نظرة أعمق لأسباب الحراك في إدلب
في تونس؛ قبل الربيع العربي بقليل، سجلت الإحصاءات الحكومية نسباً عاليةً من أصحاب الشهادات والمتعلمين مقارنة بالأميين، فكان ذلك مصدر طمأنينة للسلطة، وظن زين العابدين بن علي أن الشعب سيكون ممتناً لاهتمامه بالتعليم ودعم المرافق التربوية وبناء المدارس والجامعات وما إلى ذلك من المراكز الثقافية، لكن ما حصل في الواقع هو العكس تماماً، إذ انفجرت الثورة أواخر 2010، وكان وقودها وحطبها هم الشباب الجامعيون الذين استفادوا من دعم النظام لسلك التعليم، وأصحاب الشهادات الذين ما كانوا ليحصلوا على شهاداتهم لولا فرص التعليم التي صنعها نظام ابن علي في مراكز البلاد التونسية وأطرافها.
فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا تمرد هؤلاء رغم جهد السلطة في تعليمهم ورفع الأمية عنهم؟ وما الذي جعلهم يقفون في مقدمة المتظاهرين وهم يمثلون الطبقة المثقفة والواعية في تونس؟
رغم أن المشهد يبدو متناقضاً لأول وهلة، إلا أنه منطقي جداً إذا أردنا قراءته بقواعد علم الاجتماع. متى تبدأ الشعوب بالمطالبة بحقوقها؟ تبدأ بذلك عندما تعرف هذه الحقوق، عندما تبلغ مستوى من العلم والثقافة والوعي يجعلها تدرك واجب السلطة تجاه الشعب، وتدرك أبعاد السياسة وحقيقة العقد الاجتماعي الذي ينبغي أن يكون بين الحاكم والمحكوم.
في أوروبا مثلاً، رغم أن الفقر والاضطهاد والطبقية هي العوامل التي سعرت الثورة الفرنسية سنة 1789م، إلا أن الثورة ما كانت لتحدث لولا تشكل وعي جديد وظهور مجموعة من المفكرين الذين انتقدوا الكنيسة والطبقية وكشفوا عوارها وفضحوا عيوبها ونادوا بحقوق إنسانية للمواطن الأوروبي. إذاً لقد كان تشكل نواةٍ مثقفة في أوروبا وواعية هو العامل الأساس في التغيرات الاجتماعية التي حصلت بعد ذلك، وما تخللها من ظهور طبقة اجتماعية جديدة، بمفاهيم جديدة.
إن وجود وسائل المعرفة والاستقرار تجعل الطبقة المحكومة واعيةً بحقوقها، فإن كانت الطبقة الحاكمة رشيدة فإنها ستسمح لها بالمشاركة في السلطة وأخذ هذه الحقوق سلماً، وإلا فإنها ستُفجِّر انتفاضة عارمة وتفرض نفسها كطبقة جديدة حاكمة. وهذا ما حصل في تونس تحديداً، لقد صنع ابن علي طبقة واعية ومتعلمة لكنه لم يوفر لها فرص العمل التي تحتاجها ولا البيئة السياسية المتحررة التي تعبر فيها عن آرائها.
فماذا تنتظر من رجل متعلم ومثقف يعتبر نفسه من علية القوم ثم لا يجد عملاً يقتات منه أو لا يُسمح له بالتعبير عن رأيه أو لا يتبوأ منزلته الطبيعية في ميدان السياسة؟!
إدلب: تنمية دون رؤية
ما حصل في إدلب قريبٌ من هذا، إذ أنهت هيئة تحرير الشام -بعد مخاض عسير- الفصائليةَ والفوضى وأسست حكومة الإنقاذ، وانتقلت المنطقة إلى أجواء من الاستقرار ودعم التعليم والتجارة والتنمية الاقتصادية والحوكمة، وظهرت الطرق الدولية والمشاريع الاقتصادية والجامعات والكليات والمعاهد والمشافي وتوسع العمران والبناء والاستثمار، واتضح أن المنطقة تؤسس لنواة دولة مزدهرة فاقت في كثير من الجوانب التجارب القريبة منها شمال شرق سوريا، بل فاقت نظام الأسد نفسه.
لكن هل سينقذ الإنجاز الحكومي المناطق المحررة من شبح الحرب؟؟ وهل ستُقنع المكتسبات الاقتصادية والتعليمية معارضي هيئة تحرير الشام وتُسكتهم؟
بالنسبة للسؤال الأول؛ بيَّنا في مقال سابق كيف أن الحرب في إدلب مؤجلة بسبب التوازنات الدولية لا غير، وأن هذه التوازنات متقلبة، فبمجرد انتهاء الحرب الأوكرانية قد تعود روسيا إلى سوريا بعزيمة أصلب وقوة أكبر، وإن عدم أخذنا بالمبادرة الآن ستكون ضريبته غالياً في المستقبل.
أما إجابة السؤال الثاني، فيظهر من الاحتجاجات التي يعيشها المحرر منذ ثلاثة أشهر أن شريحة واسعة من الناس أصبح يقودها السخط والغضب، وهي غير ممتنة للإنجازات الحكومية والاقتصادية.
وفي مشهد صارت فيه الحوكمة والمأسسة نقمةً على هيئة تحرير الشام أكثر من كونها نعمة تحمد عليها؛ أصبح الطلبةُ الذين وفرت لهم الهيئة فرص التعليم يهددونها بالإضرابات ويطالبون بحقهم في العمل مقارنة بخريجي جامعات الأسد، أما العاملون الذي قَدَّمت لهم فرص توظيف في مؤسساتها الخدمية أصبحوا يضغطون عليها بطلبات رفع الأجور، وعناصر الفصائل الذين نظَّمت نشاطهم في غرفة عمليات الفتح المبين أعادوا تصدير أنفسهم في احتجاجات مدنية ذات طابع سلمي تريد إسقاط الهيئة، والأكاديميون الذين أَنزلتْهم منزلة مرموقة في حكومة الإنقاذ صاروا الآن ينظمون المظاهرات ويطالبون بنفوذ أكبر في صناعة القرار.
ضريبة المأسسة
ما ينبغي أن تدركه قيادة المحرر، أن نجاحها في التعليم يحمل في طياته مسؤوليات عظيمة لتوفير فرص العمل، ونجاح السلطة في ضبط الأمن يقتضي جهوداً ضخمة لضمان الشفافية الإدارية وحرية الإعلام وحقوق التظلم، ونجاح المأسسة يتضمن واجبات أمام السلطة تتيح لمراكز الثقل في المجتمع والنخب الصاعدة المشاركة في صناعة القرار.
إذاً فطريق التصحيح يقتضي عدة خطوات لعل هيئة تحرير الشام تعهدت بتنفيذها مسبقاً من خلال الإصلاحات السبع التي أعلنت عنها، فأول إجراء للوقاية من تضخم البطالة بين أصحاب الشهادات هو الموازنة بين التنمية الاقتصادية والحركة التعليمية، وهذا يتطلب وضع رؤية وخطة للتعليم والاقتصاد على حد سواء، وتحديد الاحتياج الحقيقي في سوق العمل وتوجيه التعليم وفقاً لذلك.
ويمكن الاستفادة من التجربة الصهيونية في بناء الدولة، إذ اعتمدوا أول أمرهم على المعاهد المهنية والتخصصية والهندسية والتدريبية أكثر من الجوانب النظرية، فهذا ما يحتاجه الاقتصاد الناشئ، يحتاج المهندسين والحرفيين والمهن التطبيقية والتقنية أكثر من غيرها، أما التركيز على الجوانب النظرية مثل التاريخ واللغات والثقافة والأدب والتربية فسيكون سبباً في ازدياد البطالة بين أصحاب الشهادات، وسبباً في إرهاق الدولة لأنها ستكون مجبرة على توظيفهم في المؤسسات المحكومية المستهلِكة، ثم قد يكون هؤلاء وقود أي انتفاضة مرتقبة.
من جهة أخرى إذا ما توسع نفوذ السلطة -وهو ما حصل فعلاً في إدلب؛ فقد انتقل الأمر من صناعة قرار في تنظيم وحركة إلى صناعته في شعب ودولة- فهذا يتطلب تجديداً في عدة مستويات:
أولاً: مستوى صناعة القرار، وما يقتضيه ذلك، من فتح سبل الحوار والتشاور وإشراك دائرة أوسع من مراكز الثقل، وتنظيم آلية هذا الحوار بما لا يوقع الخلاف والفرقة، وفتح آفاق المعارضة المنضبطة، وقد يقود ذلك إلى أفكار جديدة مثل جدوى تشكيل الأحزاب، ووضع القوانين الانتخابية، والمؤسسات التشريعية، والدساتير. طبعاً مع مراعاة حالة الحرب وما تحتاجه من مركزةٍ في القرار، وسرعةٍ في مواكبة النوازل، وحفاظٍ على أسرار الدولة.
ثانياً: مستوى داعم صانع القرار، فما ذكرناه من خطط اقتصادية وتعليمية وإصلاحات في نظام الحكم، لا يمكن لفرد واحد أو مؤسسة واحدة أن تفعله، وهنا تكمن ضرورة إيجاد المؤسسات البحثية والاستشارية التي تقدم الدراسات والأبحاث والخطط لصانع القرار، ولا مناص من إيجاد المؤسسات الرقابية التي تتابع سير العمل وتتحقق من صحته وتعالج الانحراف وتقوِّم المسار.
وفي المحصلة، إن انفجار الأوضاع في إدلب وظهور الاحتجاجات، نتيجة متوقعة لمرحلة انتقالية عاشتها الثورة أخذت بها من حالة الفصيل إلى حالة الدولة، ومن ضيق التنظيم إلى سعة الشعب، ولا يمكن والحال كذلك أن تبقى مؤسسات صناعة القرار على سابق عهدها، لابد من تطوير الأفكار والعقليات أولاً، وتطوير المؤسسات والآليات والنظم ثانياً، لاستقبال هذه المرحلة الجديد، نسأل الله يجعلها رحمةً لشعب سوريا وخطوة نحو النصر المنشود.