استراتيجيترجماتعسكري

عصر الحروب الأبدية: لماذا لم تعد الاستراتيجية العسكرية قادرة على تحقيق النصر؟

لورانس فريدمان أستاذ فخري لدراسات الحرب في كلية كينغز كوليدج بلندن

في عملية عاصفة الصحراء عام ١٩٩١ لتحرير الكويت من العراق، أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها في التحالف قوة برية وجوية وبحرية هائلة. وانتهت الحرب في غضون أسابيع. كان التناقض بين حرب الولايات المتحدة المرهقة وغير الناجحة في فيتنام وحرب الاتحاد السوفيتي في أفغانستان جليًّا، حتى أنَّ النصر السريع في حرب الخليج الثانية أدى إلى الحديث عن حقبة جديدة من الحروب تحت لافتة “ثورة في الشؤون العسكرية”. من الآن فصاعدًا، كما زعمت النظرية، سيُهزم الأعداء بالسرعة والمناورة، مع معلومات استخباراتية آنية توفرها أجهزة استشعار ذكية تُوجه الهجمات الفورية باستخدام أسلحة ذكية.

ثبت أنَّ تلك الآمال قصيرة الأجل. لم تكن حملات مكافحة التمرد التي شنها الغرب في العقود الأولى من القرن الحالي، والتي وُصفت فيما بعد بالحروب الأبدية، قصيرة. لقد كانت الحملة العسكرية لواشنطن في أفغانستان الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، وفي النهاية لم تنجح، فرغم طردها في بداية الغزو الأمريكي، عادت حركة طالبان للحكم في النهاية.

 ولا تقتصر هذه المشكلة على الولايات المتحدة وحلفائها. ففي فبراير 2022، شنت روسيا غزوًا شاملًا لأوكرانيا كان من المفترض أن يجتاح البلاد في غضون أيام. والآن، حتى لو أمكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فإنَّ الحرب ستكون قد استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، هيمن عليها خلالها قتال ضارٍ ومستنزف بدلًا من إجراءات جريئة وسريعة.

 وبالمثل، عندما شنت إسرائيل غزوها لقطاع غزة ردًّا على هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 واحتجازها للرهائن، حث الرئيس الأمريكي جو بايدن على أن تكون العملية الإسرائيلية “سريعة وحاسمة وساحقة”. لكنها تجاوزت 15 شهرًا، وامتدّت إلى جبهات أخرى في لبنان وسوريا واليمن، قبل التوصل إلى وقف إطلاق نار هشّ في يناير/كانون الثاني 2025. وبحلول منتصف مارس/آذار، تجدّدت الحرب. كما تبرز صراعاتٍ عديدة في إفريقيا، بما في ذلك السودان ومنطقة الساحل، لا نهاية لها في الأفق.

بدأت فكرة أنَّ الهجمات المفاجئة يمكن أن تُحقق انتصارات حاسمة تترسخ في الفكر العسكري منذ القرن التاسع عشر. ولكن، مرارًا وتكرارًا، أظهرت القوات التي تشنها صعوبة إنهاء الحرب مبكرًا وبشكل مُرض.

 وَثَق القادة العسكريون الأوروبيون من أنَّ الحرب التي بدأت في صيف عام 1914 يمكن أن “تنتهي بحلول عيد الميلاد” – وهي عبارة لا تزال يُستشهد بها كلما بدا الجنرالات متفائلين للغاية؛ بدلًا من ذلك، استمر القتال حتى نوفمبر 1918، وانتهى بهجمات سريعة، ولكن فقط بعد سنوات من حرب الخنادق المدمرة على امتداد خطوط جبهة شبه ثابتة.

في عام 1940، اجتاحت ألمانيا جزءًا كبيرًا من أوروبا الغربية في غضون أسابيع عن طريق حرب خاطفة، جمعت بين المدرعات والقوة الجوية. لكنها لم تستطع إنهاء المهمة، وبعد التقدم السريع الأولي ضد الاتحاد السوفيتي في عام 1941، انجرت برلين إلى حرب وحشية مع خسائر فادحة في كلا الجانبين، والتي لم تنته إلا بعد ما يقرب من أربع سنوات بالانهيار التام للرايخ الثالث.

وعلى نحو مماثل، انتهى القرار الذي اتخذته القيادة العسكرية اليابانية بشن هجوم مفاجئ على الولايات المتحدة في ديسمبر 1941 إلى هزيمة كارثية للإمبراطورية اليابانية في أغسطس 1945. وفي الحربين العالميتين، لم يكن مفتاح النصر يكمن في البراعة العسكرية بقدر ما كمن في القدرة على التحمل.

ومع ذلك، ورغم هذا التاريخ الطويل من الصراعات المطولة، لا يزال الاستراتيجيون العسكريون يُركزون تفكيرهم على الحروب القصيرة، حيث يُفترض أن تُحسم الأمور في الأيام الأولى، أو حتى الساعات الأولى، من القتال. ووفقًا لهذا النموذج، لا يزال من الممكن وضع استراتيجيات تُفاجئ العدو بسرعة الهجوم الأولي واتجاهه ووحشيته. ومع استمرار احتمالية انخراط الولايات المتحدة في حرب مع الصين بسبب تايوان، أصبحت جدوى هذه الاستراتيجيات مسألة مُلحَّة: هل تستطيع الصين الاستيلاء على الجزيرة بسرعة باستخدام القوة الخاطفة، أم ستتمكن تايوان بدعم من الولايات المتحدة من صد مثل هذا الهجوم فورًا؟

من الواضح أنَّه في خضم التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة ومجموعة متنوعة من الخصوم، ثمة اختلال خطير في التخطيط الدفاعي. ومع إدراك ميل الحروب إلى الاستمرار، بدأ بعض الاستراتيجيين بالتحذير من أخطار الوقوع في مغالطة “الحرب القصيرة”.

فمن خلال التركيز على الحروب القصيرة، يعتمد الاستراتيجيون بشكل مفرط على خطط المعارك الأولية التي قد لا تُطبّق عمليًّا، مع عواقب وخيمة. وقد جادل أندرو كريبينيفيتش بأنَّ حربًا أمريكية مطولة مع الصين “ستتضمن أنواعًا من الحروب لا يمتلك المتحاربون خبرة كبيرة بها” وأنَّها قد تُشكّل “الاختبار العسكري الحاسم في عصرنا”. علاوة على ذلك، فإنَّ عدم الاستعداد للحروب الطويلة يخلق نقاط ضعف خاصة به. وللانتقال من حرب قصيرة إلى حرب طويلة، يجب على الدول فرض متطلبات مختلفة على جيشها وعلى المجتمع ككل. كما ستحتاج إلى إعادة تقييم أهدافها وما هي مستعدة للالتزام به لتحقيقها.

بمجرد أن يقبل المخططون العسكريون أنَّ أي حرب معاصرة كبرى قد لا تنتهي بسرعة، فإنَّهم مطالبون بتبني عقلية مختلفة. تُخاض الحروب القصيرة بأي موارد متاحة في ذلك الوقت؛ تتطلب الحروب الطويلة تطوير القدرات التي تتكيف مع الضرورات التشغيلية المتغيرة، كما يتضح من التحول المستمر لحرب الطائرات دون طيار في أوكرانيا.

قد لا تمثل الحروب القصيرة سوى اضطرابات مؤقتة لاقتصاد الدولة ومجتمعها ولا تتطلب خطوط إمداد واسعة النطاق؛ بينما تتطلب الحروب الطويلة استراتيجيات للحفاظ على الدعم الشعبي والاقتصادات العاملة وطرق آمنة لإعادة التسليح وإعادة التزويد وتجديد القوات. وتتطلب الحروب الطويلة أيضًا التكيف والتطور المستمر: فكلما طال أمد الصراع، زاد الضغط من أجل الابتكارات في التكتيكات والتقنيات التي قد تؤدي إلى تحقيق تقدم كبير. حتى بالنسبة للقوة العظمى، فإنَّ الفشل في الاستعداد لهذه التحديات ثم طلب النهوض لمواجهتها قد يكون كارثيًّا.

ومع ذلك، من الإنصاف أيضًا التساؤل عن مدى واقعية التخطيط للحروب التي ليس لها نهاية واضحة. إنَّ الحفاظ على حملة مطولة لمكافحة التمرد أمر، والتحضير لصراع ينطوي على خسائر متواصلة وكبيرة في الأرواح والمعدات والذخيرة على مدى فترة طويلة أمر آخر تمامًا. بالنسبة لاستراتيجيي الدفاع، قد تكون هناك أيضًا عقبات كبيرة أمام هذا النوع من التخطيط: فقد تفتقر الجيوش التي يخدمونها إلى الموارد اللازمة للاستعداد لحرب طويلة. والحل لهذه المعضلة لا يكمن في الاستعداد لحروب غير محددة المدة، بل في تطوير نظريات نصر واقعية في أهدافها السياسية ومرنة في كيفية تحقيقها.

مغالطة الحرب القصيرة

إنَّ مزايا الحروب القصيرة -النجاح الفوري بتكلفة معقولة- واضحة للغاية لدرجة أنَّه لا يمكن تقديم مبرر للدخول عن سبق قصد في حرب طويلة. على النقيض من ذلك، فإنَّ مجرد التسليم بإمكانية أن تصبح الحرب طويلة الأمد قد يبدو كأنه تشكيك في قدرة الجيش على الانتصار على الخصم. إذا كانت ثقة الاستراتيجيين ضئيلة أو معدومة في إمكانية إبقاء الحرب المحتملة قصيرة، فيمكن القول إنَّ السياسة الحكيمة الوحيدة هي عدم خوضها على الإطلاق. ومع ذلك، بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة، قد لا يكون من الممكن استبعاد الصراع مع قوة عظمى أخرى بنفس القوة، حتى لو لم يكن النصر السريع مضمونًا. على الرغم من أنَّ القادة الغربيين لديهم نفور مفهوم من التدخل في الحروب الأهلية، فمن الممكن أيضًا أن تصبح أفعال خصم غير حكومي مستمرة وضارة لدرجة أنَّ العمل المباشر للتعامل مع التهديد يصبح أمرًا ضروريًّا، بغض النظر عن المدة التي قد يستغرقها ذلك.

لهذا السبب، يواصل الاستراتيجيون العسكريون صياغة خططهم حول الحروب القصيرة، حتى عندما لا يُمكن استبعاد الصراع المُطوّل. خلال الحرب الباردة، كان السبب الرئيسي لعدم تخصيص الجانبين موارد واسعة للتحضير لحرب طويلة هو افتراض استخدام الأسلحة النووية عاجلًا وليس آجلًا. في العصر الحالي، لا يزال هذا التهديد قائمًا. لكن احتمال تحول صراع بين القوى العظمى إلى ما يشبه الحروب العالمية الكارثية في القرن الماضي أمرٌ مُخيف، مما يُضيف إلحاحًا إلى الخطط المُصممة لتحقيق نصر سريع باستخدام القوات التقليدية.

تُركّز استراتيجيات تنفيذ هذا النوع المثالي من الحرب في المقام الأول على التحرك السريع، مع عنصر المفاجأة والقوة الكافية، لسحق الأعداء قبل أن يتمكنوا من الردّ المناسب. وتُقيّم عادةً تقنيات الحرب الجديدة بناءً على مدى مساهمتها في تحقيق نجاح سريع في ساحة المعركة، لا بناءً على مدى مساهمتها في ضمان سلام دائم. لنأخذ الذكاء الاصطناعي مثالًا. فبتسخيره، كما يُقال، ستتمكن الجيوش من تقييم أوضاع ساحة المعركة، وتحديد الخيارات، ثم اختيارها وتنفيذها في ثوانٍ معدودة. قد تُتّخذ قرارات حاسمة قريبًا بسرعة كبيرة لدرجة أنَّ المسؤولين، ناهيك عن العدو، لن يُدركوا ما يحدث.

لقد ترسخ الهوس بالسرعة لدرجة أنَّ أجيالًا من القادة العسكريين الأمريكيين تعلموا أن يرتعدوا عند ذكر حرب الاستنزاف، واعتمدوا المناورة الحاسمة كطريق لتحقيق انتصارات سريعة. إنَّ المعارك الطويلة من هذا النوع التي تجري الآن في أوكرانيا -حيث يسعى كلا الجانبين إلى إضعاف قدرات بعضهما البعض، ويُقاس التقدم بعدد القتلى والمعدات المدمرة ومخزونات الذخيرة المستنفدة- لا تُحبط الدول المتحاربة فحسب، بل تستغرق وقتًا طويلًا ومكلفة للغاية أيضًا. في أوكرانيا، أنفق كلا الجانبين بالفعل موارد هائلة، ولا يقترب أي منهما من أي شيء يشبه النصر. لا تُدار جميع الحروب بمثل هذه الكثافة العالية في الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن حتى الحرب غير النظامية المطولة يمكن أن تُسفر عن خسائر فادحة، مما يؤدي إلى شعور متزايد بالعبث بالإضافة إلى التكاليف المتزايدة.

على الرغم من أنَّه من المعروف أنَّ الهجمات المفاجئة الجريئة غالبًا ما تحقق أقل بكثير مما هو موعود به وأنَّ بدء الحروب أسهل بكثير من إنهائها، فإنَّ الاستراتيجيين ما زالوا قلقين من أنَّ الأعداء المحتملين قد يكونون أكثر ثقة في خططهم الخاصة لتحقيق نصر سريع وسيتصرفون وفقًا لذلك. وهذا يعني أنَّهم مطالبون بالتركيز على مرحلة الحرب الافتتاحية المحتملة.

يمكن الافتراض، على سبيل المثال، أنَّ لدى الصين استراتيجية للاستيلاء على تايوان تهدف إلى الإيقاع بالولايات المتحدة وهي غير مستعدة، مما يترك أمام واشنطن الرد بطرق إما لا أمل في نجاحها أو من المرجح أن تزيد الأمور سوءًا. لتوقع مثل هذا الهجوم المفاجئ، كرس الاستراتيجيون الأمريكيون الكثير من الوقت لتقييم كيف يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الآخرين مساعدة تايوان في إحباط التحركات الافتتاحية للصين -كما فعلت أوكرانيا مع روسيا في فبراير 2022- ثم جعل من الصعب على الصين الحفاظ على عملية معقدة على مسافة ما من البر الرئيسي. لكن حتى هذا السيناريو قد يؤدي بسهولة إلى إطالة أمد الحرب: فإذا نجحت أولى الهجمات المضادة للقوات التايوانية وحلفائها الغربيين، وتعثرت الصين لكنها لم تنسحب، فستظل تايوان والولايات المتحدة تواجهان مشكلة التعامل مع وجود القوات الصينية على الجزيرة. وكما تعلمت أوكرانيا، من الممكن أن تتورط في حرب طويلة الأمد لأنَّ خصمًا متهورًا أخطأ في تقدير المخاطر.

هذا لا يعني أنَّ الصراعات المسلحة الحديثة لا تنتهي بانتصارات سريعة. ففي يونيو 1967، استغرقت إسرائيل أقل من أسبوع لهزيمة تحالف من ثلاث دول عربية هزيمةً حاسمة في حرب الأيام الستة؛ وبعد ثلاث سنوات، عندما تدخلت الهند في حرب بنغلاديش من أجل الاستقلال، لم تستغرق القوات الهندية سوى 13 يومًا لهزيمة باكستان. كما تكللت انتصارات المملكة المتحدة على الأرجنتين في حرب فوكلاند عام 1982 بالنجاح بسرعة نسبية. ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، شهدت المنطقة حروبًا أخرى كثيرة تعثرت فيها النجاحات المبكرة، أو فقدت زخمها، أو لم تحقق ما يكفي، مما حوّل الصراعات إلى صراعات أكثر صعوبة.

في الواقع، قد تُوفر مشكلة الحروب الطويلة المتفشية ميزةً مهمةً لبعض أنواع المتحاربين. فقد يشرع المتمردون والانفصاليون في حملاتهم مُدركين أنَّ تقويض هياكل السلطة القائمة سيستغرق وقتًا، مُفترضين أنَّهم سيصمدون ببساطة أكثر من أعدائهم الأقوى. أما الجماعة التي تُدرك أنَّه من غير المُرجّح انتصارها في مواجهة سريعة، فقد تُدرك أنَّ لديها فرصًا أكبر للنجاح في صراع طويل وشاق، حيث يُنهك العدو ويفقد معنوياته. وهكذا في القرن الماضي، خاضت الحركات المُناهضة للاستعمار، ومؤخرًا الجماعات الجهادية، حروبًا استمرت عقودًا، ليس بسبب ضعف استراتيجيتها، بل لعدم وجود خيار آخر. وخاصةً عند مواجهة تدخل عسكري من جيش أجنبي قوي، فإنَّ الخيار الأمثل لهذه التنظيمات غالبًا ما يكون ترك العدو يُرهق من قتال غير حاسم، ثم العودة في الوقت المُناسب، كما فعلت طالبان في أفغانستان.

على النقيض من ذلك، تميل القوى العظمى إلى افتراض أنَّ تفوقها العسكري الكبير سيسحق خصومها بسرعة. هذه الثقة المفرطة تعني أنَّها تفشل في تقدير حدود قوتها العسكرية، وبالتالي تضع أهدافًا لا يمكن تحقيقها، إن وُجدت، إلا من خلال صراع طويل الأمد. تكمن المشكلة الأكبر في أنَّها بتركيزها على النتائج الفورية في ساحة المعركة، قد تُهمل العناصر الأوسع اللازمة للنجاح، مثل تهيئة الظروف لسلام دائم، أو إدارة بلد محتل بفعالية بعد الإطاحة بنظام معادٍ وقبل تنصيب حكومة شرعية. لذا، عمليًّا، لا يكمن التحدي في مجرد التخطيط لحروب طويلة بدلًا من حروب قصيرة، بل في التخطيط لحروب ذات نظرية نصر عملية وأهداف واقعية، مهما طال الزمن الذي قد يستغرقه تحقيقها.

عدم الخسارة لا يعني الفوز

استراتيجية الحرب الفعّالة لا تقتصر على الأسلوب العسكري فحسب، بل تشمل أيضًا الهدف السياسي. من الواضح أنَّ التحركات العسكرية تكون أكثر نجاحًا عند اقترانها بطموح سياسي محدود. نجحت حرب الخليج الثانية عام 1991؛ لأنَّ إدارة جورج بوش الأب هدفت فقط إلى إخراج العراق من الكويت، وليس إلى الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. ربما كان غزو روسيا لأوكرانيا عام ٢٠٢٢ ليحقق نجاحًا أكبر لو ركز على دونباس بدلًا من محاولة السيطرة على البلاد بأكملها.

مع محدودية الطموح، يسهل أيضًا تقديم التنازلات. تتطلب نظرية النصر العملية استراتيجيةً تتناغم فيها الأهداف العسكرية والسياسية. قد يكون السبيل الوحيد لحل النزاع هو الهزيمة الكاملة للعدو، وفي هذه الحالة يجب تخصيص موارد كافية لهذه المهمة. في أحيان أخرى، قد تُتخذ مبادرة عسكرية على أمل راسخ بأنَّها ستؤدي إلى مفاوضات مبكرة. كان هذا هو رأي الأرجنتين في أبريل 1982 عندما استولت على جزر فوكلاند. وعندما أمر الرئيس المصري أنور السادات قواته المسلحة بعبور قناة السويس في أكتوبر 1973، فعل ذلك لتهيئة الظروف لإجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل. علقت قواته المسلحة في المعركة، لكنه نال مراده السياسي.

إنَّ الاستخفاف بموارد العدو السياسية والعسكرية هو أحد الأسباب الرئيسية لفشل استراتيجيات الحرب القصيرة. افترضت الأرجنتين أنَّ المملكة المتحدة ستقبل الأمر الواقع عندما استولت على جزر فوكلاند، ولم تتخيل أنَّ البريطانيين سيرسلون قوة عسكرية لتحرير الجزر. غالبًا ما تُشن الحروب باعتقاد خاطئ بأنَّ شعب القوة المعادية سينهار قريبًا تحت وطأة الهجوم. قد يفترض الغزاة أنَّ شريحة من السكان ستحتضنهم، كما تجلّى في غزو العراق لإيران عام ١٩٨٠، وفي غزو إيران المضاد للعراق. استندت روسيا في هجومها الشامل على أوكرانيا إلى فهم خاطئ مماثل، فقد افترضت وجود أقلية محاصرة -في هذه الحالة، الناطقين بالروسية- سترحب بقواتها؛ وأنَّ الحكومة في كييف تفتقر إلى الشرعية ويمكن إسقاطها بسهولة؛ وأنَّ وعود الغرب بدعم أوكرانيا لن تُحدث فرقًا يُذكر. لم يصمد أي من هذه الافتراضات في الأيام الأولى للحرب.

عندما لا تُسفر خطة الحرب القصيرة عن النصر المتوقع، فإنَّ التحدي الذي يواجه القادة العسكريين هو تحقيق توازن جديد بين الوسائل والغايات. بحلول سبتمبر 2022، أدرك الرئيس بوتين أنَّ روسيا تُخاطر بهزيمة مُذلة ما لم تتمكن من جلب المزيد من الجنود إلى الجبهة ووضع اقتصادها على أهبة الاستعداد للحرب الشاملة. وبصفته زعيم استبدادي، يمكن لبوتين قمع المعارضة الداخلية والحفاظ على السيطرة على وسائل الإعلام ولم يكن عليه القلق كثيرًا بشأن الرأي العام. ومع ذلك، كان بحاجة إلى رواية جديدة. بعد أن أكد قبل الحرب أنَّ أوكرانيا ليست دولة حقيقية وأنَّ قادتها “النازيين الجدد” استولوا على السلطة من خلال انقلاب عام 2014، لم يستطع تفسير سبب عدم انهيار البلاد ف عندما ضربتها قوة روسية متفوقة. لذلك غيّر بوتين روايته: زعم أنَّ أوكرانيا تُستخدم من قبل دول الناتو، ولا سيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لتحقيق أهدافها المعادية لروسيا.

رغم أنَّ الكرملين صوّر الغزو في البداية على أنَّه عملية عسكرية خاصة محدودة، فإنَّه يصوره الآن على أنَّه صراع وجودي. هذا يعني أنَّه بدلًا من مجرد منع أوكرانيا من أن تصبح مصدر إزعاج، سعت روسيا الآن إلى أن تثبت لدول الناتو أنَّه لا يمكن كسرها بالعقوبات الاقتصادية أو إمدادات الأسلحة التي يقدمها الحلف لأوكرانيا.

وبوصفها الحرب بأنَّها دفاعية، أخبرت الحكومة الروسية شعبها بمدى المخاطر، مُحذّرةً إياه في الوقت نفسه من استحالة توقع نصر سريع. وبدلًا من تقليص أهدافها للاعتراف بصعوبة هزيمة الأوكرانيين في المعركة، كثّف الكرملين هذه الأهداف لتبرير الجهد الإضافي. بضم أربع مقاطعات أوكرانية بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم، ومواصلة المطالبة بحكومة مُستسلمة في كييف، جعلت روسيا إنهاء الحرب أكثر صعوبة، لا أسهل. يُظهر هذا الوضع صعوبة إنهاء الحروب التي لا تسير على ما يُرام، فإمكانية الفشل غالبًا ما تُضيف هدفًا سياسيًّا هو الرغبة في تجنب مظهر الضعف وعدم الكفاءة. كانت المخاوف المتعلقة بالسمعة أحد الأسباب التي جعلت الحكومة الأمريكية تتمسك بالبقاء في فيتنام لفترة طويلة بعد أن أصبح من الواضح أن النصر أصبح بعيد المنال.

إنَّ استبدال نظرية نصر فاشلة بأخرى واعدة بشكل أكبر، لا يتطلب إعادة تقييم نقاط القوة الفعلية للعدو فحسب، بل يتطلب أيضًا إدراك عيوب الافتراضات السياسية التي استندت إليها الخطوات الافتتاحية. لنفترض أنَّ مساعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار أتت بثمارها، تاركةً الحرب مجمدة على طول خطوط المواجهة الحالية. قد تُصوّر موسكو مكاسبها الإقليمية على أنَّها نوع من النجاح، لكنها لا تستطيع ادعاء النصر الحقيقي طالما أنَّ لدى أوكرانيا حكومة مستقلة فاعلة وموالية للغرب. إذا قبلت أوكرانيا مؤقتًا بخسائرها الإقليمية، لكنها لا تزال قادرة على بناء قواتها والحصول على شكل من أشكال الضمانات الأمنية بمساعدة شركائها الغربيين، فستظل النتيجة بعيدة كل البعد عن مطلب روسيا المتكرر بأوكرانيا محايدة منزوعة السلاح. ستُترك روسيا لإدارة ودعم منطقة مدمرة ذات سكان مستائين، بينما يتعين عليها الدفاع عن خطوط وقف إطلاق النار الطويلة.

مع أنَّ روسيا لم تتمكن من كسب الحرب، إلا أنَّها لم تخسر حتى الآن. أُجبرت على الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلتها في بداية الحرب، لكنها منذ أواخر عام ٢٠٢٣ حققت مكاسب بطيئة، وإن كانت مستمرة في الشرق. من ناحية أخرى، لم تخسر أوكرانيا أيضًا؛ إذ قاومت بنجاح محاولات روسيا لإخضاعها، وأجبرتها على دفع ثمن باهظ لكل ميل مربع استولت عليه. والأهم من ذلك، أنَّها لا تزال دولة فاعلة.

لا نهاية في الأفق

في التعليق على الحروب المعاصرة، يُعدّ التمييز بين “الفوز” و”عدم الخسارة” أمرًا بالغ الأهمية، وإن كان يصعب إدراكه. الفرق ليس بديهيًّا نظرًا لافتراض وجود منتصر دائمًا في الحرب، ولأنَّ أحد الطرفين قد يبدو في أي وقت رابحًا، حتى لو لم يكن قد فاز بالفعل. لا تُعبّر مصطلحات مثل الجمود عن حالة “عدم الخسارة” تمامًا، لأنَّها تعني ضمنيًّا تحركًا عسكريًّا محدودًا. يمكن أن يكون كلا الطرفين “غير خاسرين” عندما لا يستطيع أي منهما فرض نصر على الآخر، حتى لو تمكن أحدهما أو كلاهما أحيانًا من تحسين مواقعه.

ولهذا السبب، عادةً ما تتخذ مقترحات إنهاء الحروب المطولة شكل دعوات لوقف إطلاق النار. لكن مشكلة وقف إطلاق النار هي أنَّ أطراف النزاع تميل إلى اعتباره مجرد توقف مؤقت في القتال. قد لا يكون له تأثير يُذكر على النزاعات الكامنة، وقد يمنح كلا الطرفين فرصة للتعافي وإعادة تنظيم صفوفهما للجولة التالية. لقد استمر وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب الكورية في عام 1953 لأكثر من 70 عامًا، لكن الصراع لا يزال دون حل ويواصل الجانبان الاستعداد لحرب مستقبلية.

لا تزال معظم نماذج الحرب تفترض التفاعل بين قوتين مسلحتين نظاميتين. ووفقًا لهذا الإطار، يتحقق النصر العسكري الحاسم عندما تعجز قوات العدو عن العمل، ومن المفترض أن تُترجم هذه النتيجة إلى نصر سياسي أيضًا، إذ لا خيار أمام الطرف المهزوم سوى قبول شروط المنتصر. بعد سنوات من التوتر والقتال المتقطع، قد يصل أحد الطرفين إلى وضع يسمح له بادعاء نصر قاطع. ومن الأمثلة على ذلك هجوم أذربيجان على ناغورنو كاراباخ عام ٢٠٢٣، والذي أنهى حربًا استمرت ثلاثة عقود مع أرمينيا.

من ناحية أخرى، حتى لو ظلت القوات المسلحة لدولة ما سليمة إلى حد كبير، فقد تتزايد الضغوط على حكومتها لإيجاد مخرج من الصراع نظرًا للتكاليف البشرية والاقتصادية المتراكمة. أو قد لا يكون هناك أمل في تحقيق نصر حقيقي، كما أدركت صربيا في حربها ضد حلف الناتو في كوسوفو عام ١٩٩٩. عندما يشهد أحد أطراف الصراع تغييرًا في نظامه الداخلي، فقد يؤدي ذلك أيضًا إلى نهاية مفاجئة للأعمال العدائية. ومع ذلك، عندما تنتهي، من المرجح أن تترك الحروب الطويلة إرثًا مريرًا ودائمًا.

حتى في الحالات التي يُمكن فيها التوصل إلى تسوية سياسية، وليس مجرد وقف إطلاق نار، قد لا يُحل النزاع. قد تُثير التعديلات الإقليمية، وربما التنازلات الاقتصادية والسياسية الكبيرة من الجانب الخاسر، استياءً ورغبةً في التعويض بين السكان المهزومين. قد تظل الدولة المهزومة مُصممة على إيجاد سبل لاستعادة ما خسرته. كان هذا هو موقف فرنسا بعد التنازل عن الألزاس واللورين لألمانيا عام ١٨٧١ بعد الحرب الفرنسية البروسية. في حرب الفوكلاند، ادعت الأرجنتين استعادة أراضٍ فقدتها قبل قرن ونصف. علاوة على ذلك، بالنسبة للمنتصر، ستظل أراضي العدو التي تم الاستيلاء عليها وضمها بحاجة إلى حكم ومراقبة. إذا لم يكن من الممكن إخضاع السكان، فإنَّ ما قد يبدو في البداية استيلاءً ناجحًا على الأراضي قد ينتهي إلى حالة متقلبة من الإرهاب والتمرد.

على النقيض من النماذج القياسية للحرب، عادةً ما يكون للأعمال العدائية نقطة بداية واضحة وتاريخ نهاية واضح بنفس القدر، فإنَّ الصراعات المعاصرة غالبًا ما تكون لها حدود غير واضحة. تميل إلى المرور عبر مراحل، التي يمكن أن تشمل الحرب وفترات من الهدوء النسبي. خذ على سبيل المثال صراع الولايات المتحدة مع العراق. في عام 1991، هُزمت القوات العراقية بسرعة من قبل تحالف بقيادة الولايات المتحدة، فيما بدا ظاهريًّا حربًا قصيرة وحاسمة. ولكن لأنَّ الولايات المتحدة قررت عدم احتلال البلاد، تركت الحرب صدام حسين في السلطة، وخلق تحديه المستمر شعورًا بأنَّ العمل لم يكتمل. في عام 2003، في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، أعادت الولايات المتحدة غزو العراق وحققت نصرًا سريعًا آخر، وهذه المرة أُطيح بدكتاتورية صدام البعثية. لكن عملية استبدالها بشيء جديد عجلت بسنوات من العنف الطائفي المدمر الذي اقترب في بعض الأحيان من حرب أهلية كاملة. استمر بعض عدم الاستقرار هذا حتى يومنا هذا.

لأنَّ الحروب الأهلية وعمليات مكافحة التمرد تُخاض بين السكان، فإنَّ المدنيين يتحملون وطأة الضرر الناجم عن هذه الحروب؛ ليس فقط بوقوعهم في عنف طائفي متعمد أو تبادل إطلاق نار، بل أيضًا بإجبارهم على الفرار من ديارهم. وهذا أحد أسباب ميل هذه الحروب إلى إطالة أمد الصراع والفوضى. حتى عندما تقرر قوة متدخلة الانسحاب، كما فعل الاتحاد السوفيتي، وبعد ذلك بكثير، التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في أفغانستان، فإنَّ هذا لا يعني انتهاء الصراع، بل يعني فقط أنَّه يتخذ أشكالًا جديدة.

في عام 2001، كان لدى الولايات المتحدة خطة “حرب قصيرة” واضحة للإطاحة بطالبان، ونفذتها بنجاح وكفاءة نسبية باستخدام القوات النظامية جنبًا إلى جنب مع التحالف الشمالي بقيادة أفغانستان. ولكن لم تكن هناك استراتيجية واضحة للمرحلة التالية. لم تكن المشكلات التي واجهتها واشنطن ناجمة عن خصم عنيد يقاتل بالقوات النظامية، ولكن عن العنف المتوطن، حيث كانت التهديدات غير منتظمة ونشأت من المجتمع المدني، واعتمدت أي نتيجة مرضية على الأهداف المراوغة المتمثلة في جلب الحكم اللائق والأمن للسكان. بدون قوى خارجية لدعم الحكومة، تمكنت طالبان من العودة، واستمر تاريخ الصراع في أفغانستان.

إنَّ انتصار إسرائيل عام 1967 -وهو مثال نموذجي على النصر السريع- تركها أيضًا تحتل مساحة كبيرة من الأراضي ذات السكان الساخطين. لقد خلق الظروف للعديد من الحروب التي تلت ذلك، بما في ذلك حروب الشرق الأوسط التي اندلعت بهجمات حماس في 7 أكتوبر 2023. ومنذ ذلك الحين، خاضت إسرائيل حملات ضد حماس في قطاع غزة، الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005، وضد حزب الله في لبنان، حيث خاضت إسرائيل عملية سيئة الإدارة عام 1982. اتخذت الحملتان أشكالًا متشابهة، حيث جمعتا بين العمليات البرية لتدمير منشآت العدو، بما في ذلك شبكات الأنفاق، مع ضربات ضد مخازن الأسلحة وقاذفات الصواريخ وقادة الخصم. تسبب كلا الصراعين في سقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين وتدمير واسع النطاق للمناطق المدنية والبنية التحتية. ومع ذلك، يمكن اعتبار حرب لبنان ناجحة من منظور تل أبيب لأنَّ حزب الله وافق على وقف إطلاق النار بينما كانت الحرب في غزة لا تزال جارية، وهو أمر قال الحزب إنَّه سيرفضه. على النقيض من ذلك، لم يكن وقف إطلاق النار قصير الأمد في غزة انتصارًا؛ لأنَّ الحكومة الإسرائيلية سبق أن حددت هدفها بالقضاء التام على حماس، وهو ما لم تحققه. في مارس 2025 وبعد انهيار المفاوضات، استأنفت إسرائيل الحرب دون استراتيجية واضحة لإنهاء الصراع بشكل حاسم. ورغم استنزافها الشديد، لا تزال حماس تعمل، ودون خطة متفق عليها لحكم غزة مستقبلًا أو بديل فلسطيني قابل للتطبيق، ستظل حركة مؤثرة.

في إفريقيا، تبدو الصراعات المطولة متفشية. وهنا، يُعدّ العنف الماضي أفضل مؤشر على العنف المستقبلي. ففي جميع أنحاء القارة، تندلع الحروب الأهلية ثم تهدأ. وغالبًا ما تعكس هذه الحروب انقسامات عرقية واجتماعية عميقة تتفاقم بفعل التدخلات الخارجية، فضلًا عن أشكال أكثر فظاظة من صراع السلطة. ويضمن عدم الاستقرار الكامن صراعًا مستمرًا يمكن للأفراد والجماعات أن تكون لهم فيه مصلحة؛ ربما لأنَّ القتال يوفر حافزًا وغطاءً للإتجار بالأسلحة والبشر والسلع غير المشروعة.

 تنطوي الحرب الحالية في السودان على صراع أهلي وتحول في الولاءات، حيث أطاح تحالف بنظام البشير، ثم انقلب على نفسه، مما أدى إلى حرب أشد ضراوة. كما تشمل الحرب جهات فاعلة خارجية مثل مصر والإمارات، اللتين تهتمان بمنع الخصوم من تحقيق ميزة أكثر من اهتمامهما بإنهاء العنف وتهيئة الظروف للتعافي وإعادة الإعمار.

إثباتًا للقاعدة، غالبًا ما تكون اتفاقيات وقف إطلاق النار ومعاهدات السلام، عند حدوثها، قصيرة الأجل. وقّعت الأطراف السودانية أكثر من 46 معاهدة سلام منذ استقلال البلاد عام 1956. عادةً ما تُعرّف الحروب عندما تتفاقم إلى مواجهة عسكرية مباشرة، لكنّ الغليان الذي سبق الحرب وما بعدها جزء من العملية نفسها. بدلًا من اعتبارها أحداثًا منفصلة لها بداية ووسط ونهاية، يُمكن فهم الحروب بشكل أفضل على أنَّها نتيجة علاقات سياسية ضعيفة ومختلة يصعب إدارتها بالوسائل السلمية.

نوع مختلف من الردع

الدرس الرئيسي الذي يمكن للولايات المتحدة وحلفائها استخلاصه من تجربتهم الواسعة في الحروب الطويلة هو أنَّه من الأفضل تجنبها. فإذا تورطت الولايات المتحدة في صراع طويل الأمد مع القوى العظمى، فسيحتاج اقتصاد البلاد ومجتمعها بأكمله إلى الاستعداد للحرب. وحتى لو انتهت هذه الحرب بشيء يقارب النصر، فمن المرجح أن يُشتت السكان وتُستنزف الدولة جميع قدراتها الاحتياطية. علاوة على ذلك، وبالنظر إلى شدة الحروب المعاصرة، وسرعة الاستنزاف، وتكاليف الأسلحة الحديثة، فإنَّ زيادة الاستثمار في المعدات والذخيرة الجديدة قد لا تكون كافية لاستمرار حرب مستقبلية طويلة. كحد أدنى، ستحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها إلى شراء مخزونات كافية مسبقًا للبقاء في القتال فترة كافية لبدء تعبئة شاملة وأكثر جذرية.

ثم، بالطبع، هناك خطر الحرب النووية. ففي مرحلة ما خلال حرب مطولة تشمل روسيا أو الصين، قد يكون إغراء استخدام الأسلحة النووية لا يُقاوم. ومن المرجح أن يُفضي هذا السيناريو إلى نهاية مفاجئة لحرب تقليدية طويلة. فبعد سبعة عقود من الجدل حول الاستراتيجية النووية، لم يُعثر بعد على نظرية موثوقة للانتصار النووي على خصم قادر على الرد بالمثل.

وكما هو الحال مع استراتيجية الحرب التقليدية، ركز المخططون النوويون على السرعة والخطوات الافتتاحية المُنفذة ببراعة، بهدف تدمير وسائل الرد لدى العدو والقضاء على قيادته، أو على الأقل إثارة قلقه وإرباكه لإحداث حالة من الشلل والتردد. ومع ذلك، بدت جميع هذه النظريات غير موثوقة وتخمينية؛ إذ يتعين على أي ضربة أولى أن تواجه خطر إطلاق العدو للصواريخ عند الإنذار، بالإضافة إلى بقاء أنظمة كافية لردّ مُدمر. ولحسن الحظ، لم تُختبر هذه النظريات عمليًّا قط. إنَّ أي هجوم نووي لا يُحقق نصرًا فوريًّا، بل يُفضي إلى مزيد من الاشتباكات النووية، قد لا يطول أمده، ولكنه بلا شك سيكون قاتمًا. ولذلك وُصفت هذه الحالة بأنَّها حالة “تدمير متبادل مؤكد”.

من الجدير بالذكر أنَّ أحد أسباب تبني المؤسسة الدفاعية الأمريكية للعصر النووي بحماس كبير هو أنَّه قدَّم بديلًا عن الحروب العالمية المدمرة في أوائل القرن العشرين. أدرك الاستراتيجيون تمامًا أنَّ المعارك حتى النهاية بين القوى العظمى يمكن أن تكون طويلة ودموية ومكلفة للغاية. ومع ذلك، وكما هو الحال مع الردع النووي، قد تحتاج القوى العظمى الآن إلى الاستعداد بشكل أوضح لحروب تقليدية أطول مما تفترضه الخطط الحالية، ولو فقط للمساعدة في ضمان عدم وقوعها.

وكما أظهرت الحرب في أوكرانيا بشكل مؤلم، يمكن أن تتورط القوى العظمى في حروب طويلة حتى عندما لا تكون متورطة بشكل مباشر في القتال. ستحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تحسين قواعدهم الصناعية الدفاعية وبناء مخزونات للاستعداد بشكل أفضل لهذه الطوارئ في المستقبل.

مع ذلك، يختلف التحدي المفاهيمي الذي يطرحه هذا النوع من الاستعدادات عما هو مطلوب للاستعداد لمواجهة جبارة بين القوى العظمى. ورغم أنَّ الاحتمال قد يبدو غير مستساغ، فإنَّ على المخططين العسكريين التفكير في إدارة صراع يُهدد بإطالة أمده بنفس الطريقة التي فكروا بها في إدارة التصعيد النووي. فمن خلال الاستعداد لإطالة أمد الصراع وتقليل ثقة أي معتدٍ محتمل في قدرته على شن حرب قصيرة ناجحة، يمكن لاستراتيجيي الدفاع توفير نوع آخر من الردع، إذ سيُحذّرون الخصوم من أنَّ أي نصر، حتى لو أمكن تحقيقه، سيأتي بتكلفة باهظة على جيشهم واقتصادهم ومجتمعهم.

تبدأ الحروب وتنتهي بقرارات سياسية. من المرجح أن يفترض القرار السياسي ببدء صراع مسلح حربًا قصيرة؛ ومن المرجح أن يعكس القرار السياسي بإنهاء القتال التكاليف والعواقب التي لا مفر منها لحرب طويلة. بالنسبة لأي قوة عسكرية، فإنَّ احتمال الأعمال العدائية المطولة أو التي لا تنتهي وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي الكبير هو سبب وجيه للتردد قبل الشروع في حرب كبرى والبحث عن وسائل أخرى لتحقيق الأهداف المرجوة. ولكنه يعني أيضًا أنَّه عندما لا يمكن تجنب الحروب، يجب أن تكون أهدافها العسكرية والسياسية واقعية وقابلة للتحقيق ومحددة بطرق يمكن تحقيقها بالموارد العسكرية المتاحة. إحدى أكبر إغراءات القوة العسكرية هي أنها تعد بإنهاء النزاعات بسرعة وحسم. لكنها في الممارسة العملية، نادرًا ما تفعل ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى