
جذور الفصائلية في الجيش
إنَّ الجيش هو الفاعل الأقوى في تركيا منذ أواخر العهد العثماني عندما عَدَّ الضباط أنفسهم رسل التغريب والتحديث بهدف اللحاق بالغرب عسكريًّا، فبرزت حركة “تركيا الفتاة” من بين صفوف الأكاديمية العسكرية وثار عناصرها على السلطان العثماني وأجبروه على إعادة العمل بدستور 1876 الذي سبق أن ألغاه، وذلك لبناء ملكية دستورية بدلًا من الحكم المطلق، كذلك لعب الجيش دورًا جوهريًّا في حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية التركية في عام 1923 على يد ضباط الجيش مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو وجمال كورسيل، الذين تولوا رئاسة الدولة التركية تباعًا.
خلال هذه الفترة، كانت هناك مجموعات مختلفة من الضباط تعمل داخل الجيش، فإحدى المجموعات كانت محسوبة على كاظم قرة بكر قائد الجيش الشرقي للإمبراطورية العثمانية، الذي لعب دورًا فعالًا في حرب الاستقلال عبر دعم أتاتورك، وذلك في مواجهة مجموعة أخرى محسوبة على أنور باشا قائد الجيش العثماني الثالث الذي قاتل ضد الروس خلال الحرب العالمية الأولى، أما المجموعة الثالثة فبقيادة أتاتورك، الذي تمكن بعد انتهاء حرب الاستقلال وتأسيس الدولة التركية من تقويض نفوذ أتباع كاظم قرة بكر وأنور باشا.
تدخل الجيش في السياسة
ظل الجيش بعيدًا عن التدخل المباشر في السياسة خلال عهد أتاتورك وصولًا إلى عام 1960 الذي شهد أول انقلاب عسكري ضد حكومة عدنان مندريس، حيث نفذ مجموعة من صغار الضباط الانقلاب بحُجة تغيير مندريس لهوية الدولة العلمانية وعدم كفاءة الطبقة السياسية ونقص المعدات العسكرية المتطورة التي يمتلكها الجيش التركي فضلًا عن وضع الجيش المتدني مقارنة بحلفائه في الناتو. وأقنعت هذه المجموعة من الضباط الشباب كبار القادة بالإطاحة بالحكومة المنتخبة ثُمَّ أعدموا مندريس.
بعد الانقلاب عُين قائد الجيش الجنرال جمال كورسيل رئيسًا للوزراء وأحيل 90% من الضباط الكبار إلى التقاعد لإفساح المجال أمام الضباط الأصغر سنًا، لكن حدث اضطراب في احترام التسلسل القيادي بالجيش، فحاول الكولونيل طلعت آيدمير قائد الأكاديمية العسكرية القيام بانقلاب في 22 فبراير 1962، لعدم رضاه عن نتائج انتخابات عام 1961 وحاصر أنصاره البرلمان التركي والقصر الرئاسي وانضم بعض الضباط المسؤولين عن الدفاع عن البرلمان والقصر الرئاسي إلى مؤامرة الانقلاب وانقسم الجيش التركي إلى فريقين كادا أن يشتبكا معًا، ولكن توصلا إلى اتفاق بتخلي آيدمير عن محاولة الانقلاب بشرط عدم تقديمه للمحاكمة، وقد حاول آيدمير القيام بانقلاب آخر عام 1963، لكن المحاولة فشلت وانتهت بإعدامه.
في أعقاب انقلاب عام 1960 ومحاولات الانقلاب الفاشلة اللاحقة على يد آيدمير، عزز الجيش التركي سلطات منصب رئيس هيئة الأركان العامة في الإشراف على ترقيات الضباط والتحكم في تحركات القوات المسلحة، ومن وقتها لم تحدث محاولات انقلابية خارج التسلسل القيادي سوى في محاولة انقلاب 2016.
بعد الانقلابات العسكرية في أعوام 1961 و1971 و1980، حكم الجيش فترات وجيزة في 1960-1961، 1971-1973، 1980-1983. وعزز هيمنته عبر صياغة دساتير جديدة، كما في دستور 1961 الذي تضمن تفويض الجيش بالتدخل في الشؤون السياسية حال الحاجة إلى ذلك، كما أُسِسَ مجلس الأمن القومي الذي أصبح بمثابة مجلس وزراء موازٍ تحدد قراراته السياسة الأمنية للبلاد بأكملها، ويتدخل في كافة المجالات بداية من تطوير المناهج الدراسية إلى تنظيم البث التلفزيوني، وصولًا إلى صلاحياته في إجبار الحكومة على الرحيل. ولم يسمح الجيش للمدنيين بالسيطرة على موارده المالية أو مراقبتها، كما استقل الجيش بملف التعيينات والترقيات في القوات المسلحة.
زادت سلطات الجيش من خلال دستور عام 1982، حيث أصبح مجلس الوزراء المدني ملزمًا بالقرارات التي يتخذها مجلس الأمن القومي الذي تمتع بسلطة الإشراف على المؤسسات الحكومية المعنية بالشؤون السياسية المحلية. وعقد رئيس هيئة الأركان اجتماعات أسبوعية مع رئيس الدولة ورئيس الوزراء لإعطاء التوجيهات والملاحظات ومكنت الصلاحيات المذكورة الجيش من الإطاحة بالحكومة دون الاضطرار إلى تنفيذ انقلاب فعلي، ففي عام 1997 حين غضب الجيش من أنشطة حزب الرفاه وقائده رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان، اكتفى مجلس الأمن القومي بإصدار بيان موجز ينص على أنَّ الجيش لن يتسامح مع الخُطوات التي تبتعد عن القيم المعاصرة للجمهورية التركية، فاضطر أربكان إلى الاستقالة ومُنع لاحقًا من الترشح للانتخابات البرلمانية مدة خمس سنوات وأُغْلِقَ حزبه وجُمِدَت أمواله.
خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، شهد جنوب شرق البلاد تمردًا كرديًّا عنيفًا، وتعرضت بعض القرى للدمار ونزحت أعداد كبيرة من المواطنين، وساهم الجيش في توفير المدارس والمستشفيات والمأوى والإسكان والصرف الصحي والخدمات العامة، مما جعله يحصل على نسب مرتفعة في استطلاعات الرأي المتعلقة بقياس ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة.
التنافس داخل الجيش بين أنصار الناتو وأوراسيا
مع نهاية الحرب الباردة، أصبحت علاقة تركيا مع الناتو محل جدل فوَفقًا للأدميرال المتقاعد جيم جوردينيز، شهد الجيش تنافسًا داخليَّا بين الضباط الموالين للناتو وآخرين موالين لمحور أوراسيا (أي الذين يفضلون التوجه شرقًا والتحالف مع روسيا)، ويشير باحثون مثل جوخان باجيك وسماس سالور إلى وجود أفكار سياسية مختلفة لدى ضباط الجيش مثل الأفكار اليسارية ومناهضة أمريكا والولاء لروسيا ومناهضة الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن ذوي التوجهات الليبرالية والمحافظة.
وقد أدى الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 إلى تفاقم مشكلة الانقسامات داخل الجيش التركي حول ما إذا كان عليه السعي إلى تعاون أوثق مع روسيا أو إيران بديلًا عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كذلك حدثت خلافات داخل الجيش حول الموقف من فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2002.
موقف الجيش تجاه حزب العدالة والتنمية
بعد توقيع اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي في عام 1995، أصبحت تركيا مرشحة للعضوية الكاملة في الاتحاد عام 1999. وفي عام 2002 قرر الاتحاد الأوروبي بَدْء مفاوضات ضم تركيا له، وهو ما تطلب من أنقرة إصلاحات بهدف تلبية شروط كوبنهاجن المتعلقة بعضوية الاتحاد الأوروبي، ومن ضمنها خضوع الجيش للحكومة المدنية. وقد أدت التعديلات الدستورية في عام 2001 إلى زيادة عدد المدنيين في اجتماعات مجلس الأمن القومي، كما اُسْتُبدِل القضاة العسكريين بقضاة مدنيين في محاكم أمن الدولة.
