السياسة الأوروبية تجاه سوريا: بين الفرص والتهديدات والأدوار الإقليمية والدولية

السياسة عملية مركبة من عدة فواعل مؤثرة تحوي بين أسطرها مصالح وتهديدات متناقضة في آن معًا. ولأنَّ أحدًا لم يتوقع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، ما زالت القوى الفاعلة الكبرى تبحث لنفسها عن أدوار في إعادة تشكيل المشهد السوري بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية وفق التوازنات الجديدة إقليميًّا ودوليًّا.
تقدم سوريا اليوم فرصة للاتحاد الأوروبي لتشكيل نظام إقليمي جديد لا يتعارض مع مصالحها الحيوية، في مقابل الفواعل الإقليمية والدولية الأخرى التي بدأت تتحرك في الفراغ الناشئ عن انحسار النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة.
فبينما تحاول موسكو الإبقاء على حضورها في الساحل السوري الذي يشكل نافذة لها على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تسعى تركيا لاستثمار علاقتها الوثيقة بالإدارة السورية الجديدة في مرحلة الحكم الانتقالي وإعادة بناء مؤسسات وقطاعات الدولة، وتزاحمها في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية. ومن جهة أخرى، يستغل الاحتلال الإسرائيلي اللحظة الراهنة لإبقاء سوريا ضعيفة، بينما توازن الولايات المتحدة بين دعمها لإسرائيل ضد إيران ورغبتها طويلة الأمد في تقليص التزامات أمريكا الإقليمية.
يعكس هذا المشهد التنافس العميق حول سوريا، بينما تسعى الدول الأوروبية لفرض استقرار يضمن عدم دخول البلاد في دوامة الفوضى مجددًا، والتي من شأنها أن تهدد مصالحها عبر تجدد موجات الهجرة غير النظامية وتهديد أمن الطاقة وعودة هجمات تنظيم الدولة الإسلامية.
في مواجهة النفوذ الروسي
تنطلق المقاربة الأوروبية تجاه روسيا من التغيرات الطارئة على السياسة الأمريكية، حيث تثير تصريحات الرئيس ترامب الإيجابية حول الحرب في أوكرانيا قلقًا أوروبيًّا متزايدًا من دفعة إيجابية قد تستفيد منها سياسات موسكو في الشرق الأوسط. فقد أشارت تقارير من رويترز إلى محاولات إسرائيلية لإقناع الإدارة الأمريكية بالسماح لروسيا بالحفاظ على قاعدتيها العسكرية في سوريا الجوية في حميميم والبحرية في ميناء طرطوس، لتوفير ثقل موازن للنفوذ التركي المتزايد.
لكن الوجود العسكري الروسي لن يضعف الدور التركي إلى حد سلبه ميزة التأثير، لكنه قد يشوش في ظرف ما الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار وتثبيت الحكم المركزي في دمشق. فعلى إثر مواجهات الساحل في مارس الماضي بين قوات الحكومة السورية ومجموعات من فلول نظام الأسد، لجأ العديد من العلويين إلى قاعدة حميميم في ريف اللاذقية حيث طُلب منهم التوقيع على عريضة تدعو إلى التدخل الدولي لضمان حمايتهم، ما يعزز من إمكانية دور روسي داعم لأي طموحات انفصالية علوية في المستقبل.
لذا، يفضل الاتحاد الأوروبي تقليص الوجود الروسي في سوريا، بل وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى حده الأدنى، فتأمين السلام في أوكرانيا أمر حيوي لأمن أوروبا، ويشوش عليه الوجود الروسي في حوض البحر المتوسط، والذي تصل من خلاله موسكو إلى إفريقيا لتمويل جهوده الحربية عبر تهريب الذهب من السودان والاستفادة من تجارة المخدرات من خلال فيلق إفريقيا (فاغنر سابقًا).
إسرائيل والخوف من المستقبل
يعد الاحتلال الإسرائيلي محركًا رئيسيًّا لعدم الاستقرار في سوريا والمنطقة، حيث استطاع من خلال السيطرة على جبل الشيخ والقنيطرة جنوب دمشق فرض واقع ميداني لصالحه في سوريا، تدفعه إلى ذلك مخاوفه من عودة دمشق إلى الظهور كلاعب إسلامي سُني يفرض سياسات أكثر حزمًا من نظام الأسد.
وعلى وقع الاشتباكات بين قوات الأمن العام السوري والمجموعات الدرزية المسلحة جنوب دمشق، استهدفت غارة إسرائيلية في 2 مايو موقعًا قرب قصر الشعب حيث يقيم الرئيس أحمد الشرع، في رسالة للأخير حول جدية الاحتلال في رفضه لنشر قوات جنوب العاصمة أو “أي تهديد للطائفة الدرزية” على حد تعبير نتنياهو.
ولذلك، تفضل حكومة نتنياهو أن تكون سوريا ضعيفة ومجزأة على أن تكون قوية تحكمها حكومة مركزية في دمشق، وهذا ما يتعارض بشكل جلي مع مصلحة الاتحاد الأوروبي في استقرار البلاد. لكن هذه الاستراتيجية العدوانية قد تأتي بنتائج عكسية في ظل الالتزام التركي بدعم نظام الرئيس الشرع، حيث تسعى دمشق أكثر فأكثر لتوثيق العلاقات الأمنية والعسكرية مع أنقرة، كما تؤجج هذه الاعتداءات من المشاعر المعادية للاحتلال بين السوريين.
تركيا: الضامن الجديد
في مقابل الأطراف المزعزعة للاستقرار، تبرز تركيا في صدارة القوى الدافعة باتجاه تحقيق الاستقرار السوري وبناء دولة مركزية قوية، مستفيدة من علاقتها الوثيقة مع الرئيس الشرع وإدارته لتعزيز مصالحها وإيجاد نقطة انطلاق لنفوذ إقليمي أوسع من دمشق.
وتريد أنقرة من خلال تحقيق الاستقرار في سوريا إنهاء ملف اللاجئين السوريين لديها وتأمين عودتهم إلى بلادهم، إلى جانب معالجة التهديد الأمني الذي تشكله الميليشيات الكردية المنضوية تحت وحدات حماية الشعب، وقد نجحت في إحراز تقدم كبير في هذا المسار بعد إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه. وعلى صعيد مماثل يبرز تهديد خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ما يدفع أنقرة إلى دمج سلطات دمشق ضمن تنسيق أمني مشترك مع كل من الأردن والعراق لسد الفراغ الذي قد يحدثه الانسحاب الأمريكي المحتمل.
لكن على المستوى الاقتصادي، تريد تركيا ترسيخ دورها كمركز إقليمي ودولي للطاقة والخدمات اللوجستية عبر اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة مع حكومة دمشق، التي أشار إليها وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو، للسماح بالتنقيب عن النفط والغاز. ويتعارض هذا الهدف مع المصالح الأوروبية التي تنافس النفوذ التركي في شرق حوض المتوسط، حيث حقول الغاز المكتشفة مؤخرًا، وتتصدر قبرص واليونان وفرنسا في هذا الصدد جبهة مناهضة لتركيا يخوض من خلالها الاتحاد الأوروبي صراعًا جيوسياسيًّا أوسع ألقى بظلاله على المشهد الليبي من قبل.
يسعى الاتحاد الأوروبي لمعالجة هذا الملف عبر الاتفاق مع تركيا لا التصعيد معها، حيث يدرك صناع القرار في أوروبا عدم قدرتهم على تحمل انهيار دبلوماسي كامل ناهيك عن تصعيد ميداني مع أنقرة، وذلك لحماية مصالحه الأساسية في قضايا الهجرة والطاقة واستقرار الشرق الأوسط.
الخليج والمال
يعتمد إنعاش الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار بشكل كبير على الدعم المالي لدول الخليجي، ما يمنحها نفوذًا كبيرًا لتشجيع النظام الجديد في دمشق يتماشى على مراعاة مصالحها. فالرياض تريد إعادة تأسيس قيادتها الإقليمية لاحتياجاتها الأمنية وتحولها الاقتصادي، أما الدوحة فتستفيد من دعمها للثورة السورية على مدار سنوات الحرب لتكون فاعلًا رئيسيًّا في سوريا الجديدة.
ولذا، تزود قطر سوريا الآن بإمدادات الغاز الطبيعي عبر الأردن وعرضت دفع رواتب موظفي الحكومة الجديدة، كما سددت هي والسعودية ديون سوريا لمجموعة البنك الدولي البالغة نحو 15 مليون دولار. وعلى الصعيد السياسي، دعمت المملكة في مارس الماضي مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، ورعت في 16 مايو 2025 اجتماعًا هو الأول بين الرئيس الشرع ودونالد ترامب بحضور ولي العهد محمد بن سلمان، ليعلن ترامب بعدها رفع العقوبات عن سوريا.
واشنطن: بين ضعف الثقة وغياب الأولويات
في ظل مواقف ترامب المتغيرة باستمرار، تتردد السياسة الأمريكية تجاه سوريا بين عاملي “ضعف الثقة في الإدارة الجديدة” و”التخفف من أعباء الشرق الأوسط”. فنائب الرئيس جي دي فانس يريد الحد من التدخل الأمريكي في المنطقة وسحب القوات الأمريكية من سوريا والعراق، بينما يدعم وزير الخارجية ماركو روبيو بقاء الحضور الأمريكي القوي في الشرق الأوسط لإضعاف إيران والدعم غير المقيد للعمل العسكري الإسرائيلي في المنطقة. ويشير رفع العقوبات الأمريكية مدة 180 يومًا إلى “فرصة” أعطاها ترامب للإدارة السورية دون أن تعني “ثقة” تامة بالوضع الراهن في دمشق.
المسار الأوروبي المتوقع
تبحث الحكومات الأوروبية في الملف السوري عن طرق للتعاون والتنافس مع القوى الإقليمية والدولية كلٌّ بحسبه، وما تفتقر إليه على صعيد القوة الصلبة في الشرق الأوسط تعوضه جزئيًّا عبر القوة الاقتصادية والدبلوماسية، حيث تستطيع إضفاء وزن سياسي مهم وموارد اقتصادية ومساهمات تقنية واسعة إلى جعبة الرئيس الشرع.
في طليعة العواصم الأوروبية، قد تعزز باريس دورها الدبلوماسي من خلال تحسين علاقات سوريا مع دول الجوار، وذلك عبر دعم جهود ترسيم الحدود مع لبنان وتحسين الشراكات السياسية والأمنية مع العراق. ومن جهة أخرى، تستطيع دول الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي معًا تفادي تقلبات ترامب الحادة عبر المناورة مع الإدارة الأمريكية في موقف لا تكون فيه واشنطن عائقًا أمام تحقيق المصالح الأوروبية. حيث تتمتع الرياض والدوحة بعلاقات قوية مع الإدارة الأمريكية ونفوذ في واشنطن يتفوق في بعض الجوانب على النفوذ الأوروبي، ويمكن تأطير هذا الجهد كوسيلة لكبح جماح حكومة نتنياهو المُصرَّة على إضعاف وتقسيم سوريا.
أما في إطار تعاونها مع تركيا، فيرجح أن تضغط الدول الأوروبية على أنقرة للوصول إلى حل توافقي مع قوات سوريا الديموقراطية بدلًا من التصعيد الميداني، كما ستعمل على دمج أنقرة في نهج إقليمي مشترك مع دول مجلس التعاون الخليجي لتجنب تجدد الخصومات الإقليمية.
أما فيما يتعلق بإيران، فيظهر جليًّا تفضيل أوروبا استبعاد خيار المواجهة الصفرية الذي قد يُشْعِر شيعة سوريا والمنطقة بالتهديد الوجودي، وهو ما سيغذي الصراع الداخلي من جديد ويدفعهم للجوء إلى العنف لحماية وجودهم. ومع التطمينات الداخلية، ربما تفضل أوروبا العمل من خلال الرياض وأنقرة لتعزيز الخيار الدبلوماسي مع طهران ودعم الوصول إلى اتفاق نووي مدني جديد بين الإدارة الأمريكية وإيران والحد من العقوبات المفروضة عليها.
ولا يمكن فصل كل ذلك عن الجهد المباشر تجاه سلطات دمشق، عبر دعم مشاريع خدمية وإنمائية واقتصادية والمساعدة في بناء مؤسسات الدولة الإدارية والأمنية والسياسية. لقد انزاحت العقبة الأكبر في هذا الطريق بإعلان ترامب رفع العقوبات الأمريكية، تلاه بعد أيام قليلة إعلان الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات من طرفه أيضًا.
ستكون المرحلة على المدى القريب مليئة بالمناورات السياسية الحادة، والتي قد تتكشف عن مزيد من الانفتاح الغربي تجاه إدارة الرئيس الشرع في سيناريو سريع الوتيرة. لكن الثابت في المشهد حتى الآن حرص أوروبا على حفظ استقرار سوريا وعدم عرقلة الإدارة الحالية، وهو مسار تستفيد منه دمشق في إطار منافسة شديدة على الفرص المتاحة التي لا يمكن استثمارها بغير الاستقرار.