هل ينفد الصبر الاستراتيجي لإيران؟
أكملت إسرائيل تقويض الهيكل القيادي للقوات الإيرانية في سوريا عبر ضربات نوعية متتالية في أربعة شهور فقط أمام أعين طهران، وحطمت العقدة الاستراتيجية في الشبكات الإيرانية، والتي لا يقتصر نشاطها على سوريا إنَّما يمتد إلى لبنان وصولًا إلى الضفة الغربية، ولذا شملت تصفية الشيخ صالح العاروري لمركزيته في التنسيق مع طهران في مشروع تسليح الضفة عبر طرق إمداد وتهريب برية للأسلحة تبدأ من العراق وسوريا مرورًا بالأردن لتنتهي في جنين ونابلس وأخواتهما.
فبعد استيعاب صدمة طوفان الأقصى بدأت الهجمات الإسرائيلية المكثفة في ديسمبر 2023 باغتيال العميد رضي موسوي مسؤول وحدة “دعم جبهة المقاومة في لبنان وسوريا” في الحرس الثوري بغارة جوية على منزله في دمشق، فضلًا عن اغتيال العقيدين بالحرس الثوري محمد شورجه، وبناه تقي زادة، وتصفية الشيخ صالح العاروري رفقة عدد من معاونيه في قصف مكتبه بالضاحية الجنوبية في بيروت.
لم تكد طهران تستفيق من ضربات ديسمبر، إلا وتعرضت لضربة ثقيلة في يناير 2024 عبر اغتيال “حُجّت الله أميدوار” قائد استخبارات فيلق القدس في سوريا رفقة أربعة من مساعديه بقصف مقر تواجدهم في دمشق. ثُمَّ اغتيل “سعيد دادي “مستشار الحرس الثوري إثر غارة على دمشق في يناير، ثُمَّ في مارس اغتال الطيران الإسرائيلي المستشارين العسكريين بالحرس الثوري “رضا زارعي” في غارة على بانياس، و”بهروز واحدي” في غارة على مدينة دير الزور.
وأخيرًا جاءت الضربة القاصمة في اليوم التالي لتحطم طائرة مسيرة انطلقت من العراق داخل القاعدة البحرية الإسرائيلية في إيلات، حيث قُتل في مطلع أبريل قائد فيلق القدس في لبنان وسوريا العميد محمد زاهدي ونائبه العميد محمد رحيمي، ومدير مكتبه ورئيس أركانه حسين أمان الله، فضلًا عن أربعة آخرين من مساعديه بقصف مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق.
تفكيك الشبكة
في التحليل الأمني تتكون الشبكات من أفراد وصلات بين الأفراد. ويطلق على الأفراد “العُقد” بينما يطلق على الصلات بين العقد وصف “الروابط”. ويمكن تفتيت الشبكة الواحدة إلى شبكات فرعية في حال استهداف العقد الرئيسية، أو بتعبيرات أكثر سلاسة يمكن القضاء على الأخطبوط عبر استهداف رأسه، بدلًا من الانشغال بقطع أذرعه المتعددة، وهذا ما تفعله تل أبيب.
إنَّ اغتيال قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان رفقة معاونيه، واغتيال قائد استخبارات فيلق القدس رفقة معاونيه، واغتيال مسؤول اللوجستيات في أربعة أشهر يعني تقويض أهم ثلاث عقد في الشبكات الإيرانية بسوريا ولبنان. وهي عقد لا يسهل تعويضها، إذ راكم أفرادها خبرة ميدانية وعلاقات على مدى عقود مع المجموعات العاملة تحت إشرافهم. فالجنرال زاهدي على سبيل المثال انضم للحرس الثوري في عام 1980 ثُمَّ تولى قيادة قاعدة “ثأر الله” التابعة للحرس، والمسؤولة عن أمن العاصمة طهران، ثُمَّ قاد القوات الجوية بالحرس، وأخيرًا قاد القوات البرية بالحرس بين عامي 2004 و2007 قبل أن ينتقل للإشراف على القوات الإيرانية في سوريا ولبنان، وهو ما يعني أنَّ تصفيته بخرت خبرة تشكلت على مدى 45 عامًا. فإذا أضفنا لذلك تصفية نائبه في ذات الهجوم، وفريقه المساعد، فهذا يعني حدوث فراغ قيادي وعملياتي يتطلب وقتا طويلا لسده.
وفضلًا عن تصفية الهيكل القيادي العسكري الإيراني في سوريا، فقد جاءت الضربة الأخيرة في وضح النهار ضد مبنى رسمي تابع للقنصلية الإيرانية، تقول إسرائيل إنَّه يُستخدم كمركز قيادة لعمليات الحرس الثوري، ولتمثل تحديًّا علنيًّا إسرائيليا للقيادة الإيرانية، واستخفافًا بها وبصبرها الاستراتيجي، وتغييرًا لقواعد اللعبة التي يبدو أنَّ طهران لم تستوعب بعد ما استجد عليها بعد طوفان الأقصى.
الصبر الاستراتيجي
لقد خرجت طهران من حربها الطويلة مع العراق (1980-1988) بخلاصة مفادها تجنب خوض أي حرب مباشرة مع دولة أخرى لفداحة الثمن، والعمل وَفق نموذج الشبكات لبناء خط دفاعي متقدم يبدأ من بيروت ويمتد إلى صنعاء، من أجل نقل محاور القتال بعيدًا عن الداخل الإيراني وَفق نظرية “الدفاع المتقدم”. ولذا رفض مرشد الثورة علي خامنئي خوض حرب ضد حركة طالبان بعد مقتل عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين إثر اقتحام القنصلية الإيرانية في مزار الشريف في عام 1998، فيما ازداد نشاط فيلق القدس في دول الجوار، واستثمرت طهران الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 لمد نفوذها إلى بغداد، ثُمَّ استثمرت صعود تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش” في تأسيس الحشد الشعبي بالعراق وترسيخ نفوذ المليشيات الموالية لها، كما استثمرت الثورة السورية في تحويل الشام إلى ساحة تلاقي وتأهيل للمليشيات الموالية من العراق وأفغانستان “فاطميون”، وباكستان “زينبيون”، كما استثمرت الثورة اليمنية في ترسيخ نفوذ حركة “أنصار الله”، فضلًا عن تقديم الدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حماس والجهاد، لتكتمل حلقة النار المحيطة بإسرائيل مع حزب الله اللبناني الكيان الأبرز في الشبكات الإيرانية.
وبالتوازي مع ما سبق، عملت طهران على المضي قدمًا في برنامجها النووي، وتطوير قدراتها في مجال التصنيع المحلي للصواريخ البالستية والطائرات المسيرة، فضلًا عن تصنيع منظومات دفاع جوي وسفن قتالية بحرية، وهو ما كثفته مؤخرًا، فمنذ بداية عام 2024 أعلنت انضمام البوارج “أبو مهدي المهندس” “صياد الشيرازي” و”حسن باقري” للخدمة، وتدشين منظومة “آرمان” المضادة للصواريخ الباليستية، ومنظومة “آذرخش” للدفاع الجوي، وتزويد بعض السفن بأنظمة إطلاق صاروخية بالستية يصل مداها إلى 1700 كيلو متر.
تعلن طهران أنَّها تهدف لإخراج الولايات المتحدة من غرب آسيا، وهو ما سيكفل لها حال تحقيقه أن تصبح اللاعب المهيمن على المنطقة، كما تسعى لتعزيز علاقاتها مع موسكو وبكين لموازنة قوة واشنطن ضمن سياسية “التوجه شرقًا”، ولتحقيق الهدف المذكور تعمل على تطوير قدرات شبكاتها العديدة ومدها بأسلحة متطورة مثلما هو الحال لدى حزب الله الذي أصبح يمتلك ترسانة من الصواريخ الدقيقة.
ترى طهران أنَّ نهج اقتناص الفرص وخوض الصراع بالنقاط هو الأنسب لتحقيق أهدافها، مع المحافظة على “صبرها الاستراتيجي”، وتجنب خوض حرب مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، لأنَّها ستكون حربًا مدمرة لنفوذها، وقد تنتهي بإسقاط نظام الحكم نفسه في طهران، والذى ترى واشنطن أنَّ وجوده مهم لضبط التوازنات الإقليمية ودفع دول الخليج للارتماء في الحضن الأمريكي والإسرائيلي طلبًا للحماية، وهي سياسة بريطانية قديمة عبر عنها المعتمد السياسي البريطاني بالبحرين الميجر ديكسن في عام ١٩٢٠ قائلًا: “جزيرة عرب وسطى قوية يحكمها ابن سعود، وهو مرتبط بأشد العلاقات الودية مع الحكومة البريطانية، تكون ملائمة لسياستنا كل الملاءمة، إنَّها ستحسم الكثير من المصاعب، وفي الوقت نفسه تجعل كل الدويلات الساحلية معتمدة علينا أكثر مما هي عليه الآن. الكويت والبحرين والساحل المهادن وعمان والحجاز وحتى سوريا سوف تعيش كلها في هلع من جارها القوي، وتكون أكثر انصياعًا لرغبات حكومة الجلالة مما هي عليه اليوم”، فما تغير منذ ذلك الوقت هو حلول طهران محل الرياض، وواشنطن محل لندن.
وفي سبيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية تتحمل طهران الضربات الأمريكية والإسرائيلية كما تعيد التموضع عند المنعطفات الخطيرة، مثلما تجلى في ردها بسقف منخفض على اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في عام 2020، وفي إجبارها مؤخرًا المليشيات العراقية على وقف هجماتها على القوات الأمريكية في سوريا والعراق بعد مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في هجوم نفذته بالأردن، وهو الهجوم الذي استدعى رد أمريكي عنيف طال أكثر من 80 هدفًا للمليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا.
مفترق طرق
إنَّ طوفان الأقصى لم يجرف فقط نظرية الأمن الإسرائيلية، لكنه أعاد تشكيل النظرة الإسرائيلية لدور طهران، وضرورة التعامل معها بشكل مختلف لتدفيعها ثمن دعمها لجماعات المقاومة الفلسطينية، وهو ما انعكس على تغيير قواعد اللعبة واستهداف عقد الشبكات الإيرانية.
لم تبدأ إسرائيل في كسر الخطوط الحمراء دفعة واحدة، فبدأت بجس رد الفعل الإيراني، وعندما وجدته يقتصر بعد اغتيال العميد رضي موسوي على قصف ما وصفتها طهران بأنَّها مقرات للموساد في كردستان العراق، مما أسفر عن مقتل الملياردير الكردي بيشرو دزيي رفقة زوجته وابنته بقصف منزله، تشجعت تل أبيب على مواصلة وتعميق هجماتها، إذ لم يمس الرد الإيراني أحدًا من مواطنيها أو مصالحها الحيوية، ولذا ثنته باغتيال “حُجّت الله أميدوار” وفريق معاونيه، ثُمَّ زاهدي ومعاونيه، وربما تطال إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس نفسه في المرة القادمة أو غيره من كبار المسؤولين.
إنَّ طهران أمام مفترق طرق، فإما أن تكمل في سياسة الصبر الاستراتيجي، وتتحمل الضربات الإسرائيلية للحفاظ على مكتسباتها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وإما أن تسعى لاستعادة الردع عبر ردود تجعل تل أبيب تراجع حساباتها، لكن يعرقل ذلك خشية إيران من أن تنجر لحرب واسعة تعتبر أن نتنياهو يحاول جذبها لها لتحطيم القدرات الإيرانية بما فيها المشروع النووي، وصولًا إلى تهديد بقاء النظام ذاته، على اعتبار أنَّ واشنطن ستتدخل بشكل مباشر دعمًا لإسرائيل، بينما لا يوجد حليف قوي سيتدخل دعمًا لإيران.
إنَّ طهران ينتظرها تهديد آخر جوهري بعد أقل من سنة، وهو عودة ترامب مجددًا للبيت الأبيض، إذ يهدد ويتوعد منذ الآن باستخدام سياسة الضغط الأقصى مجددًا، كما أنَّه اغتال سابقًا قاسم سليماني دون أن يعبأ برد الفعل الإيراني. ولذا قد تتحطم الجهود والمكتسبات الإيرانية على صخرة قرارات ترامب المفاجئة وسياساته.
إنَّ إيران اليوم أمام استحقاق يتعلق بقطع أذرعها في سوريا وخطر فقدانها الجسر البري الواصل إلى لبنان، وإعادة هندسة المنطقة إسرائيليًّا بما يجعلها تنكفئ على نفسها، وحينها سيسهل تحريك ملفات الأقليات الكردية والبلوشية والأحوازية لإثارة الفوضى الداخلية، وإشغال النظام بملفاته المحلية، أو البديل وهو أن تتخلى عن نمط التهديدات الكلامية والضربات الاستعراضية التي تستهدف كردستان، ليكون الرد بنفس مستوى الصفعات الإسرائيلية، وذلك لإعادة رسم الخطوط الحمراء، وهي معادلة حساسة يمكن أن تقود لتصعيد وحرب أوسع، لكن دونها ستدفع إيران أثمانًا كبيرة، ولن تتوقف إسرائيل عند حد معين.
إنَّ الفترة القادمة حرجة في رسم حدود النفوذ الإيراني في المنطقة؛ وسيُختبر هل تحول الصبر الاستراتيجي إلى هدف بذاته بدلًا من أن يقود طهران نحو تحقيق أهدافها. وهل ستملأ أطراف أخرى الفراغ الإيراني المحتمل حدوثه أم سُيُكتفى بتقويض نفوذ طهران دون المساس بأمن النظام داخليًّا، وهي ملفات تتداخل فيها نتائج الانتخابات الأمريكية بسياسات حكومة نتنياهو مع ردود الفعل الإيرانية على وقع طوفان يبدو أنَّ ارتداداته ستكون عميقة على المنطقة.