تأسس حزب العدالة والتنمية في أغسطس 2001 ووصل إلى سدة الحكم في عام 2002، حيث تجنب في البداية الصراع مع الجيش وطرح نفسه حزبًا محافظًا لا يتحدى التوجهات العلمانية الدولة التركية. وفي عام 2002 ألغي قانون الطوارئ من جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية، ثم قلصت حكومة العدالة والتنمية في عام 2003 عدد اجتماعات مجلس الأمن القومي الذي يمثل أداة الجيش للحفاظ على سلطته السياسية، وأُقر تعيين أمين عام مجلس الأمن القومي من طرف رئيس الوزراء بدلًا من رئيس هيئة الأركان، وهو ما انتزع من العسكريين الحق في إيصال الأوامر إلى المدنيين، كما سُمح بأن يكونَ الأمين العام مدنيًّا أو عسكريًّا، وبذلك تراجعت سيطرة مجلس الأمن القومي على مؤسسات الدولة مع تحوله إلى مجلس استشاري.
في عام 2004 خسر الجيش حق تعيين ممثلين في مجالس إدارات عدة هيئات حكومية مثل مفتشية السينما والمصنفات الفنية ومجلس التعليم العالي، وفي عام 2006 أُقر تعديل على القانون الجنائي العسكري يمنع المحاكم العسكرية من محاكمة المدنيين في أوقات السلم ما لم يُزعم أن العسكريين والمدنيين ارتكبوا جريمة معًا.
في عام 2009، مُنحت المحاكم المدنية الحق في محاكمة العسكريين على الجرائم المرتكبة في زمن السلم، بعد أن كانت المحاكم العسكرية في السابق هي المسئولة في أوقات الحرب والسلم عن محاكمة العسكريين. وبذلك قُلِّصَت قوة الجيش في عالم القضاء وأصبح من الممكن قانونًا مقاضاة الضباط أمام المحاكم المدنية حال الاشتباه في محاولتهم تنظيم انقلاب. وفي عام 2012 أُلغيت دورة الأمن القومي التي يدرسها الجنود للطلاب في المدارس الثانوية، مما أضعف تأثير الجيش على طلاب المدارس.
لماذا سمح الجيش بتراجع صلاحياته؟
رأى الجيش أنَّ طموحات تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تمثل خطوة مهمة للتغريب والتحديث وتتسق مع الأيديولوجية الكمالية كما تحظى بدعم شعبي واسع، كذلك رأى أنَّ الاتحاد الأوروبي قادر على تقويض أنشطة الإسلاميين والانفصاليين الأكراد، فيما خفف اعتقال عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في عام 1999 من مخاوف الجيش تجاه الأوضاع الداخلية.
وقد تزامن صعود حزب العدالة والتنمية وقبول الجيش لإصلاحات الاتحاد الأوروبي مع شَغْل حلمي أوزكوك منصب رئيس هيئة الأركان (2002-2006)، فهو شخص صاحب توجهات إصلاحية رأى أنَّ الجيش بحاجة إلى توسيع آفاقه الفكرية والتكيف مع عمليات التغيير واحترام خيارات الشعب ورأى أنَّ الوقت قد حان لتقليص دور الجيش في السياسة المدنية، بما يتماشى ويقتصر على تقديم توصيات إلى الحكومة وهي وجهات نظر خالفه فيها آخرون بالجيش آنذاك.
في عام 2003، أعرب الأمين العام لمجلس الأمن القومي الجنرال تونجر كيلينتش علانية عن مخاوفه بشأن بعض تفاصيل حزم الإصلاح الخاصة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبعد شهرين من تولي أردوغان منصب رئيس الوزراء في مارس 2003، أصدر الجيش بيانًا صحفيًّا أكد فيه الالتزام بالعلمانية، واصفًا دوره بأنَّه أكبر ضمانة للخصائص العلمانية والديمقراطية والاجتماعية للجمهورية التركية. وأفادت وثائق أمريكية مسربة ضمن ويكيليكس إلى أنَّ حلمي أوزكوك تعرض إلى ضغوط من الجيش لتنفيذ انقلاب بحُجة أنَّ حزب العدالة والتنمية يعين متطرفين دينيين في مناصب بيروقراطية مهمة.
حاول الجيش استعادة نفوذه بعد تعيين الجنرال بويوك أنيت (2006-2008) الكمالي المتشدد محل أوزكوك رئيسًا لهيئة الأركان في أغسطس 2006، وهو ما تزامن مع ترشيح حزب العدالة والتنمية لأردوغان لشغل منصب الرئيس في عام 2007 ليحل مكان أحمد سيزار الذي انتهت فترة ولايته، إذ يمنح منصب الرئيس آنذاك شاغله سلطة نقض التشريعات في حال كونها غير دستورية. وشهدت الشوارع تظاهرات ضخمة للعَلمانيين دعت إلى الحفاظ على المبادئ العلمانية، وأعلن الجنرال بويوك أنيت صراحة أنَّ هناك حاجة إلى رئيس مخلص لمبادئ الجمهورية، وهو ما دفع حزب العدالة والتنمية لإلغاء ترشيح أردوغان وترشيح وزير الخارجية عبد الله غول للرئاسة بدلًا منه، وهو ما اعترض عليه الجيش بمذكرة نشرها على موقعه مما دفع حزب العدالة والتنمية للدعوة لانتخابات نيابية جديدة فاز بها.
في عام 2008، واجه حزب العدالة والتنمية محاولة لحظره، حيث رفع المدعي العام التركي قضية أمام المحكمة الدستورية يطلب فيها إغلاق الحزب وحظر نشاط 71 عضوًا مدة 5 سنوات، من بينهم جول وأردوغان بتهمة الانخراط في أنشطة مضادة للعلمانية. وقبل إعلان المحكمة عن قرارها بأيام عقد الرئيس الجديد لهيئة الأركان إلكر باشبوغ (2008-2010) اجتماعًا سريًّا مع قضاة المحكمة الدستورية، وأدانت المحكمة حزب العدالة والتنمية لكنها رفضت حظره واكتفت بحجب 50% من تمويل الدولة للحزب وأصدرت تحذيرًا له.
الكشف عن تنظيمات الدولة العميقة بالجيش
تشكلت شبكة سرية داخل الجيش خلال حربه ضد تمرد حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا، ولتجنب المساءلة أو القيود القانونية، أُنْشِأت فرق خاصة في التسعينيات لاغتيال القادة الأكراد، كما بسط الجيش سلطته على المؤسسات الحكومية عبر شبكات من الموالين استخدمت الأدوات القانونية والمدنية لحماية الدولة العلمانية دون الحاجة إلى التدخل العسكري المباشر.
في عام 2008 قاد اكتشاف أسلحة ومتفجرات داخل منزل في منطقة مهجورة بإسطنبول إلى كشف خيوط شبكة للدولة العميقة تعمل على تدبير انقلاب للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية، وذلك في قضية اشتهرت باسم أرغينيكون استمرت عدة سنوات، واُعْتُقِلَ مئات الأفراد ووُجِهَت الاتهامات لهم من الجيش والأجهزة الأمنية وأكاديميين وصحفيين، ثُمَّ سرعان ما ظهرت قضية أخرى في عام 2010 هي قضية باليوز “المطرقة الثقيلة” التي تضمنت مؤامرة عسكرية أخرى للإطاحة بالحكومة. وفي يناير 2012 اُعْتقل رئيس هيئة الأركان السابق إلكر باشبوغ على ذمة التحقيقات في قضيتي أرغينيكون وباليوز، كما سُجن 330 ضابطًا عسكريًّا لدورهم في مؤامرة باليوز. وفي أغسطس 2013 حُكم على باشبوغ بالسجن المؤبد. وساهمت هذه القضايا في إعادة رسم الصورة الذهنية للعسكريين، حيث أصبح يُنظر لهم كأشرار وفقدوا هيبتهم في أعين المواطنين، كما فتحت هذه القضايا الباب لترقي الضباط الأصغر سنًا لمناصب قيادية.
في عام 2014، أُطْلِقَ سراح بعض الجنرالات المدانين في قضيتي باليوز وأرغينيكون بما في ذلك الجنرال باشبوغ، وذلك بعد إلغاء الأحكام الصادرة في حقهم بواسطة المحكمة الدستورية بحُجة وجود أخطاء فنية في القضية. فيما رأت حكومة حزب العدالة والتنمية أنَّ القضيتين وقفت خلفهما حركة غولن عبر أتباعها في القضاء وتنصلت بذلك من مسئوليتها عن القضيتين.
كان من اللافت خلال نظر القضيتين إدلاء الضباط بانتقادات علنية للإجراءات القضائية، فعلى سبيل المثال في أبريل 2011 عندما قررت المحكمة الجنائية حبس 163 ضابطًا عسكريًّا عاملًا ومتقاعدًا، أصدر رئيس الأركان كوشانير بيانًا صحفيًّا قال فيه: نواجه صعوبات في فَهم اعتقال الضباط، ثُمَّ استقال رئيس الأركان آنذاك إيشيك كوشانير وقادة البرية والبحرية والقوات الجوية استقالة جماعية في يوليو 2011، قائلين إنَّه من المستحيل الاستمرار في مناصبهم في ظل عدم قدرتهم على الدفاع عن حقوق رجالهم المحتجزين في عملية قضائية معيبة. وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ تركيا، التي تستقيل فيها القيادة العليا للجيش بأكملها، بما في ذلك رئيس هيئة الأركان بدلًا من إقالة الساسة المدنيين عند الاختلاف معهم. وانتهز أردوغان الفرصة لترقية الضباط الذين يحبذ التعامل معهم.
بعد استقالة الجنرال كوشانير عُيّنَ قائد قوات الدرك الجنرال نجدت أوزيل رئيسًا لهيئة الأركان، وَفقًا لرئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، فخلال فترة قيادة أوزيل احترم الجيش التركي المعايير الديمقراطية للبلاد. وقد أزال أوزيل المذكرة الإلكترونية الصادرة في عام 2007 من موقع الجيش على الإنترنت الموجهة ضد حكومة العدالة والتنمية، وبدأ قادة الجيش في حضور حفلات الاستقبال الرسمية التي يقيمها الرئيس آنذاك عبد الله غول بعد أن كانوا يمتنعون عن حضورها بحجة أنَّ حجاب زوجة غول في الأماكن العامة ينتهك المبادئ العلمانية لتركيا، كما بدأ الجيش في دعوة جميع الصحف التركية لتغطية مؤتمراته وفعالياته الصحفية بعد أن كان يرفض التعاون مع وسائل الإعلام ذات النزعة الإسلامية.
ورغم ما سبق فقد استمرت استقالات الضباط؛ اعتراضًا على محاكمة رفاقهم، ففي يناير 2013 استقال القائد البحري نصرت غونر كما استقال 290 فردًا من القوات الجوية بين عامي 2012 و2013. وزار رئيس الأركان نجدت أوزيل السجن العسكري في عام 2011 للقاء ضباط الجيش المشتبه في تخطيطهم لانقلاب. وبعد صدور الأحكام في محاكمة أرغينيكون، أصدر الجيش بيانًا صحفيًّا أعرب فيه عن اعتقاده بأنَّ القضية ستنتهي بالعدل.
كذلك وجه الجيش انتقادات حادة لمحادثات السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، ففي عام 2014 مع ظهور تقارير عن إجراء حوار بين الطرفين، حذر أوزيل الحكومة قائلًا (لقد أوضحنا أنَّنا سنفعل ونقول كل ما هو ضروري إذا تجاوزت الخطوط الحمراء).
محاولة الانقلاب عام 2016
في عام 1999، نشرت قناة ATV التلفزيونية لقطات تظهر الداعية فتح الله غولن وهو يدعو أتباعه إلى انتظار اللحظة المناسبة للاستيلاء على السلطة في تركيا، وردًا على ذلك بدأت السلطات التركية تحقيقًا حول أنشطته، فغادر غولن تركيا وظل في المنفى الاختياري بأمريكا منذ عام 1999. ومنذ ذلك الحين، عدَّت الدولة التركية حركة غولن بمثابة “حصان طروادة” الذي يحاول اختراق مؤسسات الدولة لتحويل البلاد إلى دولة إسلامية.
خضع موقف الدولة التركية إلى التغيير مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، إذ أصبحت حركة غولن شريكة للحكومة وتعاون كلاهما في معارضتهما لدور الجيش في الشؤون السياسية، ومع ذلك في نهاية عام 2013 اختلف حزب العدالة والتنمية وحركة غولن حول مجموعة من القضايا بما في ذلك محادثات السلام التركية الكردية وقمع تظاهرات حديقة غيزي، وبدأت حكومة العدالة والتنمية تصف حركة غولن بأنَّها “دولة داخل دولة”.
في أعقاب تفجر فضيحة فساد تورط فيها قادة من حزب العدالة والتنمية في ديسمبر 2013، أصرت الحكومة التركية على أنَّ حركة غولن هي التي دبرت القضية، وبدأت الحكومة في وصف الحركة بأنَّها منظمة إرهابية.
شارك مجموعة من الضباط الموالين لغولن رفقة آخرين من الضباط الكماليين في محاولة انقلاب عام 2016، وطلب الانقلابيون من رئيس هيئة الأركان خلوصي أكار بعد احتجازه التحدث مع فتح الله غولن بحسب شهادة أكار التي ينفي الانقلابيون صحتها.
حدث الانقلاب هذه المرة خارج التسلسل القيادي للجيش، مما أوضح عمق الانقسامات داخله وشارك في الانقلاب 8.651 جنديًّا و171 جنرالًا من إجمالي 358 جنرالًا في الجيش التركي و35 طائرة مقاتلة و37 طائرة هليكوبتر و246 دبابة، فيما لقي 250 شخصًا مصرعهم وجُرح 2735 شخصًا.
نجح الانقلابيون في احتجاز قادة القوات الجوية والبرية والبحرية فضلًا عن رئيس الأركان خلوصي أكار، لكن فشل الانقلاب مع تحرك القيادة العامة للجيش للتصدي للانقلاب، نظرًا لموقفها المعادي للضباط التابعين لغولن، كما نزل مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع للتصدي للانقلابيين.
تبين أنَّ قضيتي أرغينيكون وباليوز فتحتا الطريق لترقي الضباط الموالين لغولن ممن التحقوا بالجيش خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وأشارت بعض التقارير إلى أنَّ 40 جنرالًا في الخدمة وقت الانقلاب كانوا أعضاءً في حركة غولن بالإضافة إلى نحو 50 % من الضباط برتبة عقيد وما دون.
لقد ساهم وجود طبقة من الضباط المحافظين وآخرين من الموالين لمحور أوراسيا في التصدي للانقلاب المحسوب على أصحاب التوجه الأطلسي، ولذا زار أردوغان موسكو في أول زيارة خارجية له بعد الانقلاب لشكر بوتين على دعمه له في هذه الأجواء العصيبة.
لكن العامل الرئيسي تمثل في رفض قيادة الجيش وأغلب ضباطه لنجاح انقلاب محسوب على حركة غولن، وقد لعب الجنرال أوميت دوندار قائد الجيش الأول دورًا محوريًّا في إحباط الانقلاب، حيث تحرك بعد أن فشل في الوصول إلى قادة أفرع القوات المسلحة ورئيس هيئة الأركان، مما عني له أنَّهم غير ضالعين فيما يحدث.
وقد شارك في إحباط الانقلاب عدد من الضباط الذين سبق احتجازهم في قضيتي أرجينيكون وباليوز التي اتُهمت حركة غولن بالوقوف ورائها، وبحسب الفريق محمد شانفر قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، فإنَّ الجيش هو الذي أوقف محاولة الانقلاب، وأنَّه في حال دعم قيادة الجيش للانقلاب فلن يتمكن الشعب ولا الشرطة من إيقافه. فيما قال أيتاك يالمان القائد السابق للقوات البرية (إنَّ استلقاء المواطنين أمام الدبابات أمر مقدر، لكنه لا يمكن أن يمنعَ حدوث انقلاب).
وقد ساهم ظهور العديد من الجنرالات رفيعي المستوى على شاشة التلفزيون لإدانة ما يحدث في إرسال رسالة لبقية وحدات الجيش بأنَّ هذه المحاولة الانقلابية تفتقر إلى الدعم المؤسسي من الجيش، وهو ما جعل بعض الوحدات العسكرية التي بدأت في الامتثال لتعليمات الانقلابيين تتراجع.
إصلاحات ما بعد محاولة الانقلاب عام 2016
في أعقاب الانقلاب بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية سلسلة من الإصلاحات للجيش تضمنت استبعاد نحو 20 ألف ضابط وجندي من الجيش بِناءً على ارتباطهم أو دعمهم للانقلابيين، كما أجرت سلسلة من الإجراءات القانونية والدستورية التي قللت إلى حد كبير من سلطة رئيس هيئة الأركان ووسعت سيطرة الرئيس ووزارة الدفاع على الجيش.
بعد ستة أيام من محاولة الانقلاب، أُعْلِنَت حالة الطوارئ مدة ثلاثة أشهر فقط، ولكن مُدَّدَت لتستمر عامين، وعقب فوز أردوغان بالرئاسة في عام 2018 أصدر مجموعة من المراسيم الرئاسية تضمنت:
- تحويل وزارة الدفاع بالسيطرة على الجيش، بدلًا من هيئة الأركان وخضوع قادة القوات البرية والبحرية والجوية إلى تعليمات وزارة الدفاع لا رئاسة الأركان خلال أوقات السلم وخضوعهم إلى رئاسة الأركان وقت الحرب فقط.
- منح رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حق الحصول على معلومات مباشرة من قادة أفرع القوات المسلحة ومن مرؤوسيهم وإعطاء أوامر مباشرة لهم دون اشتراط موافقة رئاسة الأركان.
- فصل القيادة العامة لقوات الدرك وخفر السواحل عن القوات المسلحة التركية ووضعهما تحت إشراف وزارة الداخلية وتعيين قادة الدرك وخفر السواحل من طرف رئيس الدولة.
- الموافقة على ترقيات الضباط من رتبة ملازم أول ونقيب وضباط صف من وزارة الدفاع ووزارة الداخلية، بدلاً من رئاسة الأركان.
- · تتم الترقية إلى رتبة جنرال وترقية الجنرالات والأدميرالات إلى الرتبة التالية بموجب مرسوم تنفيذي يوقعه وزير الدفاع (أو وزير الداخلية لضباط الدرك وخفر السواحل) بموافقة رئيس الجمهورية. بينما في السابق كانت هذه الترقيات تتم بِناءً على طلب قادة أفرع القوات المسلحة بتوصية هيئة الأركان.
- تغيير بنية المجلس الأعلى للدفاع لصالح الأعضاء المدنيين، حيث شمل عضوية وزراء العدل والخارجية والداخلية إلى جانب رئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع وقائد هيئة الأركان وقائد الدرك. وأُبْعِدَ قادة أفرع القوات المسلحة من المجلس، حيث تبقى رئيس هيئة الأركان ممثلًا وحيدًا للجيش في المجلس.
- إغلاق المدارس الثانوية العسكرية، وبدلًا من ذلك أُنْشِأت جامعة الدفاع الوطني وأكاديمية الدرك وأكاديمية خفر السواحل، مع تعيين رئيس مدني من طرف رئيس الدولة لجامعة الدفاع الوطني.
- تُشْرِف وزارة الدفاع على المناهج وعدد ونوع معاهد الدراسات العليا العسكرية ونوع ومدة الدراسة، بدلًا من قيادات أفرع القوات المسلحة تحت إشراف هيئة الأركان.
- حل فوج الحرس الرئاسي المكون من وحدة عسكرية بعد ضلوعه في الانقلاب وإيكال حماية الرئيس وعائلته ومقرات الرئاسة إلى المديرية العامة للخدمات الأمنية التي تأسست في عام 2018 ضمن الهيكل التنظيمي لرئاسة الجمهورية.
- صدر قانون في عام 2021 يَعِدُ الشرطة هيئة شبه عسكرية، وبموجبه يتشارك الجيش أي نوع من المعدات العسكرية الموجودة في مخزونه مع الشرطة بِناءً على طلب وزير الداخلية في أوقات الحوادث التي تمثل تهديدًا للأمن القومي.
احترافية الجيش تزداد ببعده عن السياسة
يشير هنتنجتون في كتابه “الجندي والدولة” إلى أنَّ مشاركة العسكريين في السياسة تقوض احترافهم وتحد من كفاءتهم المهنية، ولذا يؤكد على الحاجة إلى وجود سيطرة مدنية على الجيش تتكون من 3 جوانب هي:
- الاحتراف العسكري.
- تبعية الجيش للسياسيين المدنيين في الأمور المتعلقة بالسياسة الدفاعية والشؤون الخارجية.
- إقرار القادة المدنيين باستقلالية الجيش في الأمور العسكرية.
يجادل هنتجتون بأنَّ هذه العوامل الثلاثة تقود إلى التقليل من تدخل الجيش في السياسة وتعزز احترافه، أما في العديد من دول العالم الإسلامي وأمريكا اللاتينية فقد اقتصر تطوير الجيش على امتلاك أسلحة حديثة ومرافق تدريب، بينما هيمن الجيش على الحياة السياسية مثلما برز في الحالة التركية لعقود، لكن بعد تقليل دور الجيش التركي في السياسة، نجد أنَّ احترافيته العسكرية تزايدت.
الخاتمة
لقد أثبت انقلاب 2016 أنَّ سنوات من الإصلاحات المدنية للجيش وتنفيذ اعتقالات مئات الضباط المتآمرين وتقاعد العشرات من المسؤولين العسكريين على ذمة قضيتي أرغينيكون وباليوز، لم تقضِ على تسييس الجيش أو تؤسس لسيطرة مدنية كاملة عليه، لكن أظهر الانقلاب أيضًا أنَّ الجيش التركي لم يعد معقل الكمالية، حيث تغلغل فيه أتباع غولن قبل محاولة انقلاب 2016.
لقد سعت القيادة السياسية بعد الانقلاب لاعتماد إجراءات تصنع عقبات هيكلية تمنع الضباط من التنسيق بنجاح لانقلاب جديد؛ إذ أصبح إصدار الأوامر بالتحركات ضمن اختصاص وزارة الدفاع في وقت السلم وضمن اختصاص وزارة الداخلية فيما يخص الدرك وخفر السواحل، وذلك بدلًا من خضوعهم سابقًا إلى شراف هيئة الأركان، كذلك أصبح قادة الجيش والبحرية والقوات الجوية يتلقون الأوامر والتعليمات من ثلاث جهات: الرئيس ووزارة الدفاع ورئيس هيئة الأركان، فيما يشرف البرلمان على الموازنة العسكرية.
وسبق قبل سنوات من الانقلاب اتخاذ بعض الإجراءات التي أضعفت من دور الجيش السياسي، ثُمَّ تبعتها خُطوات أخرى إضافية في المسار نفسه، مثل: تقليص دور مجلس الأمن القومي ليصبح هيئة استشارية وإنهاء الاستقلال القضائي للجيش عبر وضعه تحت إشراف مدني في جميع النواحي الإدارية والتنظيمية والتعليمية، مما قضى على دور الجيش في كونه وصيًّا على الحياة السياسية.
كذلك سعت الحكومة إلى وضع عقيدة عسكرية جديدة عبر السيطرة المباشرة على المدارس والأكاديميات العسكرية، بهدف القضاء على منبع المعارضة الأيديولوجية داخل الجيش وتغيير ثقافته السياسية والتنظيمية.
وفي المحصلة يمكن تلخيص إجراءات تقليص خطر الانقلاب العسكري المتخذة في تركيا وَفق التالي:
- · تجزئة القوات المسلحة.
- توسيع هيكل القيادة العسكرية.
- تغيير نظام التعليم العسكري.
- تطوير قوة الشرطة لموازنة ثقل الجيش وإنشاء وحدات أمنية من خارج الجيش لتولي مسؤولية حماية القيادة السياسية.