سياسي

معركة الصورة تهدم سرديات العدو وتدفعه لإنهاء الحرب

استطاعت المقاومة من خلال العرض “المهيب” لتسليم أسيرات العدو، بالإضافة إلى ما كشفت عنه في وثائقي الجزيرة “ما خفي أعظم”، ليس فقط الانتصار في معركة الصورة والسردية، بل في العديد كثير من سرديات العدو الكبرى، التي لن نبالغ إذا ما اعتبرناها الركائز الرئيسية التي انطلق منها نتنياهو في حربه على قطاع غزة، وتبديد الذرائع الوحيدة التي استند عليها لاستكمال حرب الإبادة على القطاع طوال 15 شهرًا.

وبالتالي فإنَّ هدم تلك السرديات ينزع منه الذرائع والمبررات، ويفقده الشرعية الداخلية والدعم الداخلي لاستكمال الأعمال الحربية، كما يسلبه القدرة على إقناع الحلفاء بنجاعة النهج المتبع لتحقيق أهدافه المزعومة. لا سيما وأنَّ عملية الإفراج عن أسرى العدو من المرجح أن تمتد على مرحلتين، كل مرحلة ستستغرق 42 يومًا، أي قرابة الثلاثة أشهر أو أكثر، وتنتهي بانسحاب كامل لقوات الاحتلال من قطاع غزة. وهذا يعني بشكل كبير، حال إتمام جميع المراحل، إعلان انتهاء الحرب عمليًّا.

سنتناول في هذا المقال ثلاث سرديات رئيسية، يمكن اعتبارها أحجار الزاوية أو أعمدة الارتكاز التي أقام العدو عليها مشروعية مواصلة حربه على القطاع:

  1. سردية أنَّ تحرير الأسرى لن يكون إلا بواسطة الأعمال الحربية:

تمكنت المقاومة من خلال معركة الصورة والمشهد من هدم تلك السردية بشكل واضح، حيث وجهت رسائل للجميع فيما يتعلق بتلك السردية كالتالي:

  • رسالة إلى الجبهة الداخلية للعدو: إنَّ مظهر الأسيرات المهندم يؤكد أنَّ نتنياهو قد كذب على شعبه طوال الـ 15 شهرًا الماضية، حينما زعم أنَّ العمليات الحربية هي التي ستحرر الأسرى وتعيدهم سالمين. فقد رأى الإسرائيليون بأعينهم أنَّ المقاومة هي الطرف الأكثر حرصًا على أرواح وصحة الأسرى من نتنياهو وجيشه، ممن تسببوا في مقتل العشرات منهم بأفعالهم غير المحسوبة.
  • رسالة إلى أهالي أسرى الاحتلال الذين قتلوا في غزة: بأنَّ ثأركم مع نتنياهو وليس معنا، فلولا العمليات الحربية المستمرة، لكان ذووكم بين أيديكم تحتفلون معهم كما احتفل ذوو الأسيرات اللاتي خرجن للتو، فانظروا ماذا أنتم فاعلون معه.
  • رسالة إلى الطرف الأمريكي: ها قد أثبتنا لكم بالدليل القاطع أنَّ العدو غير قادر بالعمل الحربي لا على تحرير الأسرى ولا حتى القضاء علينا. فإن كنتم بالفعل حريصين على عودة أسراكم سالمين، فإنَّ السبيل إلى ذلك هو غير ما تروجون له.

لقدكان هذا المشهد ضاغطًا بشكل كبير على نتنياهو، وهو ما بدا واضحًا في تصعيد عائلات أسرى الاحتلال بعد عودة الأمل لهم في إمكانية عودة ذويهم، حيث أعلنوا بوضوح عدم قبولهم بأي خطوة قد يقدم عليها نتنياهو لنقض الاتفاق والعودة إلى الحرب تحت أي ذريعة، مهددين باللجوء المباشر إلى الإدارة الأمريكية الجديدة لمنعه من ذلك.

ويعضد ذلك نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته القناة “12” العبرية بعد يومين من تسليم الدفعة الأولى من أسرى الاحتلال، حيث أظهرت النتائج أنَّ 62% من الإسرائيليين يعتقدون أنَّ على نتنياهو الاستقالة على الفور، أسوةً برئيس الأركان هيرتسي هاليفي الذي أعلن استقالته في 21 يناير/كانون الثاني 2025، وهو ما يمكن اعتباره تحولًا في الموقف من نتنياهو. لا سيما وأنَّ آخر استطلاع للرأي أجرته نفس القناة في يوليو/تموز الماضي، كانت نسبة المطالبين باستقالة نتنياهو على الفور 44 % فقط.

لقد ضغط المشهد أيضًا على الإدارة الأمريكية الجديدة، التي جاءت وفي مقدمة أولوياتها إنفاذ الاتفاق حتى نهايته للتفرغ لخُططها الأخرى في المنطقة، خاصة وأنَّ من بين الأسرى من يحملون الجنسية الأمريكية، وهم الذين لن يفرج عنهم سوى في المرحلة الثانية أو الثالثة من الاتفاق.

  • سردية حتمية استمرار الحرب للقضاء على حماس:

مثَّل مشهد عودة عناصر كتائب القسام إلى الظهور بكامل عتادهم، وانتشارهم في مناطق مختلفة من قطاع غزة بالزي العسكري مستقلين سيارات الدفع الرباعي التي يعتلي كل منها رشاش متوسط، ليس فقط صدمة للعدو، بل إعلانًا صريحًا وواضحًا أنَّ منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة ما زالت على درجة عالية من الفاعلية والتأثير. فمنظومة القيادة والسيطرة عنصر حاسم في المعارك العسكرية، ودونها تنهار القوات على الأرض وتفقد فعاليتها وتصبح غير قادرة على الأداء الهجومي أو الدفاعي المنسق. ولن نبالغ إذا قلنا إنَّه في بعض الأوقات قد يؤدي تراجع فاعليتها أو تقطيع أواصرها إلى انهيار جيوش كبرى وتفككها.

وبإمكاننا التدليل على ذلك من خلال التركيز على بعض التفاصيل الصغيرة في طبيعتها وحجمها، والكبيرة في مدلولاتها ومؤشراتها، بعد 15 شهرًا من القتال العنيف والقصف المدمر، ومن أبرزها:

  • نجاح المقاومة، وقبيل اتفاق الهدنة بأيام، في تكبيد العدو خسائر مؤلمة في الأرواح والمعدات، داخل المناطق الشمالية الأكثر دمارًا من القطاع، وذلك من خلال عمليات هجومية نوعية لا تقل في دقة تخطيطها ودقة تنفيذها عن عمليات نفذتها المقاومة في بداية الحرب، حينما كانت في كامل جهوزيتها ومحتفظة بكامل قدراتها العسكرية.
  • خروج المقاتلين بعد سريان الهدنة بأعداد كبيرة -بالمئات- حاملين أسلحتهم الخفيفة، مرتدين زيهم العسكري النظيف المهندم، آخذين في اعتبارهم كافة التفاصيل، من الحذاء العسكري وحتى النظارة الشمسية السوداء.
  • ظهور عناصر المقاومة مستقلين عشرات سيارات الدفع الرباعي البيضاء، والتي بدت وكأنها خرجت للتو من معرض سيارات جديدة.
  • تحديد مكان تسليم أسرى العدو في شمال قطاع غزة بالقرب من المناطق التي دارت فيها أعنف المعارك.
  • خروج الأسيرات من أماكن احتجاز في قلب المناطق الشمالية، أي من تحت أعين العدو المتمركز بقواته وآلياته بذات المناطق.
  • خروج الأسيرات بكامل هندامهن ونظافتهن وبحالة جيدة من الناحية الغذائية والرعاية الصحية.
  • وجود لافتات كبيرة في مكان التسليم، ما يعني أنَّ المقاومة لا تزال تمتلك كافة عناصر الدعم والإمداد حتى فيما يتعلق بلوجيستيات الدعم الفني الإعلامي كآلات طباعة البانرات الكبيرة.
  • الفاصل الزمني القصير بين تصوير عناصر الإعلام العسكري لمراسم التسليم ونشر المحتوى المرئي العسكري المتعلق بالحدث، وهو ما يشير إلى قدرة فائقة على التنسيق اللوجيستي، وقنوات التواصل المفتوحة لإيصال المادة للمعنيين، إلى جانب سرعة ومهارة العناصر الإعلامية في عمليات التصوير والإخراج والمونتاج، وهو ما يدرك أبعاده جيدًا المختصون في مجال الإعلام.
  • كشفت المقاومة عن مقاطع مصورة تثبت وجود القائد الشهيد “يحيى السنوار” على رأس القوات المقاتلة فوق الأرض خلال الحرب رغم أعين ورصد أجهزة الاستخبارات العالمية.
  • ظهور بعض قادة كتائب ووحدات المقاومة شمال قطاع غزة، ممن كان العدو قد أعلن عن اغتيالهم قبل عدة أشهر، وذلك بعد بدء سريان الهدنة، للبرهنة على فشل الاحتلال استخباراتيًّا.
  • ظهور مؤشرات تلمح إلى أنَّ قائد كتائب القسام “محمد الضيف” لا يزال على قيد الحياة، بعدما أعلن العدو اغتياله في عملية نفذها في خان يونس قبل عدة أشهر. من ضمن هذه المؤشرات: أنَّ الأوراق المتعلقة بتسليم الأسرى التي وقع عليها الصليب الأحمر من جهته ممثلًا عن العدو، زُيلت بتوقيع القائد “محمد الضيف” ممثلًا عن كتائب القسام، كما أنَّ “الضيف” ظهر في وثائقي الجزيرة “ما خفي أعظم” وقد أُخفي وجهه، وهو إجراء لا تقوم به المقاومة إلا مع العسكريين الأحياء.

إنَّ ما سبق يشير إلى أنَّه بعد أعنف قتال عسكري خاضه العدو منذ نشأته، وبعد الدمار الهائل الذي أحدثه في القطاع وتحديدًا في المناطق الشمالية، لم يتمكن العدو لا من القضاء على المقاومة كعناصر وأفراد وقيادات، ولا حتى من سلبها قدراتها العسكرية بشكل كبير. بل بدا المشهد وكأن شيئًا لم يكن، وكأننا في الأيام الأولى من الحرب.

وعليه فإنَّ التعامل مع المقاومة الفلسطينية كي يكون واقعيًّا وعمليًّا، ينبغي أن يبدأ أولًا من الاعتراف بحماس كطرف متجذر في الأرض غير قابل للفناء أو الاجتثاث بالعمل العسكري، ثم يأتي بعد ذلك كل شيء.

  • سردية أنَّ حماس لن تعود إلى السيطرة على القطاع وحتمية استبدالها بجهات أخرى:

بدا مشهد التلاحم بين عناصر المقاومة وسكان القطاع مشهدًا مهيبًا، بل ومدهشًا وعجيبًا في ذات الوقت، هذا الاحتضان والاحتواء واستقبال الأبطال المنتصرين من غير الممكن أن يكون مدفوعًا بالخوف أو الرهبة، وإنما هو تفسير عملي للصمود الأسطوري لسكان القطاع أمام حرب الإبادة التي مورست ضدهم. فسكان القطاع ليسوا فقط شعبًا تحكمه المقاومة بسلطة مدنية، بل هم يمثلون جوهر الحاضنة الشعبية العميقة المتجذرة، المؤمنة بمسار المقاومة والداعمة لها رغم الآلام والجراح. سكان القطاع هم أبناء وآباء وأمهات وزوجات وإخوة وأخوات عناصر المقاومة، فهؤلاء منهم وأولئك منهم. وقد أظهرت المشاهد التي تم عرضها أنَّ المقاومة ما زالت تسيطر على القطاع عسكريًّا ومدنيًّا، وأنَّ محاولة خلق بديل لها هو ضرب من الوهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر:

  • مشاهد انتشار عناصر وأفراد الشرطة في مناطق مختلفة من القطاع، بزيهم الأسود المميز، وبأسلحتهم وأدواتهم، وبرفقتهم عناصر الدفاع المدني ومعداتهم البسيطة.
  • لم يشهد القطاع منذ بدء انتشار عناصر الشرطة المدنية وعناصر كتائب القسام أي احتكاكات تذكر مع المواطنين، بل سادت حالة من التلاحم والتعاون والفرحة بعودتهم.
  • ظهور عناصر المقاومة وهم يتحركون بأريحية كاملة داخل القطاع وبين المواطنين والأهالي من غير تخوف من الاستهداف الجوي أو الوشاية عن طريق العملاء.
  • قدرة عناصر المقاومة على الخروج والعودة بسهولة كبيرة من وإلى عقدهم القتالية ونقاط تمركزهم قبل وبعد انتهاء مراسم تسليم أسرى العدو.
  • كشفت المقاطع المصورة أنَّ عناصر المقاومة موجودون بين الأهالي والسكان طوال فترات القتال، وفي ذروة مراحل الاشتباك.
  • وجود القائد الشهيد “يحيى السنوار” في الصفوف الأمامية للقتال فوق الأرض أبرز حقيقة أنَّ الحاضنة الشعبية للمقاومة كانت على قدر الحدث، فتسترت عليه، وكتمت حقيقة تحركه بينها طيلة عام بأكمله، من دون أن تصل إلى العدو معلومة واحدة عنه، وذلك في ظل سيطرة استخبارية كاملة للعدو جوًّا وبرًّا، وفي ظل مساعدة أجهزة استخبارات دول كبرى. وهذا في حد ذاته ملحمة وطنية شعبية يجب أن تعطى حقها دراسةً وتأريخًا وتوثيقًا.
  • انتشار مقاطع مصورة لعناصر المقاومة أثناء قيامهم بمعاقبة بعض الأفراد من ناهبي المساعدات ورافعي أسعار السلع على المواطنين، وذلك وسط حضور وتأييد شعبي.
  • شهدت أسواق غزة فور بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، انخفاضًا حادًا في أسعار السلع، حيث انخفضت بعض الأسعار إلى ما يعادل 40 مرة أدنى من قيمتها السابقة، وذلك عقب بدء سريان الهدنة بدقائق معدودة، وبعد بدء انتشار أفراد الشرطة وعناصر المقاومة. ويُعدُّ هذا مؤشرًا مهمًا على قدرة سلطة المقاومة على إعادة السيطرة على القطاع في زمن قصير، وتأثير ذلك على ضبط الأمن والانضباط.

لقد استطاعت المقاومة من خلال رسائل بسيطة، ولكنها ناجزة وحاسمة، قلب طاولة المتآمرين على غزة، وإفشال المخططات التي وُضعت لليوم التالي من انتهاء الحرب، والتي بُنيت جميعها على فرضية عدم وجود حماس أو المقاومة في غزة بعد الحرب. وأرسلت رسالة حاسمة للأعداء والوسطاء مفادها أنَّ المقاومة ما زالت موجودة في غزة كأمر واقع، فهي موجودة في اتفاق وقف إطلاق النار، وموجودة بالضرورة في عملية إدخال المساعدات خلال المرحلتين الأولى والثانية من الاتفاق، وستكون موجودة في مرحلة الإعمار وفي تنفيذ مهام الأمن في القطاع، وأنَّها جاهزة لمعاونة اللجنة الإدارية المتفق عليها في إدارة شؤون القطاع.

وتوجد هنا ملاحظة مهمة فيما يتعلق بالاقتراح المصري لتشكيل لجنة تدير القطاع مكونة من شخصيات مستقلة ذات قبول شعبي وليست ذات انتماء فصائلي، فهذا الاقتراح يتسق مع مقترحات حركة حماس التي قدمتها خلال لقاءات المصالحة المتعددة على مدار أكثر من 5 سنوات سبقت الطوفان. هذه المقترحات تفيد باستعداد الحركة للتخلي عن الحكم في قطاع غزة لصالح حكومة تكنوقراط، والتفرغ للعمل العسكري ومشروع المقاومة، وهو ما رفضته حركة فتح بشكل قاطع مشترطة تسليم المقاومة سلاحها. ولهذا فمقترح اللجنة الإدارية المقدم من النظام المصري والذي وافقت عليه حركة حماس، يتماشى مع مقترحات الحركة السابقة.


الخلاصة

إن ما قامت به المقاومة خلال إطلاق الأسرى، يتخطى فكرة الاستعراض ورسم صورة النصر، فلم يكن ما حدث مجرد إجراءات تكتيكيّة بسيطًة، إنما نرجح أن تكون آثاره استراتيجية بشكل أعمق وأبعد من اللحظة الآنية. سواءً على صعيد توجهات الجبهة الداخلية للاحتلال وتصوراته عن المقاومة وفلسطين والحرب، أو على صعيد توجهات حلفاء الاحتلال وقناعاتهم وتصوراتهم للمنطقة، أو على صعيد مواقف الوسطاء وانحيازاتهم، أو حتى على صعيد دعم أصدقاء المقاومة وحلفائها ورهانهم على المقاومة في غزة، وهو ما قد يعزز الدفع باتجاه إنهاء الحرب والتهدئة على جبهة غزة تهدئة طويلة.

حسام الدين عبد الكريم

مهندس وخبير في تحليل البيانات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى