ترجمات

الهجوم الجريء لأوكرانيا داخل روسيا

نايجل جولد ديفيز.. المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية

إنَّ الهجوم المفاجئ الذي شنته كييف يُظهِر قدرتها على التحمل، ويكشف عن عناد بوتين ويهدد الخطوط الحمراء. فلقد أصبحت الأراضي الروسية تحت الاحتلال لأول مرة منذ عام 1944. ومنذ شنها توغلًا كبيرًا في كورسك بداية 6 أغسطس 2024، استولت أوكرانيا على نفس القدر من الأراضي الروسية الذي استولت عليه القوات الروسية، بتكلفة باهظة، من أوكرانيا منذ أكتوبر 2023، أي نحو 1000 كيلومتر مربع.

إنَّ ما حدث مستجد كبير، وسوف يعتمد تطوره على أهداف أوكرانيا من العملية، وقرارات روسيا بشأن كيفية حشد القوات لمواجهة التوغل الأوكراني، كما أنَّه مهم بالفعل لما يخبرنا به عن الحرب وعن روسيا وتأثيره على الدبلوماسية الأوسع للصراع.

أهمية التوغل داخل روسيا في الحرب

يُظهِر توغل أوكرانيا عدم القدرة على التنبؤ المستمر بمسار الحرب. فبينما لم يعد هناك أي أمل في تحقيق مكاسب إضافية، تحطمت مجددًا الرواية السائدة التي تقول إنَّ أوكرانيا تكافح لمنع تقدم روسي ثابت في دونباس وأنَّه ليس لديها سوى احتمال ضئيل لتحقيق المزيد من المكاسب في أرض القتال. وفي حين تظل المواقع الأوكرانية في دونباس مهددة، فقد استولت القوات الأوكرانية على زمام المبادرة بعملية مشتركة جريئة ومنفذة بشكل جيد داخل روسيا. ومن خلال مزيج من التمويه والخداع المتواكب مع الرضا الروسي عن سير الحرب، حققت أوكرانيا مفاجأة استراتيجية وعملياتية كاملة، وهو ما أربك الرأي القائل بأنَّ المركبات الجوية غير المأهولة جعلت ساحة المعركة مرصودة للغاية بحيث لا يمكن تحقيق مفاجئات.

ولا تزال قدرة أوكرانيا على التحركات البارعة وغير المتوقعة -مثلما تجلى بانتظام في البحر الأسود- حاضرة. وهذا يربك أيضًا التكهنات القائلة بأنَّ أوليكساندر سيرسكي قائد القوات المسلحة الأوكرانية منذ فبراير الماضي، أنَّه أكثر تحفظًا و”سوفييتيا” من سلفه فاليري زالوزني. لقد تفوقت أوكرانيا باستمرار على روسيا في الحرب. وعلى النقيض من ذلك، فحيثما حققت روسيا مكاسب، كان هذا راجعًا إلى التفوق في الكتلة البشرية، وليس المهارة. الواقع أنَّ المنافسة بين الاستخبارات، بكلا المعنيين، تصب في مصلحة أوكرانيا. وهذا يتناقض مع القول المأثور المنسوب إلى فلاديمير لينين بأنَّ الكمية لها تأثير إيجابي خاص بها.

رد روسيا

يبدو أنَّ الكرملين غير المستعد متوتر ويرتجل استجابة سياسية وعسكرية، ويبرز ذلك في ثلاث سمات:

أولًا، بدلًا من حشد السكان ضد التهديد الذي يواجهه الوطن الأم، يحرص الكرملين على التقليل من أهمية التوغل. فقد أفاد رئيس هيئة الأركان العامة الروسية فاليري جيراسيموف في البداية بأنَّ عدد القوات الأوكرانية المشاركة في التوغل أقل من ألف جندي، وهو عُشر العدد المحتمل مشاركته بالفعل في الهجوم. ويتردد أنَّ البرلمانيين الروس تلقوا تعليمات بعدم ذكر التوغل علنًا. ويتناقض هذا الإحجام عن استحضار لغة التعبئة للدفاع ضد أوكرانيا بشكل صارخ مع الخطاب الهستيري حول “نزع السلاح والنازية” الذي استُخدِم لتبرير غزو أوكرانيا في فبراير 2022.

وفي غياب مثل هذه الإشارة من أعلى، لم يتفاعل الرأي العام الروسي بشكل عفوي مع التوغل. بل على العكس من ذلك: فقد أعربت وسائل الإعلام الروسية، على الرغم من القيود الشديدة المفروضة على التغطية الإعلامية، عن احترامها لجرأة أوكرانيا. كما أفادت عن غضب السكان المحليين الذين تم إجلاؤهم (أكثر من 15٪ من سكان منطقة كورسك، بالإضافة إلى بعض سكان بيلغورود) تجاه الكرملين. ولم يؤجج التوغل موجة من الحماسة الوطنية.

ثانيًا، أعلن الكرملين عن عملية لمكافحة الإرهاب في المناطق الحدودية في بيلغورود وبريانسك وكورسك. والواقع أنَّ الصلاحيات التي يمنحها الإعلان للسلطات -مثل الحق في دخول المنازل ومصادرة المركبات وتكثيف المراقبة- مصممة للتعامل مع التهديدات الداخلية، وليس لمواجهة هجوم عسكري كبير، الذي يشكل إعلان الأحكام العرفية الاستجابة المنطقية له. وحتى في مواجهة التوغل والاحتلال، يظل الرئيس الروسي بوتن عازمًا على تأطير الصراع باعتباره “عملية عسكرية خاصة”، وليس حربًا. لقد استخدم لغة غامضة وغير عسكرية لوصف غزو أوكرانيا مثل “الموقف” و”الأحداث”.

ثالثًا، أثناء حشد القوات لمواجهة غزو أوكرانيا، تبذل روسيا كل ما في وسعها لتجنب سحب وحدات هجومية من دونباس. وبدلًا من ذلك، تجبر المجندين من كورسك على توقيع عقود عسكرية وترسلهم للقتال. كما تستقدم مجندين من مورمانسك في أقصى الشمال، وقوات من كالينينجراد وموارد أخرى. وترى روسيا حاليًّا أنَّها قادرة على احتواء التهديد على أراضيها دون المساس بأهم أهدافها في أوكرانيا.

التداعيات الدبلوماسية

قد يشكل غزو أوكرانيا ورد روسيا تصورات الغرب لكلا البلدين، وبالتالي كيفية إدارة الصراع بينهما. فلم يؤد نجاح توغل أوكرانيا حتى الآن إلى تأجيج الروح المعنوية لمجتمعها وجيشها فحسب، إنما أظهرت أوكرانيا أيضًا لمؤيديها من الدول الأخرى أنَّها بعيدة كل البعد عن الإرهاق، وأنَّها لا تزال قادرة على تحقيق اختراقات جريئة، وأنَّها ليست في مزاج يسمح لها بالقبول بتسوية سلمية تجعلها أضعف بشكل دائم. وعلاوة على ذلك، فقد فعلت أوكرانيا ذلك من خلال إجراء عمليات قتالية كبرى باستخدام الأسلحة الغربية.

إنَّ روسيا تزعم أنَّ الغرب يقف وراء التوغل ولكنها لم تصعد لا بالقول ولا بالفعل. وهذا يضعف الحجة القائلة بأنَّ الغرب يجب أن يلتزم بـ “الخطوط الحمراء” الروسية في دعمه لأوكرانيا – بما في ذلك فرض القيود على استخدام الأسلحة التي يقدمها لكييف. باختصار، قد يصبح الغرب أقل تشككًا في قدرة أوكرانيا على التحمل وأقل خوفًا من التصعيد الروسي.

ماذا بعد؟

إنَّ التوغل يخلق ديناميكية جديدة في الحرب. يتخذ كلا الجانبين خيارات تنطوي على مخاطر عالية. ترى أوكرانيا أنَّها تستطيع تكريس بعض أفضل قواتها لهذا التوغل دون السماح للقوات الروسية بتحقيق اختراق في دونباس. وترى روسيا أنَّها تستطيع احتواء التوغل دون تحويل قوات كبيرة عن هجومها. لا يمكن أن يكون كلاهما على حق. النتيجة معلقة في الميزان.

بالنسبة لروسيا، تكشف هذه الأحداث عن مفارقة تتمثل في أنَّ بوتين وصل إلى السلطة بعد شن حرب في الشيشان بحجة استعادة السيادة على الأراضي الروسية. ولكن في الوقت نفسه، فإنَّ بوتين، الذي جعل استعادة الدولة القوية شعار رئاسته، يحكم الآن دولة فقدت السيطرة على أراضيها مرة أخرى.

المفارقة هي أنَّ بوتين، الذي استخدم مرارًا وتكرارًا لغة التهديد والتصعيد بشأن الحرب في أوكرانيا، لم يفعل ذلك ردًّا على التوغل داخل روسيا. وفي حين يعتقد أنَّ أوكرانيا تسعى إلى “تدمير وحدة وتماسك المجتمع الروسي”، فإنَّ فشله في حشد الرأي العام ردًّا على ذلك يشير إلى أنَّه قد يفتقر إلى الثقة في هذا التماسك.

إنَّ التوغل الأوكراني ليس أزمة على نطاق مسيرة عناصر فاغنر إلى موسكو في يونيو 2023 ــ عندما ألمح نداء بوتن العام المذعور إلى الانهيار التام الذي حدث في عام 1917. ولكن، أكثر من أي شيء آخر حتى الآن باستثناء الفترة القصيرة من التجنيد الإجباري في سبتمبر/أيلول 2022، فإنَّ الخطوة الجريئة التي اتخذتها أوكرانيا تعيد الحرب إلى داخل روسيا. وهذا شيء سعى الكرملين إلى تجنبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى