ترجمات

فورين أفيرز: أزمة التجنيد في الجيش الأمريكي

خوان كيروز.. فورين أفيرز

إنَّ تحسين جودة القوات العسكرية المُشكّلة بالكامل من المتطوعين يبدأ بإعادة الاستثمار في برامج الرعاية الاجتماعية.

توجد بين جيش الدولة ومجتمعها علاقة تكافلية. يوفر المجتمع رأس المال البشري والاقتصادي للجيش؛ في حين يحمي الجيش المجتمع. في عام 1973، ردًا على الاضطرابات المجتمعية الناجمة عن التجنيد الإجباري في حِقبة حرب فيتنام، حولت الولايات المتحدة قواتها المسلحة إلى نموذج قائم على التطوع بالكامل، ولم تزودها إلا بالمجندين الذين انضموا باختيارهم. وفي الوقت نفسه الذي ألغت فيه التجنيد الإجباري، بدأت الحكومة في تقليص برامج الرعاية الاجتماعية الفيدرالية. والنتيجة غير المقصودة لذلك هي ندرة الأشخاص المؤهلين الراغبين في الانضمام إلى الجيش.

رغم أنَّ الجيش المُشكل من قوات متطوعة يتمتع بمزايا كبيرة مقارنة بنظيره المُشكل جزئيًّا من خلال التجنيد الإجباري، فإنَّ سياسات الرعاية الاجتماعية غير الكافية أدت إلى تقويض القوى العاملة في الولايات المتحدة. فقد أدى الفقر، وسوء التغذية في مرحلة الطفولة، والعلاقات المتدهورة بين الجيش والمجتمع إلى استنفاد قاعدة التجنيد. وقد أصبح هذا الإهمال المستمر لعقود من الزمن واضحًا في وقت تعمل فيه المنافسة مع الصين وروسيا على زيادة الحاجة إلى جيش قوي، الذي يتعين عليه بدوره تجنيد المزيد من الجنود من ذوي المهارات العالية.

لكن لم يفت الأوان بعد لإعادة الاستثمار في المجندين المستقبليين. ويتعين على حكومة الولايات المتحدة أن تتبنى رؤية بعيدة المدى، بدءًا بزيادة التمويل لبرامج التغذية المخصصة للأطفال، فهي سياسة كفيلة بتعزيز النتائج التعليمية والحد من السمنة. وينبغي للجيش أن يوسع نطاق وصوله إلى طلاب المدارس الثانوية، لإعطاء المزيد من الشباب الأمريكيين فهمًا دقيقًا للحياة في القوات المسلحة. ومن خلال توسيع صفوف الشباب المؤهلين للخدمة العسكرية وتشجيعهم على خدمة بلادهم، تستطيع الولايات المتحدة إصلاح العلاقات العسكرية المدنية وجذب أصحاب المواهب المتميزة.

أسباب التحول نحو التطوع

لقد نجحت القوات المكونة بالكامل من المتطوعين في حل أزمة التجنيد التي أوجدها سوء استخدام صناع القرار للتجنيد الإجباري للمدنيين. فعندما دخلت الولايات المتحدة حرب فيتنام، رفض الرئيس الأمريكي جونسون، أثناء سعيه لتجنب ردود الفعل السياسية، تفعيل وحدات الاحتياط ووحدات الحرس الوطني، واعتمد بدلًا من ذلك على المجندين. وأعرب عن اعتقاده أنَّه من الأفضل تجنيد أشخاص من جميع أنحاء البلاد بدلًا من تجنيد مئات الرجال من المجتمعات التي لديها وحدات حرس وطني. لكن عملية التجنيد تعطلت لبعض الوقت. ففي عقد السلام النسبي الذي أعقب الحرب الكورية، بدأ نظام التجنيد في منح الكثير من التأجيلات، التي استُخدمت بشكل غير متناسب من طرف الأمريكيين البيض والأثرياء. ومع تصاعد التدخل الأمريكي في فيتنام، كشف الطلب المتزايد على القوات عن عدم المساواة في نظام التجنيد، حيث جُند الفقراء والمواطنون السود ومن ذوي الأصل الإسباني، ودُفع بهم إلى المهام القتالية، وعانوا خسائر كبيرة. فعلى سبيل المثال، جُند 64% من الأمريكيين السود المؤهلين مقارنة بـ 31% من الأمريكيين البيض المؤهلين. وشكل السود 31% من الكتائب القتالية و24% من ضحايا الحرب على الرغم من أنَّهم شكلوا آنذاك 12% فقط من سكان الولايات المتحدة. أدت معارضة الحرب إلى زيادة الشكوك حول نظام التجنيد، ومع فشل المحاولات التشريعية للإصلاح، أصبح التجنيد الإجباري سامًا من الناحية السياسية.

كان الهدف من التحول إلى قوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين أيضًا هو رفع روح العمل الجماعي لدى الجيش. ففي عام 1968، أمر ويليام ويستمورلاند، الذي اُستدعى للتو للعمل كقائد للقوات الأمريكية في فيتنام ثُمَّ ترقى إلى منصب رئيس أركان الجيش، بإجراء سلسلة من الدراسات لتحديد السبب الجذري لتدهور الروح المعنوية والانضباط في الجيش. وخلصت الدراسات إلى أنَّ المجندين مسؤولون عن إصابة القوات المسلحة بالأمراض الاجتماعية التي عصفت بأمريكا في الستينيات، مثل تعاطي المخدرات والتوترات العنصرية. وعقدت قيادة الجيش العزم على استخدام نموذج التطوع بالكامل للتخلص من “الأشخاص غير المرغوب فيهم”.

هناك فوائد لقوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين. يتباهى المجندون اليوم بمعدلات تخرج مرتفعة من المدارس الثانوية، ونتائج اختبارات متميزة، ومعدلات استبقاء أعلى بكثير مقارنة بجنود عصر التجنيد الإجباري. وفي السنوات الخمسين الماضية، استخدم صناع السياسات هذه القوة المهنية ذات المؤهلات الأفضل في مجموعة متنوعة من المواقف، من الحملات العسكرية السريعة في غرينادا وبنما إلى التزامات دامت عقودًا من الزمن في الشرق الأوسط، دون الاضطرار إلى مطالبة الجمهور الأوسع بتحمل التضحيات. لكن التحول إلى قوة مؤلفة بالكامل من المتطوعين حدث في نفس الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة تقليص برامج الرعاية الاجتماعية، حيث خفضت إدارتا كارتر وريغان التمويل لكثير من المساعدات السابق تقديمها في عهد جونسون، بما في ذلك برامج التحويلات النقدية للأسر التي لديها أطفال، وتذاكر الطعام، ومساعدات الإسكان، والمساعدات الطبية، ومنح خدمة المجتمع. على وجه الخصوص، أضرت هذه التخفيضات بالعائلات السوداء والأسر التي ترعى فيها الأمهات فقط الأطفال لعدم وجود عائل، ويمكن الشعور بآثارها التراكمية اليوم.

غير صالح للخدمة

لقد أدت خمسون عامًا من سحب الاستثمارات المحلية إلى تقليص رأس المال البشري لدى المؤسسة العسكرية الأمريكية. وجدت دراسة أجراها البنتاغون في عام 2020 أنَّ 77% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عامًا غير مؤهلين للخدمة العسكرية دون تنازل عن شروط التجنيد، مقارنة بـ 71% في عام 2017. وكانت الأسباب الأكثر شيوعًا لعدم الأهلية هي السمنة، وتعاطي المخدرات، والمشكلات العقلية، والظروف الصحية الجسدية. ما يقرب من نصف الشباب الأمريكيين غير مؤهلين لأسباب متعددة. إنَّ القوة البشرية العسكرية للولايات المتحدة آخذة في الانحدار، لأنَّ صناع القرار السياسي فشلوا في الاستثمار في صحة وتغذية المجندين المحتملين خلال سنوات تكوينهم.

كما أصبحت القوات المسلحة الأمريكية تعتمد بشكل مفرط على المجندين الذين هم على دراية بالخدمة العسكرية من خلال الروابط العائلية أو الجغرافية. أكثر من 80% من المجندين الجدد لديهم أحد أفراد الأسرة خدم في الجيش، وحوالي نصفهم لديهم أحد الوالدين خدم في الجيش. لقد أصبح الجيش شركة عائلية بدلًا من النظر له كواجب مدني، ما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين القوات المسلحة وبقية المجتمع. ووَفقًا للاستطلاعات التي أجراها معهد “رونالد ريغان الرئاسي”، انخفضت نسبة الأمريكيين الذين أفادوا بأنَّ لديهم قدرًا كبيرًا من الثقة في القوات المسلحة من 70% إلى 48% بين عامي 2018 و2023.

إنَّ الاعتماد على الروابط العائلية للتجنيد قد يكون غير مستدام، فعدد متناقص من أفراد الخدمة وعائلاتهم يوصون الآخرين بالتجنيد، 63% فعلوا ذلك في عام 2021، بانخفاض من 75% في عام 2019، وفقًا “للشبكة الاستشارية للعائلة العسكرية”، وهي مجموعة مناصرة للتجنيد.

إنَّ الافتقار إلى الجنود المحتملين المتحمسين والمؤهلين يترك الولايات المتحدة وقواتها المسلحة في وضع محفوف بالمخاطر بينما تتنقل في البيئة الجيوسياسية الأكثر تحديًّا منذ نهاية الحرب الباردة. ومع وجود عدد أقل من الأمريكيين الراغبين أو القادرين على الخدمة، سيتعين على المؤسسة العسكرية الأمريكية الاعتماد بشكل أكبر على حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، الذين لا تتوافق مصالحهم دائمًا مع مصالح الولايات المتحدة.

الخطوة الأولى لإعادة بناء القوى العاملة في الولايات المتحدة هي أن تستثمر الحكومة الأمريكية في مجنديها المستقبليين. يزيد الفقر في مرحلة الطفولة من حدوث السمنة والمشكلات الصحية والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر. هذه النتائج لا تجعل الشباب الأمريكي غير مؤهل للخدمة فحسب، بل تقوض أيضًا فرصه في الازدهار في الحياة المدنية. وقد أدرك قادة الجيش أنَّ انخفاض الأهلية يرتبط بهذه الاتجاهات المجتمعية وقدموا دورات تحضيرية ومحاضرات أكاديمية لمساعدة المجندين المحتملين على التغلب على السمنة. لكن هذا البرنامج يساعد المجندين ممن هم على أعتاب الأهلية للتجنيد فقط. ولا يكفي لمعالجة عقود من الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة التي خلقت أزمة الأهلية في المقام الأول. ولإصلاح هذا الضرر، يتعين على صناع السياسات المدنيين الاستثمار في التغذية والتعليم، وتوسيع نطاق التواصل العسكري، وإصلاح نظام الخدمة الانتقائية “الوكالة الفيدرالية التي تحتفظ بسجل للمجندين المحتملين”.

يعاني حوالي 22% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين عامين و19 عامًا السمنة. الكثير من هذا له علاقة بسوء التغذية. ينبغي لواضعي السياسات الفيدراليين أن يقدموا لكل طفل أمريكي يلتحق بالمدارس العامة ثلاث وجبات مجانية. وهذا من شأنه أن يضمن حصول كل طالب على فرصة الحصول على التغذية اللازمة للتعلم والنمو الصحي، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأسرته. وعلى المدى الطويل، من شأنه أن يقلل معدلات السمنة بين المجندين المحتملين في الولايات المتحدة.

تعتمد القوات المسلحة اليوم بشكل كبير على الخبرة الفنية والتفكير النقدي، ما يزيد من أهمية تعليم المجندين. علاوة على ذلك، للاستفادة من التكنولوجيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي، تحتاج المؤسسة العسكرية الأمريكية إلى مرشحين ذوي مؤهلات عالية تحرص شركات القطاع الخاص أيضًا على توظيفهم. لكن الجيش الأمريكي في وضع غير مؤات، فيما يتعلق بتجنيد الأشخاص المتعلمين جيدًا لعدة أسباب.

 يميل أولئك الذين أكملوا تعليمهم العالي بالفعل إلى أن يكونوا أقل اهتمامًا بواحدة من عوامل الجذب الرئيسية للخدمة العسكرية: الفوائد التعليمية. وحتى عندما تجد القوات المسلحة مجندين واعدين وتدربهم، فإنَّهم غالبًا ما يغادرون إلى القطاع الخاص الأعلى أجرًا، وهو الصراع الذي ابتليت به القيادة السيبرانية الأمريكية بشكل خاص. وَفقًا لدراسة أجرتها جامعة القوات الجوية في عام 2016، حصل محللو أمن المعلومات المدنيون، في المتوسط على 130 بالمائة من الأجر الذي حصل عليه نظراؤهم المجندون.

