لقد أدى هجوم حماس الصادم على إسرائيل إلى التعجيل ببداية النهاية للشرق الأوسط، حيث إنَّ ما بدأ دون مبالغة هو الحرب القادمة، وهي الحرب التي ستكون دموية ومكلفة ولا يمكن التنبؤ بمسارها ونتائجها إلى حد مؤلم. إنَّ ما انتهى بالنسبة لأي شخص يرغب في الاعتراف بذلك، هو الوهم بأنَّ الولايات المتحدة قادرة على تخليص نفسها من المنطقة التي هيمنت على أجندة الأمن القومي الأمريكي طيلة نصف القرن الماضي.
لا يمكن للمرء أن يلوم إدارة بايدن على محاولتها القيام بذلك، لقد كان لعشرين عامًا من مكافحة الإرهاب إلى جانب الفشل في بناء الدولة في أفغانستان والعراق، خسائر فادحة في المجتمع والسياسة الأميركيين، كما استنزفت ميزانية الولايات المتحدة.
وقد أدرك الرئيس بايدن بعد أن ورث التداعيات الفوضوية الناجمة عن نهج إدارة ترامب الخاطئ تجاه المنطقة، أنَّ التشابكات الأمريكية في الشرق الأوسط تصرف الانتباه عن التحديات الأكثر إلحاحًا التي تفرضها القوة العظمى الصاعدة للصين والقوة المتراجعة لروسيا المتمردة.
اعتمد البيت الأبيض إستراتيجية خروج مبتكرة في محاولة لبناء توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط من شأنه أن يسمح لواشنطن بتقليص وجودها واهتمامها مع ضمان عدم ملء بكين للفراغ ودعم محاولة تاريخية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، واللذين يُعدان أهم شريكين إقليميين لواشنطن رسميًّا، وذلك لدعمهما ضد إيران عدوهما المشترك ولوضع السعوديين خارج محيط المدار الإستراتيجي للصين.
وبالتوازي مع هذه الجهود، سعت الإدارة الأمريكية أيضًا إلى تخفيف التوترات مع إيران أخطر خصم تواجهه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبعد أن حاولت وفشلت في إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 بشبكة معقدة من القيود والإشراف على البرنامج النووي الإيراني، تبنت واشنطن خُطة بديلة من المكافآت والتفاهمات غير الرسمية، وكان الأمل هو أنَّه مقابل مكافآت اقتصادية متواضعة يمكن إقناع طهران بإبطاء عملها في برامجها النووية والتراجع عن استفزازاتها في جميع أنحاء المنطقة.
جاءت المرحلة الأولى في سبتمبر الماضي من خلال اتفاق أدى إلى إطلاق سراح خمسة أمريكيين محتجزين ظلمًا في السجون الإيرانية ومنح طهران إمكانية الوصول إلى 6 مليار دولار من عائدات النفط المجمدة سابقًا. واستعد الجانبان لإجراء محادثات إضافية في سلطنة عمان، مع تعزيز عجلات الدبلوماسية بصادرات النفط الإيرانية التي وصلت مستويات قياسية بفضل غض واشنطن الطرف عنها بدلًا من فرض عقوباتها عليها.
ومع استمرار المناورات السياسية الطموحة، كان هناك الكثير مما يمكن التوصية به في هذه المناورة -على وجه الخصوص، التقاء المصالح الحقيقي بين القادة الإسرائيليين والسعوديين الذي ولّد بالفعل زخمًا ملموسًا نحو المزيد من التعاون الثنائي المباشر في المسائل الأمنية والاقتصادية، وإذا نجح ذلك لكان من الممكن أن يكون للتحالف الجديد بين اثنين من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة تأثير تحويلي حقيقي على البيئة الأمنية والاقتصادية في الشرق الأوسط الكبير.
ماذا حدث؟
ولسوء الحظ ربما كان هذا الوعد بمثابة تراجع عنه، حيث إنَّ محاولة بايدن للهروب السريع من الشرق الأوسط عانت عيبًا قاتلًا واحدًا: فقد أخطأت في فَهم الحوافز المقدمة لإيران اللاعب الأكثر تخريبًا على المسرح، ولم يكن من المعقول على الإطلاق أن تكون التفاهمات غير الرسمية وتخفيف العقوبات كافية لتهدئة الجمهورية الإسلامية ووكلائها الذين لديهم تقدير قوي ومجرب عبر الزمن لفائدة التصعيد في تعزيز مصالحهم الإستراتيجية والاقتصادية.
لقد توافرت لدى القادة الإيرانيين كل الحوافز لمحاولة منع حدوث اختراق إسرائيلي سعودي في التطبيع، خاصة ذلك الذي من شأنه أن يوسع الضمانات الأمنية الأمريكية للرياض ويسمح للسعوديين بتطوير برنامج للطاقة النووية المدنية.
في الوقت الحالي ليس من المعروف ما إذا كان لإيران أي دور محدد في الهجوم الدموي الذي وقع في إسرائيل، ففي وقت سابق من هذا الأسبوع ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أنَّ طهران متورطة مباشرة في التخطيط للهجوم، نقلًا عن أعضاء كبار في حماس وحزب الله اللبناني لم تذكر أسماءهم. ولم يؤكد هذا التقرير من قبل المسؤولين الإسرائيليين أو الأمريكيين رغم إشارة جون فاينر نائب مستشار الأمن القومي إلى أنَّ إيران “متواطئة على نطاق واسع” على حد تعبيره.
على أقل تقدير فإنَّ العملية تحمل بصمات الدعم الإيراني وَفق ما ورد في تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين كبار سابقين وحاليين. وحتى لو لم تضغط طهران على الزناد، فإنَّ أيديها ليست نظيفة، فإيران قد مولت ودربت وجهزت حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة ونسقت بدقة فيما يتعلق بالإستراتيجية، فضلًا عن العمليات خاصة خلال العقد الماضي. ومن غير المتصور أن تقوم حماس بهجوم بهذا الحجم والتعقيد دون بعض المعرفة المسبقة والدعم الإيجابي من القيادة الإيرانية. والآن يبتهج المسؤولون الإيرانيون ووسائل الإعلام الإيرانية بالقسوة التي تضمنها هجوم حماس على الإسرائيليين، ويرددون أنَّ هجوم حماس سوف يؤدي إلى زوال إسرائيل.
ما الفائدة من ذلك؟
للوهلة الأولى قد يبدو موقف إيران متناقضًا، ففي نهاية المطاف مع تقديم إدارة بايدن حوافز اقتصادية للتعاون، قد يبدو من غير الحكمة أن تحرض إيران على اندلاع نزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين من شأنه أن يقوض بلا شك أي احتمال لذوبان الجليد بين واشنطن وطهران، لكن منذ الثورة الإيرانية عام 1979 استخدمت طهران التصعيد كأداة سياسية مفضلة، وعندما يتعرض النظام إلى الضغوط تدعو قواعد اللعبة الثورية إلى شن هجوم مضاد لإثارة أعصاب خصومه وتحقيق ميزة تكتيكية. وتعمل الحرب في غزة على تعزيز الهدف الذي طال انتظاره للقيادة الإيرانية والمتمثل في شل عدوها الإقليمي الأكثر شراسة، ولم يتردد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي قط في عدائه المحموم تجاه إسرائيل والولايات المتحدة، فهو ومن حوله مقتنعون بشدة بالفجور والجشع والشر الأمريكي؛ إنَّهم يسبون إسرائيل ويطالبون بتدميرها كجزء من الانتصار النهائي للعالم الإسلامي على ما يعدونه الغرب المتدهور و”الكيان الصهيوني” غير الشرعي.
بالإضافة إلى ذلك إثر التفاهمات والمصالحات التي قدمتها إدارة بايدن شَمَّت طهران رائحة الضعف، أي رغبة واشنطن اليائسة في التخلص من أعباء حِقبة 11 سبتمبر، حتى لو كان الثمن باهظًا. ومن المرجح أيضًا أن تؤدي الاضطرابات الداخلية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إثارة شهية الزعماء الإيرانيين، الذين كانوا على قناعة منذ فترة طويلة بأنَّ الغرب يتحلل من الداخل، ولهذا السبب ظلت طهران ملتزمة بقوة أكبر بعلاقاتها مع الصين وروسيا وهذه الروابط مدفوعة في المقام الأول بالانتهازية والاستياء المشترك من واشنطن.
لكن بالنسبة لإيران هناك عنصر سياسي داخلي أيضًا، فمع دفع شرائح أكثر اعتدالًا من النخبة الإيرانية إلى الهامش، تحول التوجه الاقتصادي والدبلوماسي للنظام نحو الشرق، حيث لم يعد سماسرة السلطة ينظرون إلى الغرب باعتباره طرفًا مفضلًا أو حتى قابلًا لإحياء الفرص الاقتصادية والدبلوماسية. وقد شجعت الروابط الوثيقة بين الصين وإيران وروسيا على اتخاذ موقف إيراني أكثر عدوانية، لأنَّ الأزمة في الشرق الأوسط التي تشتت انتباه واشنطن والعواصم الأوروبية ستنتج بعض الفوائد الإستراتيجية والاقتصادية لموسكو وبكين.
وأخيرًا من المؤكد أنَّ احتمال التوصل إلى اتفاق علني بين إسرائيل والسعودية قد وفّر حافزًا إضافيًّا لإيران، لأنَّه كان من شأنه أن يعيد التوازن الإقليمي بقوة لصالح واشنطن، وفي خطاب ألقاه قبل أيام قليلة من هجوم حماس، حذر خامنئي من أنَّ “النظرة الراسخة للجمهورية الإسلامية هي أنَّ الحكومات التي تراهن على تطبيع العلاقات مع النظام الصهيوني ستتكبد خسائر وتنتظرهم الهزيمة وترتكب خطأ.”
مع بدء الحملة البرية الإسرائيلية في غزة، فمن غير المرجح أن يستمر الصراع هناك فقط؛ والسؤال الوحيد هو نطاق وسرعة توسع الحرب، ففي الوقت الحالي يركز الإسرائيليون على التهديد المباشر ولا يرغبون في توسيع الصراع، لكن الخيار قد لا يكون لهم فلقد شارك حزب الله الحليف الأكثر أهمية لإيران في تبادل إطلاق النار على الحدود الشمالية لإسرائيل، الذي قُتل فيه أربعة على الأقل من مقاتلي الجماعة. وبالنسبة لحزب الله فإنَّ إغراء متابعة صدمة نجاح حماس بفتح جبهة ثانية سيكون قويًّا، لكن قادة حزب الله أقروا بأنَّهم فشلوا في توقع الخسائر الفادحة التي ستترتب على حربهم مع إسرائيل عام 2006، والتي تركت الجماعة على قيد الحياة ولكنها أدت أيضًا إلى تآكل قدراتها بشدة، وربما يكونون أكثر حذرًا هذه المرة. وطهران أيضًا لديها مصلحة في إبقاء حزب الله موحدًا قويًّا كتأمين ضد أي ضربة إسرائيلية محتملة في المستقبل للبرنامج النووي الإيراني.
لذلك في الوقت الحالي، على الرغم من أنَّ التهديد بحرب أوسع نطاقًا لا يزال حقيقيًّا، فإنَّ هذه النتيجة ليست حتمية، فلقد أتقنت الحكومة الإيرانية تجنب الصراع المباشر مع إسرائيل، ومن المناسب لأهداف طهران، وكذلك أغراض وكلائها الإقليميين ورعاتها في موسكو إشعال النار مع الابتعاد عن النيران.
قد يدعو البعض في إسرائيل إلى ضرب أهداف إيرانية حتى لو كان ذلك فقط لإرسال رسالة، لكن الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية مشغولة الآن، ويبدو أنَّ كبار المسؤولين عازمون على الاستمرار في التركيز على القتال الدائر، وعلى الأرجح مع تطور الصراع ستضرب إسرائيل في مرحلة ما الأصول الإيرانية في سوريا لكن ليس في إيران نفسها، وحتى الآن استوعبت طهران مثل هذه الضربات في سوريا دون أن تشعر بالحاجة إلى الانتقام مباشرة.
بينما تتفاعل أسواق النفط مع عودة المخاطر في الشرق الأوسط، قد تميل طهران إلى استئناف هجماتها ومضايقتها لسفن الشحن في الخليج، وكان الجنرال الأمريكي براون الذي عُين مؤخرًا رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة محقًا في تحذير طهران من البقاء على الهامش وعدم التدخل، لكن اختياره للكلمات يشير للأسف إلى فشله في تقدير حقيقة أنَّ الإيرانيين متورطون بالفعل بشكل لا ينفصم.
بالنسبة لإدارة بايدن لقد قد مضى وقت طويل على التخلص من العقلية التي شكلت الدبلوماسية السابقة تجاه إيران، ألا وهي الاقتناع بإمكانية إقناع إيران بقبول التنازلات العملية التي تخدم مصالح بلادها. وذات مرة ربما كان ذلك ذا مصداقية، لكن النظام الإيراني عاد إلى فرضيته الأساسية وهي التصميم على قلب النظام الإقليمي بأي وسيلة ضرورية، فينبغي لواشنطن أن تتخلص من أوهام التوصل إلى هدنة مع الفئة الثيوقراطية الحاكمة في إيران.
وفي كل التحديات الجيوسياسية الأخرى تطور موقف بايدن تطورًا كبيرًا عن نهج عهد أوباما، حيث إنَّ سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران هي وحدها التي تظل غارقة في الافتراضات التي عفا عليها الزمن قبل عقد من الزمن، وفي البيئة الحالية لن يؤدي التواصل الدبلوماسي الأمريكي مع المسؤولين الإيرانيين في عواصم الخليج إلى ضبط النفس الدائم من جانب طهران.
تحتاج واشنطن إلى نشر الواقعية المتشددة نفسها تجاه إيران، التي ساهمت في توجيه السياسة الأمريكية مؤخرًا تجاه روسيا والصين، والتي تتمثل في بناء تحالفات من الدول الراغبة في زيادة الضغط وشل شبكة الإرهاب العابرة للحدود الوطنية التابعة لإيران وإعادة التنفيذ الهادف للعقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني والإيصال بوضوح -من خلال الدبلوماسية والقوة والإجراءات لاستباق الاستفزازات الإيرانية أو الرد عليها- أنَّ الولايات المتحدة مستعدة لردع العدوان الإقليمي الإيراني والتقدم في البرنامج النووي.
إنَّ الشرق الأوسط يتمتع بطريقة تجعله يفرض نفسه على رأس جدول أعمال كل رئيس أمريكي؛ وفي أعقاب هذا الهجوم المدمر يجب على البيت الأبيض أن يرقى إلى مستوى التحدي.
*كاتب المقال: سوزان مالوني
نائبة رئيس معهد بروكينجز ومديرة برنامج السياسة الخارجية بالمعهد.