ترجمات

لماذا تنجح المفاجأة الاستراتيجية دومًا؟

الباحث عازار جات: معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي

إنَّ تجربة القرن العشرين تظهر أنَّ المفاجأة الاستراتيجية تحققت دون استثناء في كل حالة باغت فيها طرف خصمه. فما أسباب ذلك؟ وما الذي يمكن استنتاجه من هذه النتائج؟

إنَّ الهجوم المفاجئ الناجح الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر 2023، بعد خمسين عامًا بالضبط من هجوم السادس من أكتوبر 1973 في حرب يوم الغفران، أثار مرة أخرى السؤال بكل جدية حول سبب وكيفية حدوث المفاجآت الاستراتيجية. فبعد صدمة حرب الغفران، التي شغلت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، والمؤسسة الدفاعية، والجمهور على نطاق واسع لعقود من الزمان، تكررت كل عناصر تلك المفاجأة، ولكن بنتائج كارثية.

تقر الأدبيات التي تتناول المفاجأة الاستراتيجية بأنَّ التجربة التاريخية تثبت الصعوبة الكبيرة المتمثلة في منع مثل هذه المفاجأة. والحقيقة أنَّ كل محاولة نُفذت خلال القرن العشرين لتحقيق مفاجأة استراتيجية نجحت دون استثناء واحد، وهو أمر لم يحظ بشهرة كافية.

 إنَّ أغلب الحالات التي تناولها المقال المرفق مألوفة إلى حد كبير، وإن كانت النتيجة النهائية بعيدة كل البعد عن الإقرار بها على نطاق واسع. كما يقدم المقال تفسيرات إضافية للنجاح الاستثنائي الذي حققته المفاجآت الاستراتيجية، ويفحص ما يمكن القيام به في ضوء هذا الاكتشاف الواضح والمذهل.

النجاح الكامل للمفاجآت الاستراتيجية في القرن العشرين

المفاجأة الاستراتيجية هي مفاجأة في بداية الحرب. وهذا على النقيض من المفاجآت العملياتية أو التكتيكية أثناء الحرب، والتي لديها سجل مختلط إذ ينجح بعضها ويفشل البعض الآخر.

ومن المتفق عليه أنَّ الفشل في التعرف على هجوم وشيك لا يُعزى عادة إلى وكالات الاستخبارات في حد ذاتها فحسب، بل وأيضًا إلى المفهوم السياسي الأساسي والقيادة العسكرية. وكما هو الحال في حالات أخرى من المفاجآت الاستراتيجية في القرن العشرين، فإنَّ فشل السادس من أكتوبر1973، والسابع من أكتوبر 2023، لم يقتصر على أوجه القصور الاستخباراتية وحدها. بل شمل أيضًا القيادة السياسية، بما يتجاوز مجرد مستوى المسؤولية الرسمية.

 ففي هذا السياق، زعم البعض أنَّ رؤساء الحكومات لديهم فهم أفضل من أجهزة الاستخبارات لقادة الخصوم وثقافتهم وأهدافهم. كانت هذه الحجة صحيحة بشكل خاص بالنسبة لمجلس الوزراء الإسرائيلي في عام 1973 بصفتهم أعضاء في الجيل المؤسس لإسرائيل، فقد كان لديهم، وخاصة وزير الدفاع آنذاك موشيه ديان، خبرة سياسية وعسكرية واسعة. ومع ذلك، من المشكوك فيه ما إذا كانت هذه الحجة تنطبق على جميع الحالات الأخرى، أو على أحداث 7 أكتوبر 2023. ومع ذلك، فإنَّ هذا لا يغير حقيقة أنَّ المفهوم السياسي السائد في إسرائيل تجاه حركة حماس لعب دورًا مهمًا في ذلك الفشل.

طوال القرن العشرين، أتاح ظهور الميكنة توجيه ضربة عسكرية مذهلة في بداية الحرب لأول مرة. بدأت عشرات حالات الحرب بهجمات مفاجئة، مما أدى إلى مباغتة الجانب المدافع بينما هو غير مستعد، وأدى ذلك إلى عواقب وخيمة للغاية، على الأقل لأمد قريب. إنَّ هذه الحالات معروفة جيدًا وكثيرًا ما يُستشهد بها في الأدبيات المتعلقة بالمفاجأة الاستراتيجية (باستثناء الحالة الأولى ربما)، ومن أبرزها:

  • الهجوم الياباني على روسيا عام 1904
  • عملية بارباروسا ـ غزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفييتي عام 1941
  • الهجوم الياباني على الولايات المتحدة في بيرل هاربر عام 1941
  • الغزو الكوري الشمالي لكوريا الجنوبية عام 1950
  • دخول الصين في الحرب ضد قوات الأمم المتحدة في كوريا عام 1950
  • الهجوم الإسرائيلي على مصر الذي بدأ حرب 1956
  • الهجوم الصيني على الهند في عام 1962
  • الهجوم الإسرائيلي على مصر في حرب 1967
  • الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1968
  • الهجوم المصري والسوري على إسرائيل في عام 1973
  • الغزو العراقي لإيران في عام 1980
  • الغزو الأرجنتيني لجزر فوكلاند في عام 1982
  • الغزو العراقي للكويت في عام 1990

إنَّ المقال لا يتضمن قائمة انتقائية بالمفاجآت الاستراتيجية الناجحة، بل يشمل كل محاولة لتحقيق المفاجأة الاستراتيجية في بداية الحرب. وكل هذه المحاولات، دون استثناء، كانت ناجحة.

إنَّ انطباعي هو أنَّ أولئك الذين اطلعوا على هذا السجل، بما في ذلك كبار المسؤولين في جهاز الأمن الإسرائيلي، في الماضي والحاضر، لم يكونوا على علم بهذه الحقيقة الواضحة.

فعند سماع هذه الحقيقة للمرة الأولى، يثير المعنيون اعتراضين رئيسيين. الأول هو أنَّه قد تكون هناك العديد من محاولات المفاجآت الفاشلة في بداية الحرب، التي لا نعرف عنها شيئًا على الإطلاق. بعبارة أخرى، قد يكون هذا حالة مما يسمى “تحيز العينة”. والاعتراض الآخر هو أنَّ الطرف الذي يحاول تحقيق المفاجأة يمكنه تأجيل هجومه إذا اعتقد أنَّ الطرف الآخر مستعد، وذلك لتجنب الفشل من خلال انتظار اللحظة المناسبة عندما تكون فرص تحقيق المفاجأة أفضل. ومع ذلك، فإنَّ هذه الاعتراضات لا أساس لها.

أولًا وقبل كل شيء، إنَّ معرفتنا بحروب القرن العشرين واسعة النطاق، ولا ينبغي لنا أن نفترض وجود هجمات مخططة فاشلة في بداية حرب لا نعرف عنها شيئًا على الإطلاق. ثانيًا، حتى لو كان بإمكان أحد الأطراف تأخير الموعد النهائي، فإنَّ كل قرار بالمضي قدمًا في مثل هذا الهجوم المفاجئ كان ناجحًا، وهو أمر مذهل حقًا.

كيف إذن نستطيع أن نفسر سلسلة المفاجآت الاستراتيجية الناجحة في بداية الحروب خلال القرن العشرين؟

التفسيرات المقبولة لفشل الإنذار المسبق

على الرغم من أنَّ التفسيرات التي تركز على التحيز المعرفي والشخصي، والانغلاق المفاهيمي، والتفكير الجماعي ليست خاطئة، فإنَّها تفقد صلاحيتها عندما تواجه النجاح العالمي للمفاجأة الاستراتيجية خلال القرن العشرين. لا يوجد تباين في النتائج بين الحالات يمكن أن يعزى إلى الاختلافات في هذه العوامل.

وقد جرى اقتراح تفسيرات أخرى مختلفة لنجاح المفاجآت الاستراتيجية في الأدبيات العلمية، وخاصة في أعمال ريتشارد بيتس وإفرايم كام من قبيل أنَّه أولًا وقبل كل شيء، فإنَّ حالة الحرب نادرة مقارنة بفترات طويلة من الهدوء. وكما أوضح الجنرال إيلي زعيرا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” في عام 1973، في التحقيق الشامل الذي أجراه أفيرام باركاي بعنوان “رفرفة أجنحة الخطأ” (115-117، باللغة العبرية): “افترض أنَّ لديك ببغاء أحمر يتنبأ بالحرب كل يوم وببغاء أزرق يقول إنَّه لن تكون هناك حرب، وأنَّ الببغاء الأزرق على حق يومًا بعد يوم لآلاف الأيام، بينما الببغاء الأحمر مخطئ في كل شيء. أيهما ستصدق؟”.

 في حالة الصراع المطول مثل الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يمكن أن تحدث الانفجارات في أي وقت، يكاد يكون من المستحيل الحفاظ على مستوى عالٍ من الاستعداد واليقظة لاندلاع الحرب في كل لحظة. يتطور الروتين، جنبًا إلى جنب مع متلازمة “الذئب الباكي”. وهذا يتناقض مع حالة الحرب النشطة، حيث يكون الاستعداد لهجمات العدو أكبر ويفسر لماذا تنجح بعض المفاجآت العملياتية والتكتيكية بينما يفشل بعضها الآخر، على عكس المفاجآت الاستراتيجية، التي نجحت باستمرار.

وعلاوة على ذلك، وكما أوضحت روبرتا وولستيتر، الباحثة الرائدة في مجال المفاجأة الاستراتيجية، فإنَّ أجهزة الاستخبارات تغرق في آلاف الإشارات قبل أي هجوم. وبعض هذه الإشارات تشير بالفعل إلى هجوم وشيك “علامات”، في حين أنَّ بعضها الآخر عبارة عن تشتيتات مضللة “ضوضاء”. ولا يمكن التمييز بين الاثنين سوى في وقت لاحق.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتقييمات الخاطئة لتوازن القوى بين الخصوم، وبالتالي مدى تحقق الردع، أن تلعب دورًا رئيسيًّا في إخفاقات أجهزة الاستخبارات. وغني عن القول إنَّ هذا العامل كان بارزًا في مفاجآت السادس من أكتوبر 1973 والسابع من أكتوبر 2023.

ومع ذلك، لا يزال لغز النجاح المتواصل للمفاجأة الاستراتيجية قائمًا. إنَّ هذا صحيح بشكل خاص لأنَّ الهجمات المفاجئة على الأرض (وبشكل أقل في الهجمات البحرية، كما في بورت آرثر في عام 1904 وجزر فوكلاند في عام 1982، وأقل حتى في الهجمات الجوية كما في بيرل هاربور في عام 1941 وعملية فوكس الإسرائيلية في بداية حرب 1967)، عادة ما تسبقها تحشيدات هائلة من القوات والمعدات والإمدادات والذخائر على طول الجبهة المحددة. ولا يمكن إخفاء هذه التحشيدات حيث تكون مرئية بوضوح للجانب المهاجم في كل الحالات تقريبًا في الفترة التي تسبق الهجوم المفاجئ واندلاع الحرب. كان هذا صحيحًا فيما يتعلق بالتحشيدات الهائلة للجيشين المصري والسوري في سبتمبر وأوائل أكتوبر 1973، على الرغم من أنَّه ينطبق بدرجة أقل بكثير على جيش حماس خفيف التسليح المنتشر على حدود غزة في أكتوبر 2023.

تفسيرات إضافية لنجاح المفاجأة الاستراتيجية في القرن العشرين

حتى عندما تكون تحشيدات قوات العدو والاستعدادات اللوجستية على الجانب الآخر من الحدود مرئية بوضوح، يمكن تفسيرها كجزء من سياسة “حافة الهاوية” للضغط في الصراع. وفقًا لهذا التفسير -وهو صحيح في العديد من الحالات التي لا تؤدي إلى الحرب- فإنَّ الحرب مجرد تهديد، وشكل من أشكال التلويح بالسيف يُقصد منه أن يبدو موثوقًا به للضغط على الجانب الآخر دون أي نية حقيقية لبدء صراع مسلح.

وبشكل جزئي، بهذه الطريقة فسر ستالين حشود القوات الألمانية على الجبهة الشرقية في الأشهر التي سبقت عملية بارباروسا، نظرًا للتوترات بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا بشأن تقسيم أوروبا الشرقية، وخاصة رومانيا، التي كانت مواردها النفطية حاسمة بالنسبة لألمانيا.

وهذا هو التفسير الذي فسرت به الولايات المتحدة أيضًا الانتشار الضخم للقوات العراقية قبل غزو الكويت في عام 1990. فلم يكن هناك شيء في الحشد العراقي لا تستطيع الأقمار الصناعية الأمريكية اكتشافه. ولكن الولايات المتحدة والكويت إلى جانب الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اعتقدوا أنَّ العراق كان يتخذ موقفًا يهدف إلى إجبار الكويت على التنازل عن ملكية حقل نفط متنازع عليه على حدودهما المشتركة. وقبل أيام قليلة من غزو الكويت، أكدت السفيرة الأمريكية في العراق لصدام حسين أنَّ الولايات المتحدة لا تدعم بالضرورة موقف الكويت بشأن هذه القضية.

فضلًا عن ذلك، فإنَّ نشر القوات لممارسة الضغط الدبلوماسي يُفسَّر أحيانًا على أنَّه إيماءات لأغراض داخلية تستهدف الرأي العام المحلي والقوات المسلحة. على سبيل المثال، كانت تهديدات السادات بالحرب بعد عام 1971 تُرى على أنَّها موجهة ليس فقط إلى إسرائيل والساحة الدولية، بل وأيضًا لاسترضاء الرأي العام المصري في ظل غياب أي عمل عسكري حقيقي. وعلى نحو مماثل، اعتبرت “أمان” أنَّ المناورات المكثفة التي أجرتها حماس لمحاكاة غزو واسع النطاق للحدود قبل السابع من أكتوبر، والتي كانت مرئية وحتى مصورة بالتلفاز، تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الاستعداد العملياتي والجاهزية الجهادية داخل وحداتها القتالية.

وهناك تفسير آخر لحشد قوات العدو ونشرها على طول الحدود وهو أنَّ العدو يخشى أن نهاجمه، فيضع قواته في وضع دفاعي. ومرة ​​أخرى، هذا هو ما اعتقده ستالين جزئيًّا فيما يتصل بالانتشار الألماني في عام 1941. وعلى النقيض من نظريات المؤامرة التي ظهرت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يكن لدى ستالين أي نية لمهاجمة ألمانيا، حتى لو كانت الخطط العملياتية للجيش الأحمر هجومية. لقد كان ستالين يخشى بشدة من قوة هتلر وألمانيا، وكان يأمل في كسب الوقت للسماح للجيش الأحمر بالتعافي من الأضرار التي لحقت به نتيجة لعمليات التطهير التي طالت صفوفه في الفترة 1937-1938. وفي الأشهر التي سبقت الحرب، زاد ستالين من شحنات المواد الخام السوفييتية إلى ألمانيا ومنع أي إجراءات يمكن للألمان أن يفسروها على أنَّها استفزاز أو تشير إلى نية سوفييتية هجومية، بما في ذلك الدوريات البرية والجوية عبر الحدود.

وكما هو معروف، عزت “أمان” تركيز القوات السورية في مرتفعات الجولان في عام 1973 إلى مخاوف سوريا من هجوم إسرائيلي في أعقاب المعركة الجوية التي وقعت في 13 سبتمبر، والتي أسقطت فيها القوات الجوية الإسرائيلية 12 طائرة حربية سورية. وحتى بعد تلقي تحذيرات من حرب وشيكة على الجبهة المصرية في يوم الغفران، لم تُنقل القوات المدرعة الإسرائيلية إلى محطات متقدمة إلا بعد فوات الأوان، خوفًا من أن يفسر المصريون هذه الخطوة على أنَّها استعداد لهجوم إسرائيلي.

إنَّ هناك طريقة أخرى لإخفاء النية وراء نشر القوات لشن هجوم، وهي إخفاؤها في هيئة تدريبات. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1968، والذي قُدم على أنَّه مجرد تدريبات لحلف وارسو. وعلى الرغم من إدراك الاستخبارات الإسرائيلية لهذه السابقة، فقد فسرت الحشد المصري الضخم للقوات على طول قناة السويس على أنَّه تدريب يتسق مع الروتين المصري لسنوات عديدة.

ماذا يمكن عمله؟

إنَّ النتائج المقدمة هنا لا لبس فيها. إنَّ التجربة خلال القرن العشرين، بعد أن سمحت الميكنة بضربة مفاجئة خاطفة في بداية الحرب لأول مرة، تظهر أنَّ منع المفاجأة الاستراتيجية أمر صعب للغاية. وفي عدد كبير من الحالات الشهيرة، كانت المفاجأة التي تحققت ذات أهمية حاسمة. والواقع أنَّ هذا يعلمنا أنَّ المفاجأة تحقق فيها كل محاولة خلال القرن العشرين دون استثناء.

إنَّ هذا الاكتشاف المهم يثير أسئلة بالغة الصعوبة حول جدوى الإنذار المسبق بالحرب وقيمة أجهزة الاستخبارات الضخمة التي أنشئت لهذا الغرض. ولقد اعتُبِرت وظيفة هذه الأجهزة بالغة الأهمية بالنسبة لإسرائيل، نظرًا لصغر حجمها والدور الأساسي الذي تلعبه قوات الاحتياط في قوتها العسكرية. وقد عُرِفَت التحذيرات الاستخباراتية بالحرب باعتبارها ركيزة أساسية لعقيدة الدفاع الإسرائيلية ومهمة محورية لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”.

 ومع ذلك، وعلى الرغم من الإنجازات المثيرة للإعجاب في المجال العملياتي، فقد فشلت “أمان” في توفير الإنذار في حالتين كانت فيهما إسرائيل هدفًا لهجمات مفاجئة في عامي 1973 و2023 (بالإضافة إلى دخول الجيش المصري إلى سيناء دون أن يُكتَشف أثناء أزمة روتم في عام 1960). والاستنتاج الواضح ظاهريًّا من كل هذا، إلى جانب سجل أجهزة الاستخبارات في جميع حالات المفاجأة الاستراتيجية طوال القرن العشرين، هو أنَّ الاستخبارات غير فعّالة في توفير الإنذار الاستراتيجي المسبق بحرب وشيكة. ويبدو أنَّ الأدلة تدعم هذا الاستنتاج المتناقض والمخالف للحدس، ولكن إلى أي مدى هو صحيح؟

قبل أن نتناول هذا السؤال، دعونا أولًا ننتقل من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين ــ إلى الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير 2022. لقد كانت العوامل المألوفة التي تدعم المفاجأة الناجحة حاضرة هنا أيضًا. فقد تنكر الروس لنشر قواتهم في دونيتسك وبيلاروسيا باعتباره تدريبًا واسع النطاق، واعتقدت السلطات الأوكرانية أنَّ حشد القوات الروسية كان جزءًا من حملة تهديدات وجهود سياسية قسرية من جانب بوتن لن تؤدي إلى الحرب والغزو (باستثناء زئيف إلكين، عضو مجلس الوزراء السابق من أصل سوفييتي، سمع المؤلف جميع الخبراء في إسرائيل يصرحون بأنَّهم يعتقدون أيضًا أنَّه لن يكون هناك غزو). ومع ذلك، أعلنت الاستخبارات الأمريكية في الأيام التي سبقت الحرب أنَّ الغزو وشيك، بل إنَّها حددت التاريخ الذي سيحدث فيه (ثم تم تأجيله بعد ذلك بيومين). ولم تُقدم أي معلومات عن المصدر الذي يقف وراء هذا الإعلان الاستخباراتي الأمريكي، ولكن دقة تاريخ الغزو المعلن قد تشير إلى أنَّه جاء من معلومات داخلية، ربما من مصدر رفيع المستوى في القيادة السياسية أو العسكرية الروسية، وليس عبر استنتاجه من أدلة ظرفية.

وبالتالي، كما هو الحال مع جميع الظواهر البشرية، هناك استثناءات واختلافات كبيرة في المفاجآت الاستراتيجية، وهو ما يستحق الاهتمام. ضع في اعتبارك أنَّه حتى في الليلة التي سبقت يوم الغفران عام 1973، أعطى أشرف مروان، “الملاك” المقرب من السادات، إسرائيل تحذيرًا مسبقًا بشأن الحرب القادمة، مما دفع الجيش الإسرائيلي إلى التأهب والتعبئة. يتناقض هذا مع مفاجأة 7 أكتوبر 2023، حيث لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات الأخرى مخبر واحد بين الآلاف من مقاتلي نخبة القسام الذين قضوا الليل وساعات ما قبل الفجر في الاستعداد للهجوم.

يُجرى تقديم ادعاءين مرتبطين في أعقاب المفاجآت الاستراتيجية الناجحة. الأول هو أنَّ عمليات النشر والتنبيهات يجب أن تستند إلى قدرات العدو، وليس النوايا المفترضة. إنَّ الحجة الثانية هي أنَّ مستوى القوات واليقظة يجب أن يظلا على أعلى مستوى في كل الأوقات. وقد انتقدت هاتين الحجتين، إلى حد كبير، باعتبارهما غير عمليتين ــ سواء بشكل عام أو فيما يتصل بإسرائيل بالتأكيد. ذلك أنَّ التهديدات بالحرب ضد إسرائيل تأتي من اتجاهات مختلفة، وإسرائيل غير قادرة على الاحتفاظ بقواتها الاحتياطية، التي تشكل الجزء الأكبر من جيشها، في حالة تعبئة لفترات طويلة. بيد أنَّ تحديد المسألة بعبارات مطلقة يغفل عن النقطة الأساسية.

ففي أوائل أكتوبر 1973، وفي أعقاب تدفق المعلومات حول الانتشار العربي على حدود إسرائيل، وعلى الرغم من تقييم “أمان” بأن الحرب غير واردة، أرسل الجيش الإسرائيلي اللواء المدرع السابع لتعزيز قواته بمرتفعات الجولان، مما أدى إلى زيادة عدد الدبابات هناك من 77 إلى 177 دبابة. وقد اعتُبِرت جبهة الجولان أكثر أهمية بسبب الافتقار إلى العمق الاستراتيجي الذي توفره شبه جزيرة سيناء، وقرب الجولان من التجمعات المدنية ووسط إسرائيل. وإلى جانب نقل لواء المدرعات الاحتياطي للتعبئة السريعة 179 إلى معسكر أكثر تقدمًا كجزء من حالة التأهب في وقت سابق من ذلك العام، لقد أنقذ هذا التعزيز مرتفعات الجولان. وبالتالي، كان لتقييم “أمان” لقدرات العدو نظرًا لحشده لها، تأثير حاسم على استعداد الجيش الإسرائيلي ونتائج الحرب التي تلت ذلك.

من هذا المنظور، كان الوضع في 7 أكتوبر 2023 أسوأ بكثير. أخطأت أجهزة الاستخبارات في تقييمها لنوايا حماس وقدراتها. كما فشلت في تقديم تحذير مسبق دقيق، على الرغم من تلقي إشارات وتقارير مختلفة طوال الليل. وبالتالي، لم تكن القوات على حدود غزة مستعدة للقتال، مما أدى إلى كارثة. وعلى الرغم من وجود علامات على نشاط غير عادي من قبل حماس، فإنَّ القوات في المنطقة لم توضع حتى في حالة تأهب قصوى عند الفجر.

لقد كان لدى إسرائيل تقييم أكثر دقة لقدرات حزب الله وقوة الرضوان على اختراق الحدود. ومع ذلك، من الواضح في الماضي أنَّه لم يكن هناك استعداد كافٍ لكبح هذا التهديد. لقد اعتمد الجيش الإسرائيلي على قدرة “أمان” على توفير تحذير مسبق كافٍ يسمح بالاستعداد المناسب قبل مثل هذا الهجوم.

 ومن المستحيل أن نعرف ما إذا كانت شعبة “أمان” قادرة على تلبية هذه التوقعات. ومع ذلك، يبدو في ضوء ما حدث أنَّ إسرائيل لم يكن ينبغي لها أن تعتمد على مثل هذا التحذير، وأنَّ انتشار الجيش الإسرائيلي على طول الحدود اللبنانية ــ من جانب القوات النظامي ووحدات الاحتياط وفرق الطوارئ المحلية في المدن والقرى ــ كان بعيدًا كل البعد عن الحد الأدنى الضروري لمنع وقوع كارثة، والتي كان من الممكن أن تكون أسوأ حتى من كارثة السابع من أكتوبر 2023.

لذلك، فإنَّ مسألة التحذير المسبق من الحرب لا تعتمد فقط على تحذير محدد واضح، مثل التحذير الذي حصل عليه الأمريكيون بشكل فريد في أوكرانيا، أو الذي حصلت عليه إسرائيل جزئيًّا عشية يوم الغفران في عام 1973. وبالمثل، لا تقاس مسألة النوايا مقابل القدرات من حيث “الكل أو لا شيء”. وحتى في غياب تحذير دقيق، يتعين على البلدان والجيوش أن تسأل نفسها دائمًا عما قد يحدث إذا هاجمها عدو معاد وخطير.

 ولكن ما الانتشار الدفاعي المطلوب إذا تحقق التهديد دون أي تحذير مسبق محدد؟

 هذا هو السؤال الذي طُرح، على الرغم من تقييم “أمان”، في الأسبوع الذي سبق حرب يوم الغفران، وتم الرد عليه بشكل حاسم، وإن كان غير كامل، في ذلك الوقت. وعلى النقيض من ذلك، لم يُطرح السؤال بشأن حماس وحزب الله بالجدية المطلوبة في عام 2023.

لذلك فإنَّ صورة الفشل الاستخباراتي من حيث المفاجآت الاستراتيجية جاءت أكثر شمولًا وتناسقًا مما يُفترض عادة. ومع ذلك، فهي أيضًا معقدة ومتعددة الأبعاد، مما يترك مجالًا للأمل الحذر عند استخلاص الدروس الاستخباراتية والعملياتية من الفشل التام في السابع من أكتوبر.

توضح سلسلة الإخفاقات السابقة أنَّه لا يوجد علاج لهذه المشكلة. الجهود المبذولة لتعزيز القدرة على تقديم تحذير محدد من الهجمات المحتملة في المستقبل القريب لا تزال غير كافية. وإنَّ استمرار الحرب الوشيكة يتطلب بذل الجهود الاستخباراتية الرامية إلى تحديد النوايا، حتى ولو أثبتت التجربة أنَّ هذا لا يمكن الوثوق به بشكل كامل. ولكن في الوقت نفسه، لا بُدَّ من توفير استجابة دفاعية لقدرات العدو المهددة، والتي من شأنها على الأقل أن تمنع الانهيار التام في حالة حدوث المفاجأة الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى