فورين أفيرز: الوعد الكاذب بالقصف الاستراتيجي
من أوكرانيا إلى اليمن: أشكال جديدة من القوة الجوية تعيد تعريف الحروب ولكن لا تفوز بها

رفائيل كوهين.. مدير برنامج الاستراتيجية والعقيدة في مشروع القوات الجوية التابع لمؤسسة راند
بعد مرور ثلاث سنوات على بدء الحرب في أوكرانيا، أصبحت الحرب تُعرف بشكل متزايد بنوع معين من القتال، وهو القصف الاستراتيجي. فقد استهدفت روسيا باستمرار شبكة الطاقة في أوكرانيا وهاجمت المراكز السكانية بالقرب من خطوط المواجهة باستخدام صواريخ إسكندر وطائرات دون طيار إيرانية الصنع من طراز شاهد. وفي المقابل استخدمت أوكرانيا أنظمة صواريخ تكتيكية المصنوعة في الولايات المتحدة ومجموعة كبيرة من الطائرات دون طيار المنتجة محليًّا في قصف مستودعات النفط ومصانع الأسلحة داخل روسيا.
لقد تبعت الصراعات الأخرى الحالية نمطًا مماثلًا. فقد استخدم الحوثيون مجموعة من الطائرات دون طيار الهجومية أحادية الاتجاه والصواريخ الباليستية المضادة للسفن لمهاجمة الشحن الدولي في البحر الأحمر، بل وأرسلوا صواريخ باتجاه تل أبيب، على بعد أكثر من ألف ميل.
واعتمدت إسرائيل غالبًا على طائراتها الحربية للرد على الحوثيين، لكنها استخدمت أسطولها من الطائرات دون طيار لضرب أهداف في غزة ولبنان وسوريا، وهي تناقش علنًا ما إذا كانت ستستخدم المزيد من الصواريخ الباليستية والصواريخ المجنحة بدلًا من الطائرات المأهولة في المستقبل. كما برزت الضربات الصاروخية والطائرات دون طيار بشكل بارز في صراعات أخرى حول العالم، من الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في عام 2020، حول منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها، إلى الصراع في إقليم تيغراي في إثيوبيا.
وبمساعدة التقدم التكنولوجي في إنتاج الطائرات دون طيار والصواريخ، تمكنت الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية من تجميع قدرات هجومية لم تكن تمتلكها إلا الدول القوية في السابق. وعلى الرغم من السياقات المختلفة على نطاق واسع لهذه الصراعات، فقد استخدمت كافة الأطراف المتحاربة القصف الاستراتيجي لغرض مماثل: تدمير الروح المعنوية وإعاقة قدرة الخصم على شن الحرب.
ورغم أنَّ نظرية القصف الاستراتيجي ليست جديدة، فإنَّ الطريقة التي تُنفذ بها خضعت لتغيير جذري. فمنذ الأيام الأولى لاختراع الطيران العسكري، كان منظرو الدفاع مهووسين بالاقتراح البسيط المثير للاهتمام القائل بإنَّ القوة الجوية يمكن أن تفوز بالحروب بشكل مستقل عن طريق كسر الروح المعنوية وتدمير قدرة العدو على شن الحرب. ولا تزال هذه الفكرة حية اليوم. ولكن القصف الاستراتيجي يبدو مختلفًا للغاية الآن عما كان عليه قبل خمسين عامًا. فقد ولت أساطيل المئات من القاذفات التي تطير لإسقاط آلاف القنابل في الحرب العالمية الثانية وفيتنام. فحاليًّا يُطلق وابل من الطائرات دون طيار والصواريخ ضمن ضربات دقيقة تجاه الأهداف، والتي غالبًا ما تكون على مسافة كبيرة من مشغل القنبلة أو منصة الإطلاق.
قبل أقل من عقد من الزمان، كان استخدام إدارة أوباما لضربات الطائرات دون طيار كجزء أساسي من استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب يُعَد جديدًا ومثيرًا للجدل. أما الآن، فقد جعلت كل الجيوش تقريبًا -من القوى العظمى إلى الجماعات المسلحةـ الضربات بالطائرات دون طيار والصواريخ ركائز أساسية لحربها. لقد جعلت التكنولوجيا القصف أكثر سهولة، وهذا التغيير من شأنه أن يغير كيفية خوض الحروب وكيف تبدو الصراعات لعقود قادمة. لكنه لا يحل المسألة الأكثر جوهرية المتمثلة في الحرب الاستراتيجية. قد يؤدي القصف الدقيق بعيد المدى إلى تحويل وسائل خوض الحروب، لكنه لن يغير على الأرجح نتائجها.
Top of Form
Bottom of Form
وداعًا للطائرات القاذفة
على مدى ما يقرب من قرن من الزمان، ارتبطت الحرب الاستراتيجية إلى حد كبير بتكنولوجيا واحدة هي الطائرات القاذفة. وكانت الخيارات البديلة موجودة دائمًا – استخدمت ألمانيا الإمبراطورية المناطيد طراز زبلين في الحرب العالمية الأولى لإخضاع مدينة لندن، وطورت ألمانيا النازية صواريخ كروز V-1 والصواريخ الباليستية V-2 في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، أثبتت هذه التقنيات في الغالب أنَّها غير عملية للاستخدام على نطاق أوسع.
وعلى النقيض من ذلك، سمحت القاذفات للدول باستخدام وإسقاط كميات كبيرة من الذخائر بتكلفة زهيدة وفعالية نسبية، مما جعلها الأداة المفضلة للاستهداف الجوي. في البداية، وضعت الدول قاذفاتها بالقرب من ساحات القتال وغالبًا ما استخدمتها لإسقاط قذائف غير موجهة أو موجهة بشكل طفيف بالقرب من أهدافها. وأصبحت القاذفات في نهاية المطاف أكثر دقة، وخاصة بعد عملية عاصفة الصحراء الأمريكية في عام 1991، حيث احتلت الذخائر الموجهة مكانة بارزة. ولكن حتى في المراحل الافتتاحية لحرب العراق في عام 2003، كانت نحو ثلث الذخائر التي أسقطتها الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف لا تزال قنابل غير موجهة.
ولكن اليوم، ربما لم تعد القاذفات هي الخيار الرخيص والفعال كما كانت في السابق. ذلك أنَّ حجمها وبصماتها الرادارية تجعلها أكثر عرضة للدفاعات الجوية الحديثة. على سبيل المثال، فقدت روسيا ما لا يقل عن خمس من قاذفاتها الاستراتيجية وأكثر من مئة طائرة أخرى منذ غزوها الكامل لأوكرانيا، وذلك بفضل ضربات الطائرات المسيرة الأوكرانية والدفاعات الجوية.
كما أصبحت القاذفات أكثر تكلفة بكثير مما كانت عليه عندما تم استخدامها لأول مرة. ومن المعروف أنَّ الطائرة القاذفة الشبح B-2 Spirit، التي استُخدمت لأول مرة في تسعينيات القرن العشرين، تكلف حوالي 2 مليار دولار لكل طائرة. وستكون طائرة B-21 Raider الأحدث، التي لا تزال قيد الاختبار، أرخص، لكن لا يزال سعرها التقديري يتجاوز 700 مليون دولار. وقد تظل مثل هذه النفقات جديرة بالاهتمام، خاصة إذا كانت الطائرة المعنية قادرة على النجاة من الدفاعات الجوية للعدو، وإسقاط ذخائر رخيصة وقصيرة المدى. ولكن هناك حدود لعدد هذه القاذفات التي يمكن حتى للدول الغنية مثل الولايات المتحدة شراؤها ناهيك بتحمل خسارتها في الحرب.
ومع تقلص قدرة القاذفات على اختراق الدفاعات الجوية للعدو، لجأت الجيوش إلى طائرات دون طيار وصواريخ بعيدة المدى. وعلاوة على ذلك، وبفضل التقدم في الاستشعار والملاحة، لم تعد الجيوش بحاجة إلى وجود مشغلين بشريين بالقرب من الهدف لمهاجمته بشكل فعال. فالآن تُخاض الحروب بضربات طويلة المدى بطائرات دون طيار أو صواريخ، بما في ذلك في أوكرانيا والشرق الأوسط، حيث أطلقت إيران وابلين من الصواريخ ضد إسرائيل في أكتوبر 2024. وإلى الحد الذي تستخدم فيه روسيا أسطولها الجوي من القاذفات لإطلاق الصواريخ، فإنَّها تفعل ذلك من أماكن بعيدة مثل بحر قزوين، وهو ما يبقي طائراتها خارج نطاق الدفاعات الجوية الأوكرانية.
ولكن في الوقت نفسه، لا تزال هناك حاجة إلى المزيد من الجهود. فبسبب المزيد من التغييرات في التكنولوجيا والحرب، من المرجح أن يتسارع التحول إلى عصر الصواريخ والطائرات دون طيار. فقد جمعت الصين ترسانة من آلاف الصواريخ ذات المدى المتفاوت؛ ربما استعدادًا لضرب تايوان وغيرها من الخصوم المحتملين وإجبارهم على الخضوع، كما تعمل أيضًا على توسيع أسطولها من الطائرات دون طيار.
والقصة هي نفسها تقريبًا بالنسبة لروسيا، التي عززت منذ غزوها لأوكرانيا في عام 2022 استثماراتها في تكنولوجيا الطائرات دون طيار وزادت بشكل كبير من إنتاجها من الصواريخ الباليستية والصواريخ المجنحة، على الرغم من العقوبات الغربية. كما تضاعف الولايات المتحدة جهودها في مجال الطائرات دون طيار، من خلال برامج مثل مبادرة ريبليكيتور، التي تهدف إلى إنتاج آلاف الطائرات دون طيار القابلة للتدمير، وبأسعار رخيصة بما يكفي بحيث تستطيع واشنطن تحمُّل خسارتها في القتال، بحلول أغسطس 2025. وعلى نفس القدر من الأهمية، تواصل الولايات المتحدة تطوير استراتيجيات لاستخدام قاذفاتها التقليدية في الصراعات عالية الكثافة كوسيلة لإطلاق الصواريخ وربما الطائرات دون طيار على مسافات بعيدة.
طائرات دون طيار وصواريخ للجميع
لقد أدى صعود الطائرات دون طيار والصواريخ إلى إضفاء الطابع الديموقراطي على الحرب عبر إتاحة الوسائل القتالية الاستراتيجية للجميع. ففي العصور السابقة، كان القصف الاستراتيجي حكرًا إلى حد كبير على القوى العظمى؛ لأنَّها كانت الوحيدة التي تمتلك المعرفة التكنولوجية والميزانية اللازمة للحفاظ على أساطيل كبيرة من القاذفات.
في عام 2022، كانت الصين وروسيا والولايات المتحدة فقط هي التي تمتلك طائرات قاذفة استراتيجية، ومن المرجح أن يظل هذا هو الحال، حتى مع قيام الدول الثلاث بتحديث وتوسيع أساطيلها. إنَّ بناء وصيانة وتوظيف أساطيل القاذفات -خاصة تلك الحديثة الشبحية التي يمكنها التهرب من الدفاعات الجوية الحديثة- أمر مكلف وتحدي تكنولوجي إلى درجة لا تستطيع معظم الدول (أو لا تريد) تحملها. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ عالم الصواريخ والطائرات دون طيار أكثر اتساعًا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى انخفاض تكلفة دخوله. فاليوم تمتلك أكثر من 30 دولة مخزونات كبيرة من الصواريخ الباليستية. وحتى قبل خمس سنوات، كانت 100 دولة وجهات فاعلة غير حكومية تتباهى بأساطيل الطائرات دون طيار. ومنذ ذلك الحين، لم تكف السوق عن النمو.
كما أدى صعود الطائرات دون طيار والصواريخ إلى إضفاء طابع ديموقراطي على الحرب الاستراتيجية لكن بمعنى مختلف: حيث يمكن للجهات الفاعلة من الدول وغير الدول أن تقصف بعضها البعض من مسافات أكبر بكثير، بقدر ما تسمح به محركات الطائرات دون طيار أو محركات الصواريخ، ولم يعد مثل هذه القصف يتطلب استثمارات إضافية باهظة الثمن مثل القوات البحرية أو الطائرات المأهولة.
في بعض النواحي، قد تكون حقيقة أنَّ العدوان أقل ارتباطًا بالمسافة مما كان عليه في الماضي في الأمد البعيد التطور الأكثر خطورة. فهو يزيد من خطر تدويل الصراعات أكثر من الماضي. عندما يمكن إطلاق الضربات من أكثر من ألف ميل بعيدًا عن هدفها، بدلًا من إطلاقها من أعلى مباشرة، فإنَّها تجذب حتمًا القوى المجاورة التي يتعين عليها أن تقرر ما إذا كانت ستسمح لهذه الضربات بالمرور عبر مجالها الجوي، مما قد يؤدي إلى غضب من يتعرضون للقصف، أو إسقاطها مما قد يؤدي إلى غضب من يقومون بالقصف.
إنَّ الصواريخ التي تطلقها إيران ضد إسرائيل، على سبيل المثال، أو العكس، لا بُدَّ وأن تمر فوق الأردن أو السعودية أو دول الخليج ــ وهي الدول التي من المرجح أن تفضل الوقوف على الهامش في مثل هذا الصراع، وستفضل ألا تمر الصواريخ عبر مجالها الجوي. ومن الممكن أن تتجلى مجموعة مماثلة من القضايا بسهولة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فعلى سبيل المثال، إذا جاءت الولايات المتحدة للدفاع عن تايوان في حالة حدوث غزو صيني، فقد ترد الصين بقصف القواعد الأمريكية في أستراليا بصواريخ من المرجح أن تمر فوق دول جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا والفلبين، بغض النظر عن موقفها الأولي من الصراع. بعبارة أخرى، تتمتع الصواريخ بالقدرة على تحويل الحروب المحلية بسرعة إلى حروب إقليمية أو حتى عالمية.
النظرية مقابل الممارسة
ولعل السؤال المركزي الكامن وراء هذا الارتفاع الجديد في الحرب الاستراتيجية هو ما إذا كانت مثل هذه الحملات تحقق التأثيرات المقصودة منها. فقد صور كل من الروس والأوكرانيين حملاتهم الحربية الاستراتيجية على أنَّها ضربات محتملة لكسب الحرب. ففي سبتمبر 2024، على سبيل المثال، زعم الرئيس الأوكراني زيلينسكي أنَّ أوكرانيا بحاجة إلى صواريخ يمكنها أن تضرب عميقًا في الأراضي الروسية، لأنَّها ستكون مفتاحًا لانتصار كييف في الحرب. وزعم الإيرانيون أنَّ وابل الصواريخ التي أطلقوها على إسرائيل، على الرغم من الأضرار الضئيلة التي تسببوا فيها، كانت مصممة لمعاقبة إسرائيل على جرائمها، وربما لردع العدوان في المستقبل. وقد قدم الحوثيون استهدافهم لسفن الشحن كوسيلة لإنهاء حرب إسرائيل في غزة. ومن جانبها، تقول إسرائيل إنَّ ضرباتها ضد الحوثيين هدفت إلى ردع الجماعة عن مهاجمة إسرائيل في المستقبل.
ولكن أيًّا من هذه الأهداف المزعومة لم يتحقق. فقد تسببت الضربات الروسية ضد البنية الأساسية للطاقة في أوكرانيا في إحداث الألم، ولكنها لم تحطم الروح المعنوية الأوكرانية. وفي المقابل، تمكن الكرملين حتى الآن من امتصاص الضربات الأوكرانية. كما اعترضت الدفاعات الجوية الإسرائيلية إلى حد كبير الضربات الإيرانية والحوثية. وتسببت هجمات الحوثيين على الشحن في حرف مسار مئات المليارات من الدولارات من التجارة وصقل أوراق اعتمادهم كوكلاء لإيران، ولكنها لم تسفر عن سوى القليل من الانتصارات الملموسة الأخرى. أما الضربات الإسرائيلية ضد البنية الأساسية للطاقة للحوثيين فقد تسببت في أضرار جسيمة لكن لم تردع الحوثيين عن الهجوم مرة أخرى. بعبارة أخرى، أدى امتلاك وسائل قتالية استراتيجية إلى الكثير من الإزعاج، ولكنه لم يحقق شيئًا أكثر من ذلك.
إنَّ السؤال الذي هيمن على الحرب الاستراتيجية منذ نشأتها قبل قرن من الزمان يظل السؤال المركزي اليوم: هل تنجح الحرب الاستراتيجية؟ في الوقت الحالي، يبدو أنَّ الإجابة هي لا؛ على أقل تقدير، لا تستطيع الحرب الاستراتيجية وحدها أن تكسب الحروب، أو في هذه الحالات، لا تستطيع أن تحث الخصم على تغيير موقفه.
إنَّ الأسباب التي تجعل الحرب الاستراتيجية تفشل في كثير من الأحيان لا تنتهي بمرور الزمن، فلا يهم ما إذا كانت الأداة القتالية المستخدمة قاذفة أو طائرة دون طيار أو صاروخ أو حتى أي شيء آخر تمامًا. فالهجمات بالطائرات دون طيار والصواريخ يمكن إحباطها، مثل القاذفات والطائرات المأهولة، بواسطة الدفاعات الجوية الحديثة. وحتى إذا أصابت الطائرات دون طيار والصواريخ أهدافها، فلا يضمن ذلك النجاح. وعادة ما تنتج الحرب الاستراتيجية تأثيرًا يتمثل في الالتفاف حول راية القوة المستهدفة، مما يوحد المجتمعات ضد العدو المشترك. ولكن الدول، والجهات الفاعلة غير الحكومية أيضًا، غالبًا ما تكون أكثر مرونة مما قد تبدو عليه، ويمكنها التكيف مع الهجمات العقابية. وعندما يكون الاختيار بين الاستسلام أو المقاومة، فإنَّها عادة ما تختار المقاومة، وكثيرًا ما تصبح الشعوب أكثر توحدًا مما كانت عليه من قبل.
أسطورة باقية
وحتى لو لم تنجح الطائرات دون طيار والصواريخ الجديدة في تحويل القصف الاستراتيجي إلى استراتيجية ناجحة في الحرب، فمن غير المرجح أن تتخلى الجيوش عن هذه الطريقة في الحرب في أي وقت قريب. فبادئ ذي بدء، ليس من الواضح ما هو البديل. فقد لجأت كل من روسيا وأوكرانيا إلى الحرب الاستراتيجية مع جمود الخطوط الأمامية في الحرب البرية. وليس لدى الحوثيين سوى خيارات تقليدية قليلة لإرغام إسرائيل أو المجتمع الدولي على التراجع، باستثناء هجماتهم على السفن والمدن الإسرائيلية. ولدى إسرائيل خيارات أكثر، ولكن مع تخصيص معظم مواردها للتهديدات الأكثر إلحاحًا، لجأت إلى تفجير مستودعات النفط الحوثية كوسيلة سهلة نسبيًّا لإرسال رسالة، حتى لو كانت غير فعالة في نهاية المطاف.
والأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا التطور الأخير في الحرب الاستراتيجية يستند إلى الغموض القديم الذي يحيط بالقوة الجوية باعتبارها شكلًا سريعًا ودقيقًا من أشكال الحرب القادرة على إنهاء الصراعات بسرعة دون إراقة كثير من الدماء أو إحداث تدمير غير ضروري.
لقد تصور منظرو القوة الجوية الأوائل الحرب الاستراتيجية كوسيلة لإنقاذ البشرية من أهوال الحرب العالمية الأولى، ثم بشروا بها لاحقًا باعتبارها وسيلة لإنهاء الحرب العالمية الثانية. ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا بطبيعة الحال. ففي عام 1945، لم تصب سوى نصف القنابل التي ألقتها “القوة الجوية الثامنة” أهدافها على بعد نحو 300 متر. وفي واقع الأمر، كان شن حرب استراتيجية عن طريق الجو يعني تدمير المدن أو على الأقل مساحات شاسعة من التضاريس. وفي بعض الأحيان كان هذا نتيجة لعدم دقة الطائرات، وهي العقبة التي تغلبت عليها تكنولوجيا اليوم. ولكن في بعض الأحيان، كما حدث في القصف الجوي بالقنابل الحارقة في درسدن وطوكيو، كان القصف الجماعي استراتيجية متعمدة، وإن كانت غير منتجة، لإضعاف الروح المعنوية، استنادًا إلى نفس النظريات حول القوة الجوية التي لا تزال قائمة في الصراعات اليوم.
إنَّ الشكل الجديد للحرب الاستراتيجية يستغل العديد من نفس المقولات الراسخة حول القوة الجوية. ففي نهاية المطاف، صُممت الطائرات دون طيار التي ظهرت لأول مرة أثناء الحرب ضد الإرهاب، لتبشر بطريقة أكثر دقة في القصف، مع احتفاظها بفعاليتها لضرب الأهداف، تمامًا كما كانت أسلافها. والواقع أنَّ الطائرات دون طيار والصواريخ تسمح للجيوش بالانخراط في حرب استراتيجية دون اللجوء بالضرورة إلى تدمير المدن على نطاق واسع كما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية. ولكن هذا لا يزال لا يعادل استراتيجية الفوز بالحرب.
إنَّ الفكرة القائلة بإنَّ إطلاق الطائرات دون طيار أو الصواريخ الموجهة بدقة إلى مجموعة الأهداف الصحيحة من شأنه أن يعجل بإنهاء الصراع سوف تحتفظ على الأرجح بمكانتها في مخيلة عامة الناس وبين صناع السياسات – حتى ولو كانت النتائج الفعلية للحرب الاستراتيجية أقل من المتوقع. ففي نهاية المطاف، فإنَّ النظريات البديلة للنصر -القتال والفوز على الأرض- تجعل الأمر فوضويًّا ودمويًّا ومكلفًا.
ولكن جاذبية القصف الاستراتيجي المستمرة هي التي قد تجعل المستقبل خطيرًا إلى هذا الحد. ومع توسع القدرة على الوصول إلى تقنيات القصف الاستراتيجي، سوف تتوسع أيضًا الدوافع والفرص لاستخدامها، حيث تبدأ الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية في رؤية هذه الأدوات باعتبارها حلولًا سهلة وفعّالة لقضاياها الأمنية. ونتيجة لهذا فإنَّ القصف الاستراتيجي -سواء كان فعّالًا أم لا- على وشك أن يصبح شائعًا على نحو متزايد. وسوف يدفع السكان المدنيون والبنية الأساسية الحيوية الثمن في نهاية المطاف.