وبدلًا من الانخراط في حرب مزايدة مع الشركات الخاصة على مجموعة صغيرة من العمال المهرة، يحتاج صناع السياسات إلى المساعدة في رفد المزيد من الشباب الأمريكيين بالمهارات في تطوير البرمجيات، وعلوم البيانات، وهندسة البيانات، والأنظمة الفيزيائية السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي. ويتعين على وزارة الدفاع أن تتعاون مع وزارة التعليم لإنشاء برامج للمدارس المتوسطة والثانوية لتعليم الشباب الأمريكي هذه المهارات الحاسمة، التي يحتاجها كل من القطاعين الخاص والعام ليظل قادرًا على المنافسة في بيئة التكنولوجيا السريعة التطور اليوم. كحد أدنى، يجب على البنتاغون إنشاء هذه البرامج داخل مدارسه الخاصة. فمن خلال وكالة النشاط التعليمي التابعة لها، تدير وزارة الدفاع 160 مدرسة تضم أكثر من 66 ألف طالب جميعهم أطفال من عائلات عسكرية، وهي المجموعة التي من المرجح أن تخدم في وقت لاحق من الحياة.

الكل من أجل الواحد

إنَّ الأهلية ليست مشكلة التجنيد الوحيدة في الجيش. أبدى تسعة بالمائة فقط من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و21 عامًا اهتمامًا بالانضمام إلى الجيش الأمريكي. وعلى الرغم من أنَّ القوات المسلحة تحتاج إلى تجنيد جزء صغير فقط من هؤلاء السكان لملء صفوفها، فإنَّ اللامبالاة واسعة النطاق تجاه الخدمة العسكرية تشير إلى وجود انفصال بين المجتمع والجيش. ولإعادة بناء العلاقات بين الجانبين، يتعين على حكومة الولايات المتحدة توسيع نظام الخدمة الانتقائية ليشمل النساء. فاليوم، تطلب الوكالة المختصة بالتجنيد من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا فقط تسجيل معلومات الاتصال الخاصة بهم. يُعدُّ استبعاد النساء أمرًا عتيقًا، نظرًا لأنَّه سُمح للنساء بالخدمة في أدوار قتالية منذ عام 2015. وقد يتعرض الرجال الذين يرفضون التسجيل في نظام التجنيد للسجن أو الغرامات، ويصبحون غير مؤهلين للحصول على المنح التعليمية وفرص العمل الحكومية ومزايا التدريب الوظيفي الفيدرالي.

ولمنح الشباب فهمًا أفضل للحياة في القوات المسلحة، يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تجعل نفس المزايا التعليمية والتوظيفية الفيدرالية مشروطة بالمشاركة في فيلق تدريب ضباط الاحتياط الصغار “JROTC “، وهو برنامج يهدف إلى غرس القيم المدنية في طلاب المدارس الثانوية بشكل رئيسي من خلال دورات في التاريخ العسكري واللياقة البدنية.

في الوقت الحالي، تقدم 3500 مدرسة ثانوية عامة فقط من أصل 23500 مدرسة ثانوية عامة في الولايات المتحدة برنامج JROTC. يجب توسيع JROTC ليشمل جميع المدارس الثانوية حتى يُمنح الشباب الأمريكيين من جميع الأوساط فرصةً للتفاعل مع المحاربين القدامى الذين يمكنهم تقديم صورة واقعية للخدمة العسكرية.

 يجب أيضًا أن يضاف إلى مناهج “JROTC” برامج “جودة الحياة” المتاحة لأعضاء الخدمة الحاليين، مثل الاستشارات المالية ودورات التعافي من تعاطي المخدرات. يمكن لمنهج JROTC المطور أن يكمل الدورات الأكاديمية ودورات المهارات الحياتية في المدارس، بينما يعيد أيضًا بناء العلاقات بين الجيش الأمريكي والمجتمع، وهي الروابط المهملة منذ أكثر من 50 عامًا.

تخوض الجيوش معارك، لكن المجتمعات تخوض الحروب. ومن أجل الدفاع عن المجتمعات تؤسس القوات المسلحة. إنَّ حيوية المجتمع هي التي تدعم القوات المسلحة، في شكل دعم مادي وقوى بشرية. فإذا انحدر مجتمع ما، فإنَّ قواته المسلحة سوف تتدهور حتمًا أيضًا. طيلة خمسين عامًا لم تطلب حكومة الولايات المتحدة شيئًا من أغلب الأمريكيين عندما دخلت في صراعات. وفي الوقت نفسه، خفض صناع السياسات الاستثمار في الشعب الأمريكي. لقد أصبحت التأثيرات طويلة المدى لفك الارتباط بين الدولة والمجتمع واضحة بشكل مؤلم. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، تكافح المؤسسة العسكرية الأمريكية لتجنيد أفراد من مجتمع أصبح شبابه غير قادرين وغير راغبين على نحو متزايد في الوفاء بالواجب المدني الأكثر أهمية: الدفاع عن بلادهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى