليهودية التي تعيش في بيئة معادية ويتملكها شعور دائم بالقلق، وهذا الإحساس المتجذر بالهشاشة يدفعها دائمًا للسعي للحسم السريع والقضاء على خصومها وحسم معاركها بشكل نهائي، فالوقت هنا لا يحمل الفرص كما في الحالة الإيرانية وإنما التهديدات، وقد مثلت عملية طوفان الأقصى تهديدًا فاجعًا زاد من هذا القلق ودفع دولة الاحتلال لتسريع عمليات التفكيك والحسم التي تجريها في محيطها، فالتصور الإسرائيلي أنَّ الدولة دخلت في سباق مع الزمن منذ الدقائق الأولى لعملية السابع من أكتوبر.

لعبة الاحتمالات، واختلال موازين الردع

يشير السلوك الإيراني في التعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية إلى افتراض طهران أنَّ اللعبة (المواجهة) غير صفرية، متكررة (Iterated Non-Zero-Sum Game) بمعنى أنَّها مواجهة تتألف من جولات وتقوم على حسابات ردع يمكن فيها إدارة التصعيد وضبطه، بل وتحقيق مكاسب تفاوضية من خلال الضربات المدروسة، وبالتالي فالاحتمالات تصبح مفتوحة في الاتجاهين، إما تطور الأحداث لمواجهة شاملة أو احتواء الصراع في إطار عمليات الردع وإحراز النقاط.

 ومن هذا المنطلق فإنَّ القيادة الإيرانية تراهن على الوقت والتحولات في السياق الإقليمي والدولي وتفترض أنَّ هناك سياقًا أشمل تجري فيه هذه المواجهات وهي المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، وبالتالي فهي تلعب لعبة الشد والجذب وتطبق مفاهيم الصبر الاستراتيجي ولعبة الردع التقليدية.

إنَّ افتراض القيادة الإيرانية أنَّ المواجهة قابلة للاحتواء، وأنَّ بإمكانها استيعاب الضربات دون تقويض النظام، وأنَّ العدو يخوض لعبة تفاوض عبر النار، وبالتالي لا بأس من الرد الموضعـي المحسوب الذي يتيح لها العودة للمسار السياسي والتفاوضي.

 إنَّ هذا الافتراض يقلل من حساسيتها تجاه تحركات تل أبيب على رقعة الحرب ومعنى وأثر الضربات التي تنفذها، فالتصور أنَّ هناك مجالًا لتجاهل تبعات 7 أكتوبر على السلوك الإسرائيلي أو إمكانية التأثير عليه عبر الضغط الدولي أو المفاوضات مع الولايات المتحدة يعني أنَّ طهران تخوض لعبة غير تلك التي تخوضها القيادة الإسرائيلية، ما يؤثر حتمًا في موازين الردع ونتائج المواجهة النهائية، ويشير لورنس فريدمان في كتابه “الردع” إلى هذا المفهوم بقوله: الردع ليس مجرد مسألة قدرات، بل مسألة إدراك. إذا اعتبر أحد الطرفين الضربة تكتيكية، بينما اعتبرها الآخر وجودية، تنهار معادلة الردع.

على الطرف الآخر تلعب تل أبيب لعبة مختلفة تمامًا، لعبة صفرية، نهائية، أحادية الجولة (One-shot Zero-Sum Game)، أي أنَّها صراع لا يحتمل التكرار، ولا تقبل فيه “النتائج المؤقتة”، فهي تقرأ هذه المواجهة من زاوية تاريخية وتعتبر نفسها في مرحلة “كسر التوازنات القديمة”، وتتعامل مع ما بعد 7 أكتوبر كلحظة تأسيس جديدة تعيد من خلالها تشكيل البيئة الإقليمية ورسم مجالها الحيوي “شرق أوسط ما بعد الردع”، وبالتالي فإنَّ الهجمات مثل تلك التي طالت قلب المؤسسة العسكرية الإيرانية وبنيتها التحتية وكوادرها النووية ليست أدوات ضغط تفاوضي، بل خطوات في مسار حرب استباقية لتفكيك بنية العدو وليس فقط ردعه.

اللعبة الخطأ: إيران في مواجهة مشروع التأسيس الإسرائيلي

يشرح توماس شيلينج في كتابه “استراتيجيات الصراع” أنَّ “الخطأ الأخطر في المواجهات الاستراتيجية ليس في تقدير إمكانات العدو، وإنما في تحديد طبيعة وماهية اللعبة التي يخوضها”، هذا الاقتباس يصف المشهد الحالي للصراع بين إيران ودولة الاحتلال، حيث لا تكمن المعضلة في موازين القوة الصلبة، بل في اختلاف جذري في إدراك كل طرف لماهية الصراع نفسه.

في الصراع بين دولة الاحتلال وإيران، نحن لا نشهد مجرد تصعيد عسكري أو تبادل ضربات، بل تصادمًا بين نموذجين استراتيجيين متناقضين في فهم الحرب، أحدهما يبحث عن عكس مسار “ما بعد 7 أكتوبر”، والآخر يبحث عن بناء شرق أوسط جديد. في ظل هذا التباين الكبير في تعريف اللعبة تبرز أسئلة مهمة حول صراع الإرادات بين الطرفين، فهل تستطيع طهران التمسك بنهجها الحالي والمفاهيم التاريخية التي حكمت أمنها القومي والاستمرار الوقت الكافي لإفشال لعبة تل أبيب، أم إنَّ عنصر الوقت لم يعد في صالح طهران في هذه المواجهة، أي أنَّه مهما تحملت طهران من ضربات ومهما أجرت من مفاوضات وعولت على التحول في السياق الإقليمي، فإنَّها ستجد نفسها مرغمة على خوض لعبة الدولة اليهودية لإعادة تشكيل المنطقة.

لقد أظهرت دولة الاحتلال خلال عامين من المواجهة المتصاعدة، نمطًا استراتيجيًّا متسقًا يقوم على ما هو أبعد من تفكيك التهديدات الحيوية المباشرة، فالاستراتيجية الإسرائيلية لا تبحث عن الردع أو حتى ما يعرف بالهيمنة الاستباقية، وإنما عن إعادة التأسيس عبر استهداف محيطها الإقليمي أمنيًّا لإعادة تشكيله وإعادة رسم العلاقة معه، وقد شكلت تحركاتها العسكرية بدءًا من رفح على حدود مصر ومحور فيلاديلفيا إلى احتلال الأراضي السورية واللبنانية وصولًا إلى استهداف المنظمات الإنسانية والدولية، الإجراءات الافتتاحية لهذه الرؤية، فضلًا عن تصاعد اقتحامات المسجد الأقصى وسياسات التهويد في الخليل والقدس وتوسع الاستيطان في المنطقة.

إنَّ هذا السلوك يشير بوضوح إلى أنَّ تل أبيب لا تتعامل مع الصراع كحالة مواجهة محدودة أو ظرفية، وإنما كحالة تأسيسية كاملة تستهدف المحيط الإقليمي الأوسع أمنيًّا، بل وتتجاوزه إلى المستوى الدولي سياسيًّا؛ حيث تشكل حالة التصادم مع القانون الدولي والمؤسسات والأعراف الدولية والاتفاقيات والتفاهمات التاريخية بُعدًا آخر لعملية التأسيس.

إنَّ معضلة القيادة الإيرانية لا تقتصر على سوء فهم اللعبة التي تخوضها فقط، بل على ما يترتب عليه من اختلال في السلوك الاستراتيجي، فحين يخطئ طرف في تعريف طبيعة اللعبة، يصبح كل قرار لاحق استثمارًا في الوهم، لا في الواقع، ما يؤدي إلى تراجع القدرة على الإحساس بالخطر وتصنيفه، والانهيار التدريجي في القدرة على السيطرة والاستجابة للمهددات.

  1. نظرية الألعاب الفائقة هي فرع من فروع الرياضيات التطبيقية والعلوم الاجتماعية لدراسة سلوك الفاعلين، وهي امتداد معرفي لنظرية الألعاب الكلاسيكية، وتدرس نظرية الألعاب الفائقة المواقف التنافسية عندما تكون الصور الذهنية (perceptions) لدى الأطراف غير متماثلة، بعبارة أخرى تدرس النظرية قضية الإدراك المتبادل للاعبين.
  2. الردع المركب هو مزيج من الردع عبر الوسائل التقليدية مثل الأسلحة النوعية (القدرات الصاروخية والدفاع الجوي) وغير التقليدية مثل الحلفاء من مجموعات ما دون الدولة مثل حزب الله والحوثي والحشد الشعبي، أما المقاومة النشطة فهي تعني الاستجابة للتهديدات بشكل فعال واعتماد ضربات محسوبة، ولكن بنية إرسال رسالة.

 

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى