في أرجاء تركيا، قبيل وبعد انتخابات رئاسة الجمهورية التي جرت في شهر مايو الماضي، أشارت التوقعات إلى احتمال انخراط أنقرة ودمشق في عملية حوار مكثّف رفيعة المستوى مثلما حدث بين العديد من الدول العربية ونظام الأسد، أي عملية “تطبيع” يُفترض أن تعيدَ الأمور بين البلدين إلى سابق عهدها.
لقد أصبحت قضية وجود اللاجئين السوريين في تركيا وما تمثله من تحديات مستقبلية أمرًا مثيرًا للجدل في المشهد السياسي التركي في الآونة الأخيرة. وقد أعطت هذه الظروف فرصة لانتشار وتبني نظريات لا تمت للواقع بصلة، تدّعي أنَّ أي تطبيع محتمل سيُساهم في عودة اللاجئين، وهو ادعاء بلا أساس. فبمجرد انتهاء فترة الانتخابات وتمخضها عن فوز الرئيس أردوغان، أصبحت العلاقات مع النظام السوري قضية ضمن ملفات السياسة الخارجية وخرجت من كونها ضمن أجندة السياسة الداخلية.
راهن الأسد على أنَّ احتمال تغيير السلطة في تركيا سيؤدي إلى تغيير في التواجد التركي على الأراضي السورية، لكن بعدما لم تتحقق هذه التوقعات عاد الأسد إلى تبني لغة سياسية حادة في تناوله للعلاقات مع تركيا، فقد وصف الوجود التركي في سوريا على أنَّه يمثل “تمددا للفكر العثماني”. وأعلن في مقابلة مع Sky News في شهر أغسطس أنَّه لن يجتمع مع أردوغان، وأشار إلى أنَّ مثل هذا اللقاء قد يساهم في شرعنة التواجد التركي في سوريا.
بينما كانت هذه التصريحات تتوارد من الأسد، أدلى وزيرا الخارجية والدفاع التركيين بتصريحات مثيرة للانتباه، ففي مؤتمر السفراء الرابع عشر الذي نظمته وزارة الخارجية في أنقرة، أدلى هاكان فيدان مدير جهاز المخابرات التركي أثناء العقد الماضي ووزير الخارجية في الفترة الحالية، بتصريحات حول الأوضاع في سوريا، وأشار إلى أنَّ الحل النهائي للمشكلة في سوريا يمكن أن يتحققَ من خلال “عملية سياسية” تحترم سيادة ووحدة الأراضي السورية، مع التأكيد على أنَّ تركيا ستعمل على منع استغلال سوريا ملاذًا للجماعات الإرهابية.
تشير النقاط التي أبرزها هاكان فيدان إلى تصميم تركيا على مواصلة “مكافحة الإرهاب” في سوريا ودعمها للمعارضة السورية عبر عملية سياسية. وليس هذا فحسب، ففي غير هذا السياق أكد وزير الدفاع ياشار غولر في مقابلة مع وسائل الإعلام التركية أنَّ أنقرة تسعى بصدق إلى تحقيق السلام، ولكن لا يمكن أن تنسحب من سوريا ما لم تضمن أمنها الحدودي. ومثل فيدان أيضًا ألقى غولر الضوء على أهمية التركيز على العملية السياسية، مشيرًا إلى أنَّ أهم خطوة لتحقيق سلام دائم في سوريا تكمن في صياغة دستور جديد يوافق عليه جميع الأطراف.
ما تعبّر عنه هذه التصريحات هو نتائج مؤلمة للتطورات التي شهدناها على أرض الواقع، ففي الأشهر الأخيرة، شن الجيش التركي هجمات استهدفت جماعة وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) في شمال سوريا، لكنه لم يقتصر فقط على ذلك، بل استهدف أيضًا عناصر عسكرية تابعة للنظام السوري.
وكرد على التدخلات التركية، قررت قوات النظام التعاون بشكل أوثق مع وحدات حماية الشعب (YPG) في منطقة تل رفعت ومحيطها. وقدم النظام دعمًا مباشرًا وغير مباشر لـ YPG في هجماتها وتسللها من تل رفعت إلى مناطق تحت سيطرة الجيش الوطني السوري المعارض.
وفي يوليو أرسل النظام تعزيزات إلى شمال سوريا، شملت وحدات عسكرية بالإضافة إلى قوات ميليشياوية، وعكست هذه الخطوة عزم النظام على تعزيز وجوده في المنطقة لمواجهة الجيش التركي والجيش الوطني السوري.
وإلى جانب التحركات العسكرية التركية، يُظهِر مشروع الإسكان المشترك بين تركيا وقطر الذي بدأ في مايو بجرابلس، ويهدف إلى بناء 240 ألف وحدة سكنية، عدم استعداد تركيا للانتظار طويلًا لبدء عملية عودة اللاجئين من خلال تسوية الحوار مع دمشق.
بينما تسير الأمور بهذا الشكل وتتصاعد التصريحات بين دمشق وأنقرة، تجد روسيا نفسها تشاهد تصاعد نفوذ إيران من جديد في سوريا نتيجة تداعيات الصراع في أوكرانيا، فمنذ فبراير 2022، تعرضت القوات الروسية لخسائر كبيرة في أوكرانيا، فقدت حوالي 11,719 مركبة عسكرية، منها 2,235 دبابة. يُقدر أنَّها فقدت على الأقل 50,000 جندي خلال هذه الفترة.
إنَّ التركيز الروسي على الصراع في أوكرانيا، يتيح لإيران الفرصة لتعزيز نفوذها في سوريا. وبالرغم من عدم تخلي روسيا تمامًا عن دورها في سوريا، فإنَّها لم تستطع التعامل مع تصاعد نفوذ الميليشيات الإيرانية في مناطق مثل دير الزور وحمص ودمشق ودرعا. هذه التحركات التي جعلت دير الزور عبارة عن مركز للميليشيات الإيرانية التي زادت أيضًا من نفوذها في منطقة القنيطرة، وهو ما جعل روسيا تتجاهل تقريبًا الهجمات الجوية الإسرائيلية التي تستهدف مواقع وقوات النظام السوري وإيران.
ورغم تفضيل روسيا لتجنب التصعيد مع إيران ورغبتها في عدم جعل ميليشياتها أهدافًا للهجمات الإسرائيلية، فإنَّها تفضل أن تسمحَ لإسرائيل بتنفيذ هذه الهجمات واستنزاف الميليشيات الإيرانية بعيدًا عنها.
وعلى الرغم من انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، فإنَّها قد تكرر في الجنوب نهجها في الشمال، فقد تحمي مناطق ريف إدلب ووسط حلب من أي تحركات محتملة للجيش التركي وقوات المعارضة المدعومة من تركيا. وإذا اندلع الصراع الكبير الذي تأجل فترة طويلة في هذه المنطقة، فمن المحتمل أن تفضل روسيا ترك المجال القوات الإيرانية والجيش التركي للتنازع والاستنزاف المتبادل، في حين تحتفظ بنقاط نفوذها. وبينما تظل روسيا تلعب دور الحامي لمناطق إدلب وريف حلب، يبدو أنَّ الوضع الحالي يشير إلى أنَّ إيران هي التي ستبدأ الصراع في هذه المرحلة.
عند التأمل في المشهد من وجهة نظر أنقرة، نرى أنَّ طلبات إعادة فتح قنوات الحوار مع النظام السوري لقت استجابة إيجابية من الرأي العام التركي، وكذلك من دولتي الإمارات والسعودية، حيث تسعى تركيا إلى بناء علاقات وطيدة وودية مع هذه الدول.
لقد عبّرت أنقرة عن استعدادها للدخول في حوار مع دمشق على أعلى المستويات، ومع ذلك لا تزال الخطوط الحمراء لتركيا، التي تتضمن وجود حزب العمال الكردي على حدودها وقضية اللاجئين موضوعة على الطاولة. وقد أكدت السلطات التركية أنَّ مطلب الأسد لبدء الحوار، الذي يتطلب “انسحاب تركيا من سوريا بشكل غير مشروط وفوري”، يشكل تجاوزًا للخطوط التركية الحمراء وأنَّه غير ممكن.
في الوقت الحالي، تعطي تركيا الأولوية للقضايا المتعلقة بحزب العمال الكردي ومسألة اللاجئين، حيث لا تسمح بأي تسلل أو دخول غير رسمي عبر حدودها، ومع ذلك يبدو أنَّ شعور تركيا بالأمان في هذا الصدد يعتمد على نجاحها في الحد من تأثير حزب العمال الكردي تمامًا في المنطقة وضمان وقف إطلاق النار الذي يمنع النظام من ترويع المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا.
إنَّ تعيين هاكان فيدان أحد مهندسي سياسة تركيا تجاه سوريا في منصب وزير الخارجية في هذه المرحلة، يعكس أيضًا التوجه نحو دبلوماسية تركية أكثر نشاطًا وأقل تنازلًا من وجهة نظر نظام الأسد.
تبقى الخطوط الحمراء الثابتة لتركيا، إلى جانب موقف روسيا الذي يستهدف الحفاظ على الوضع القائم في سوريا نتيجة للصراع في أوكرانيا، فيما ستواصل تركيا سياستها لتقويض حزب العمال الكردي في المنطقة مع التركيز في الوقت نفسه على الحفاظ على خط إدلب-عفرين-جرابلس-باب-تل أبيض، على الأقل حتى انتهاء انتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2024.