ترجماتسياسي

اختبار التحمل: هل يمكن لنظام مضطرب أن ينجو من زعيم مُخرب؟

فورين أفيرز

مارجريت ماكميلان 

 أستاذة فخرية للتاريخ الدولي بجامعة أكسفورد

يخشى المؤرخون التنبؤ بالمستقبل لأنَّ المتغيرات والاحتمالات كثيرة للغاية. كما أنَّه ليس من السهل دائمًا إدراك أهمية الأحداث عندما تعيش في قلبها. فعندما سقط جدار برلين في عام 1989، أدرك الناس على الفور أنَّ عصرًا جديدًا قد بدأ. ولكن قِلة من الأوروبيين توقعوا أنَّ اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند في سراييفو في يونيو 1914 من شأنه أن يؤدي إلى حرب مرعبة تمتد عبر القارة، ويُقتل فيها أكثر من 16 مليون إنسان، وحتى خبراء التكنولوجيا لم يفهموا أهمية جهاز الآيفون عندما كشف عنه الرئيس التنفيذي لشركة أبل ستيف جوبز في عام 2007.

منذ فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر الماضي، أصبح من الصعب تجنب التفكير في ثلاثية الخيال العلمي الكلاسيكية لإسحاق عظيموف، “المؤسسة”، التي نُشرت في نهاية الحرب العالمية الثانية. في هذه الثلاثية، رُوض مستقبل البشرية إلى حد كبير على يد عالم رياضيات لامع استخدم القوانين الإحصائية للسيطرة على السلوك البشري والحماية من الأحداث الكارثية، بشكل ضمن ما يُفترض أنَّه حكم خيّر ومستقر لقرون. لكن هذه الافتراضات تحطمت بظهور “البغل” وهو شخص متحول يتمتع بقوى غير عادية وملايين من الأتباع المخلصين، فهدد بقلب النظام وإعادة عدم القدرة على التنبؤ.

هل ترامب بغل عصرنا؟

فهو يحب أن يرى نفسه مدمرًا للتقاليد والقواعد ومحطمًا للمؤسسات. وهو أيضًا صعد إلى السلطة على ظهر قاعدة جماهيرية عريضة، الأمر الذي يثير التساؤل حول ما إذا كانت لديه القدرة على تغيير مسار الأحداث وإعادة تشكيل الولايات المتحدة في عالم مختلف.

 لقد سارت المنافسة الرئاسية بهدوء، مما أراح الكثيرين، ولكن إذا كان ترامب وأنصاره يعنون ما يقولون، فإنَّ سيطرة الجمهوريين على الرئاسة والكونجرس -جنبًا إلى جنب- مع المحكمة العليا المطواعة، من شأنها أن تجلب تغييرات كبيرة في الطريقة التي تُحكم بها الولايات المتحدة – بما في ذلك سيادة القانون.

 لقد هدد الرئيس المنتخب بالتخلص من الوكالات الحكومية المستقلة التي لا يحبها، وتحويل أخرى إلى إقطاعيات خاصة به، وتسييس المؤسسة العسكرية، وتجاوز الكونجرس بتعيينات مؤقتة في حال رفض الموافقة على ترشيحاته. كما انتقد حلفاء أمريكا علنًا، والأسوأ من ذلك، أساء إليهم أمام خصومهم. وهو لا يرى أي قيمة أو مصلحة للولايات المتحدة من القانون الدولي أو القواعد أو المؤسسات مثل الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية أو منظمة الصحة العالمية، وهو ينتقد حتى التحالفات الأمريكية الاستراتيجية مثل حلف الناتو.

كان عظيموف عالمًا، وتعامل مع أحد الأسئلة المركزية حول قدرة الأفراد على تغيير مسار التاريخ، وخاصة أولئك الذين لديهم القوة والدافع لتحطيم النظام القائم. كما طرح أيضًا سؤالًا آخر ذا صلة: هل كان النظام القديم محكومًا عليه بالزوال على أي حال، وإذا كان الأمر كذلك، فهل هؤلاء الأفراد مجرد أدوات للقوى الخارجية التي شكلتهم؟

 ربما تكمن الإجابة في مكان ما في المنتصف. فمن غير المرجح أن يتمكن نابليون بونابرت الشاب القادم من خلفية متواضعة، من الصعود إلى السلطة دون الاضطرابات التي أحدثتها الثورة الفرنسية في عام 1789. وربما لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قادرًا على الاستيلاء على مقاليد السلطة لو كان النظام السياسي الناشئ في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي أكثر رسوخًا. ومثله كمثل الرئيس الصيني شي جين بينج، بنى بوتن حكمًا شخصيًّا للغاية، وأعاد تشكيل بلاده القوية حوله، وأحدث تحولات كبرى في النظام العالمي.

في حين يحاول المراقبون فَهم وتقييم ما قد تعنيه رئاسة ترامب الثانية للولايات المتحدة والعالم، قد يكون السؤال الأكثر أهمية هو مدى قدرة الديموقراطية الأمريكية والنظام الدولي على تحمل الضغوط. ففي مواجهة الكساد الكبير في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، أثبتت الأنظمة الديموقراطية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة قدرتها على الصمود، ولكن الأنظمة الديموقراطية في ألمانيا واليابان انهارت، وسقط العالم في أسوأ صراع عسكري في العصر الحديث بالحرب العالمية الثانية. وفي الولايات المتحدة اليوم، تمتد جذور ديموقراطيتها إلى أعماق بعيدة، وتحد تجزئة السلطة بين الحكومة الفيدرالية والولايات من قدرة أي إدارة على إحداث تغيير جذري.

ولكن تجارب الماضي تذكرنا بأنَّ قوة المؤسسات قد يكون من الصعب للغاية تقييمها قبل أن تُحدَّد بشكل مباشر. وينطبق هذا على النظام الدولي أيضًا. ورغم أنَّ النظام الحالي يبدو أقوى وأكثر مرونة من نظيره في ثلاثينيات القرن العشرين، فإنَّ القواعد التي كانت تُعد لفترة طويلة غير قابلة للانتهاك قد انتُهكت في السنوات الأخيرة. وحتى الآن، ليس من الواضح ما إذا سيكون ترامب قادرًا على تحقيق هدفه الذي يعلنه في كثير من الأحيان، والمتمثل في التغيير الهائل لبدء عصر جديد أو سيجد نفسه مقيدًا بالقوانين والهياكل الحكومية القائمة، أو المعارضة السياسية في الداخل، أو من طرف آخرين في الخارج. ومن المرجح أن يعتمد ما سيحدث في النهاية على توازن القوى من حوله بقدر ما يعتمد على كيفية استخدامه للسلطة.

أوهام التمزق

انقسم العلماء لفترة طويلة حول ما إذا يشكل القادة القوى الأكبر أم أنَّهم يتشكلون بفعلها. فعلماء السياسية حذرون عمومًا في دراسة تأثير الجهات الفاعلة الفردية، ويفضلون التركيز على دراسة الظواهر القابلة للقياس والإحصاء. والواقع أنَّ أدبياتهم عن القادة والزعامات نادرة، وهو أمر مفاجئ؛ ربما نظرًا للقدر الهائل من الاهتمام والنقاش العام حول الدوافع والأفعال المحتملة لأولئك الذين يتولون السلطة اليوم.

وعلى النقيض من ذلك، وجد المؤرخون أنَّه من الأسهل الكتابة عن الشخصيات الرئيسية، كما فعل إيان كيرشو على سبيل المثال في سيرته الذاتية الرائعة لأدولف هتلر، وستيفن كوتكين في سيرته الذاتية عن جوزيف ستالين. ومع ذلك، يدرك المؤرخون باستمرار التحدي المتمثل في إيجاد التوازن الصحيح بين الأفراد والقوى الاجتماعية والسياسية المحيطة بهم. بطبيعة الحال، كل القادة هم نتاج عصرهم، سواء في أفكارهم وقيمهم أو في افتراضاتهم حول كيفية عمل العالم. ومع ذلك، فإنَّ أولئك الذين يمتلكون قوة استثنائية -سواء كانت سياسية أو أيديولوجية أو مالية- يمكنهم استخدامها لدفع مجتمعاتهم، وأحيانًا أجزاء أكبر من البشرية في طريق معين بدلًا من طريق آخر.

إنَّ الخبرات التي يحملها القادة معهم سوف تؤثر في الطريقة التي ينظرون بها إلى العالم، والقرارات التي يتخذونها. لقد تعرَّض بوتن للإذلال في نهاية الحرب الباردة عندما تحول من ضابط استخبارات شاب في ألمانيا الشرقية يمثل الإمبراطورية السوفييتية إلى شخص بالكاد لديه ما يكفيه للعيش. لقد شهد بنفسه انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث اغتنمت الدول التابعة له مثل أوكرانيا الفرصة للاستقلال، وهي أحداث مؤلمة غذت بلا شك هوسه باستعادة ما يراه أراضٍ روسية مفقودة، وجعل روسيا عظيمة مرة أخرى. وتؤدي الشخصية دورًا مهمًا أيضًا. مع بوتن، لا يمكن للمرء أن يتجاهل تصميمه وقسوته وإيمانه بأنَّه وريث مباشر لقادة روس وسوفييت سابقين مثل بطرس الأكبر وستالين، ممن بنوا وحافظوا على إمبراطورية ضخمة، وجعلوا روسيا محترمة ومخيفة من قبل جيرانها.

إنَّ هذا الاعتقاد -بأنَّ القدر أو التاريخ أو الرب اختار القائدـ كان الدافع وراء إلهام ودعم الزعماء السياسيين والمفكرين العظماء والجنرالات والثوريين، ولكنه في كثير من الأحيان جعلهم غير راغبين أو غير قادرين على قبول النصيحة أو الاعتراف بالخطأ. وقد أدى هذا في بعض الأحيان إلى سياسات مجنونة أسفرت عن كوارث لشعوبهم. فقد دمر هتلر ألمانيا في سعيه إلى فرض الهيمنة الآرية، وقتل ماو تسي تونج عشرات الملايين من شعبه أثناء ملاحقة أوهامه الطوباوية.

إنَّنا إذا استبعدنا بعض الناس من التاريخ الدموي للقرن العشرين، فلن يكون بوسعنا أن نفسر ما حدث بالكامل. فلو كان هتلر قد قُتِل في الخنادق أثناء الحرب العالمية الأولى، فمن غير المرجح أن يخلف قومي ألماني آخر، يتمتع بنفس التركيبة من الأيديولوجية والقناعة بأنَّه كان على حق، نفس التأثير.

ولو قُتل ونستون تشرشل عندما صدمته سيارة في مدينة نيويورك عام 1931، فمن المشكوك فيه أن يتحلى أي شخص آخر يتولى السلطة في لندن عام 1940 بالعزيمة على مواصلة القتال بعد سقوط فرنسا؛ ومن المؤكد أنَّه من الصعب أن نتخيل تشامبرلين، الذي خلفه تشرشل في منصب رئيس الوزراء في مايو من ذلك العام، أو اللورد هاليفاكس خليفة تشامبرلين المحتمل، يفعلان ذلك.

وفي حين كان ستالين وماو غير مبالين بالخسائر الفظيعة التي ألحقاها بشعبيهما في محاولاتهما لتغيير طبيعة مجتمعاتهما ذاتها، فإنَّ زملاءهما، الذين كانوا أيضًا من أصحاب الأيديولوجية، شعروا مع ذلك بالقلق إزاء التكاليف. وكما لاحظ كوتكين عن المزارع الجماعية في الاتحاد السوفييتي: “لو مات ستالين، لاقترب احتمال فرض التجميع القسري الشامل من الصفر”.

في حالة ترامب، فقد أعلن عن خُطط لترحيل 11 مليون مهاجر غير شرعي، وإضعاف أجهزة الخدمة المدنية، وفرض تعريفات جمركية باهظة الثمن مع تنفير أو التخلي عن حلفاء أمريكا. ولكن من غير الواضح إلى أي مدى سينفذ بالفعل ما وعد به. فهل تهديداته مجرد استفزازات لأعدائه أم إنَّها أجزاء من رؤية متماسكة لإعادة تأسيس الولايات المتحدة في عالم منقسم إلى كتل متنافسة؟

 إذا تمكن العديد من المقربين منه من تحقيق رؤيتهم، فسوف يكون الخيار الثاني هو الأقرب للواقع. ومن الواضح أنَّ هجومه على الوضع الراهن يتردد صداه لدى عدد كبير من الأمريكيين وأنصاره في أماكن أخرى. وسواء قصد ترامب ذلك أم لا، فإنَّ إرثه قد يمثل تغييرًا دائمًا في الطريقة التي يعمل بها العالم.

تحطيم الثقة

إنَّ قبول حقيقة مفادها أنَّ بعض الزعماء قادرون على تحويل مسار التاريخ لا يعني أنَّهم يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم؛ بل إنَّهم يستفيدون من التيارات المتغيرة في المجتمعات. وكثيرًا ما تأتي التغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى في وقت تفقد فيه المؤسسات سلطتها لأنَّ الناس ببساطة توقفوا عن الإيمان بشرعيتها. ففي بداية القرن السادس عشر، على سبيل المثال، كانت الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة غنية وقوية بدت وكأنها عازمة على الهيمنة على المسيحية لقرون قادمة. ولكنها في الممارسة العملية بدأت تفقد احتكارها للتعلم بفضل المطبعة وانتشار محو الأمية، إلى فقدانها جانب سلطتها الأخلاقي، نتيجة للفساد المتزايد والواضح داخل تسلسلها الهرمي. وعندما كتب مارتن لوثر أطروحته الشهيرة في عام 1517 لإدانة ممارسات الكنيسة المربحة المتمثلة في بيع صكوك الغفران، فقد أطلق العنان للحركة التي حولت على مدى العقود القليلة التالية الهياكل السياسية في أوروبا.

لقد واجه زعماء الثورة الفرنسية نظامًا فاشلًا مثقلًا بالديون ومكروهًا ليس فقط بين أولئك الذين عانوا عدم المساواة، بل وأيضًا بين الأرستقراطيين الذين استفادوا من ذلك النظام. وعلى نحو مماثل، توقف حتى أغلب أولئك الذين عملوا لصالح النظام السوفييتي عن الإيمان بالماركسية بحلول ثمانينيات القرن العشرين. ولكن التنبؤ بتوقيت النهاية كان مسألة أخرى.

في الولايات المتحدة، تشير جاذبية ترامب إلى أنَّها ليست نتيجة جاذبية سياسة عابرة، بل نتيجة لخيبة أمل واسعة النطاق تجاه المؤسسات القائمة. في عهد الرئيس جو بايدن، عمل الاقتصاد بشكل جيد، وانخفضت البطالة، وأحرزت الحكومة تقدمًا في السيطرة على الحدود الجنوبية، لكن تصورات العديد من الناخبين كانت مختلفة. والأهم من ذلك، في معظم أنحاء البلاد، اعتُبرت الحكومة الفيدرالية غير فعالة وفاسدة، أو حتى استبدادية. تعتمد الديموقراطيات على الثقة، وهذا تآكل. كان ترامب ماهرًا في التعبير عن مخاوف واستياء الأمريكيين.

إنَّ البناء على السخط في الأوقات العصيبة للوصول إلى السلطة يتطلب نوعًا معينًا من العبقرية والاستعداد لتجاهل الحكمة والعادات التقليدية. بصفته مؤسس الاتحاد السوفييتي، كان فلاديمير لينين محظوظًا في عصره، لكنه صنع حظه أيضًا. بفضل شعاره البسيط، ولكن الرائع “السلام والخبز والأرض”، وتركيزه الشديد على الوصول إلى السلطة، تمكن حزبه البلشفي من كسب الدعم في مناطق رئيسية من البلاد. وفي نوفمبر 1917، استولى على السلطة، مع عواقب طويلة الأمد على ما أصبح الاتحاد السوفييتي والعالم.

وتمكن هتلر من إقناع عدد كافٍ من الألمان المؤثرين -بما في ذلك رجال الأعمال وكبار الجنرالات وأولئك المقربين من الرئيس الألماني وبطل الحرب بول فون هيندينبورج- بأنَّه يجب تعيينه مستشارًا في يناير 1933. بعد شهر واحد، بعد حريق الرايخستاخ، مُنح هتلر سلطات الطوارئ. لقد قضى بسرعة على ما تبقى من جمهورية فايمار، وكما فعل نابليون ولينين وستالين، فقد أسس هتلر نظامًا جديدًا بمؤسسات جديدة وقيم جديدة وفائزين وخاسرين جدد.

إنَّ مثل هذه العوامل القوية للتغيير تلقى ترحيبًا كبيرًا في كثير من الأحيان. ففي ألمانيا في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، سئم كثير من الناس من العنف وعدم اليقين والاقتصاد الفاشل، وأملوا في أن يستجيب زعيم قوي لمخاوفهم ويضع حلولًا جديدة وفعّالة لجلب أيام أفضل وأكثر هدوءًا. أما الدول الغربية مثل فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، التي كان من الممكن أن تدعم القوى الديموقراطية في ألمانيا أو تحاول احتواء النازيين بمجرد وصولهم إلى السلطة، فقد كانت تكافح آنذاك في مواجهة تأثير الكساد الكبير على مجتمعاتها، وخشيت انتشار الشيوعية وصعود العسكرة اليابانية. وكما حدث مع نظام موسوليني الفاشي في إيطاليا، فقد نظر كثيرون إلى الحكومة النازية الجديدة، التي أحيت الاقتصاد الألماني ودفعت مصالحها الدولية بجرأة وحسد. وحتى الديموقراطيات الغربية الرائدة أنتجت فاشيين ومستبدين محتملين، مثل السير أوزوالد موزلي في بريطانيا أو هيوي لونج أو الأب كوفلين في الولايات المتحدة.

إنَّ السؤال المُلْح اليوم هو ما إذا كان ترامب سوف يلتزم بحدود معينة في الداخل والخارج أم سوف يتجاهلها، واثقًا من قوته. بصفته رئيس وزراء في زمن الحرب، تمتع تشرشل بسلطات استثنائية، لكنه احترم البرلمان دائمًا. وبمجرد انتهاء الحرب في أوروبا، وافق على حل مجلس العموم لإجراء انتخابات عامة. وبعد سنوات من حكم المحكمة العليا ضد تشريع الصفقة الجديدة، فكر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في اتخاذ إجراء لتوسيع المحكمة بأنصاره، ولكن عندما اندلعت صرخة ضد ما اعتبر عملًا غير دستوري، تراجع ولم يحاول تحدي النظام الديموقراطي مرة أخرى. ومع ذلك، لم ينتبه زعماء آخرون، في سعيهم إلى السلطة والمجد، إلى تكاليف المسارات التي اختاروها أو رغبات شعوبهم. يدفع الروس ثمنًا باهظًا لقرار بوتن غير المدروس بغزو أوكرانيا، حيث تقدر الخسائر بأكثر من 700 ألف قتيل، لكنه حتى الآن لا يُظهِر أي علامة على تغيير المسار.

كل شيء مباح

إنَّ الطريقة التي يختار بها ترامب التعامل مع القواعد غير المكتوبة والافتراضات غير المعلنة قد تكون حاسمة في تحديد مستقبل النظام الدولي. في عام 1804، تجاهل نابليون المعايير المقبولة عندما اختطف أحد الملكيين البارزين، دوق إنجين، من ولاية بادن الألمانية وأعدمه في فرنسا بعد محاكمة عسكرية سريعة. لقد صُدمت أوروبا بأكملها، لكن الفعل ساعد في تعزيز سيطرة نابليون على فرنسا.

وفي عهد لينين، روَّج الاتحاد السوفييتي الجديد للثورة العالمية ورفض الدبلوماسية التقليدية. كما ندَّد هتلر بتأييد ألمانيا لمعاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الأولى، وكسر واحدًا تلو الآخر ما أسماه “سلاسلها” على سبيل المثال من خلال إعادة تسليح منطقة الراينلاند وبناء قوة جوية ألمانية. لقد شجعت حقيقة أنَّه أفلت من العقاب على هذه التحركات آخرين، بما في ذلك القادة العسكريين اليابانيين، الذين واصلوا عدوانهم غير المبرر في الصين، وموسوليني الذي استولى على إثيوبيا.

يبدو النظام الدولي اليوم أقوى وأكثر مرونة. فبعد الحرب العالمية الثانية، أنشأ الحلفاء المنتصرون مؤسسات جديدة -بما في ذلك الأمم المتحدة والنظام النقدي الدولي الذي أنشئ في بريتون وودز- لمنع ما أسماه ميثاق الأمم المتحدة “آفة الحرب” ومعالجة أسبابها مثل الفقر، والتي تدفع الدول إلى اللجوء إلى الصراع المسلح. ورغم أنَّ الحرب الباردة حالت دون التأسيس الكامل للنظام الجديد، فإنَّ التحالفين المتنافسين حلف الناتو وحلف وارسو وجدا بمرور الوقت سبلًا للتعامل مع بعضهما البعض وتجنب الحرب النووية الشاملة. فقد وقعا على معاهدات رسمية للحد من الأسلحة، على سبيل المثال، ووضعا قواعد واتفاقيات غير رسمية للحد من خطر سوء الفهم الذي قد يؤدي إلى الحرب. وعلى الرغم من الخطابات، لم يحاول أي من الجانبين دحر قوات الطرف الآخر على الأرض.

لقد اختفى الكثير من هذا النظام مع نهاية الحرب الباردة، لكن أجزاء منه بقيت، من مؤسسات مثل الأمم المتحدة إلى المعاهدات التي تحكم كل شيء من الطيران المدني إلى التجارة الدولية. والأمر الحاسم هو أنَّ الاتفاق غير المعلن بعد عام 1945 بأنَّ الاستيلاء على الأراضي بالقوة في أي مكان في العالم ليس أساس السيادة استمر حتى أوائل القرن الحادي والعشرين. لكن هذا الفَهم قد اُنتهِك الآن، مع استيلاء روسيا على أجزاء من أوكرانيا، واعتراف حكومة الولايات المتحدة بادعاءات إسرائيل بالسيادة على مرتفعات الجولان المقتطعة من سوريا.

وكما هو الحال في السياسة الداخلية، فإنَّ القادة الذين يخالفون القواعد ولا يدفعون ثمنًا للقيام بذلك يمكن أن يدفعوا الآخرين إلى محاولة الشيء نفسه. لقد ألهمت الديموقراطية غير الليبرالية لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان العديد من أنصار ترامب في الولايات المتحدة، بما في ذلك الاستراتيجي السياسي ستيف بانون ورجل الأعمال التكنولوجي إيلون ماسك. لقد شكلت هجمات بوتن غير المبررة على دولة مجاورة ذات سيادة سابقة -وخاصة إذا نجحت في كسب أراضٍ- لقادة آخرين مثل شي، الذي أعرب منذ فترة طويلة عن هدفه بإعادة تايوان إلى حكم الصين. والواقع أنَّ القواعد التي ظلت قائمة لعقود من الزمان قد تنهار في بعض الأحيان بهذه الطريقة.

يُقال إنَّ الأمريكيين سئموا من كونهم رجال شرطة العالم، ومن يمكن أن يلومهم على ذلك. لكن احتمالات تبني سياسة انعزالية في عهد ترامب، وحتى احتمال انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو وإضعاف التحالف الغربي بشكل أكبر، والمواجهة مع الصين، وحرب التعريفات الجمركية مع أغلب دول العالم، من غير المرجح أن تجعل الولايات المتحدة، أو غيرها من البلدان، أكثر أمانًا. وعلاوة على ذلك، فإنَّ الصعود المستمر للحركات القومية اليمينية في أوروبا قد يؤدي إلى المزيد من تآكل الدعم للنظام الدولي الذي استفادت منه الولايات المتحدة في كثير من الأحيان.

ولكن من غير الواضح أيضًا ما إذا كان العالم يعرف كيف سيتعامل مع زعيم من المرجح أن يثبت أنَّه أكثر تقلبًا وأكثر ميلًا إلى تجاهل القواعد مما كان عليه في ولايته الأولى. ففي العلاقات الدولية، يظل الخطر المتمثل في أن تؤدي الأخطاء وسوء الفهم إلى مواجهات، كما حدث في عام 1914، قائمًا دائمًا، ولكن يبدو أنَّ هذا الخطر آخذ في النمو اليوم. فحتى مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، اختبر زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون صاروخًا باليستيًّا عابرًا للقارات بعيد المدى واقترب من بوتن، فعمل على تدويل الصراع في أوكرانيا من خلال تزويد روسيا بقوات كورية شمالية. ومن جانبه، كشف بوتن عن حدود أدنى لاستخدام الأسلحة النووية، واستخدم نوعًا جديدًا من الصواريخ الأسرع من الصوت ضد كييف. ومع تولي ترامب منصبه، من الصعب تخمين ما إذا كانت أفعاله ستخفض درجة الحرارة الدولية أو ترفعها. وفي ثلاثية عظيموف، يُوضع البغل تحت السيطرة في نهاية المطاف، ويُجرد من سلطاته، ويُرسل مرة أخرى إلى كوكبه الصغير مع استعادة النظام في الأرض، ولكن هذا خيال علمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى