مقالات

حرب غزة وإعادة النمذجة المعرفية والواقعية

أثَّر طوفان الأقصى في الكثير من إحداثيات الواقع العسكرية والسياسية والاقتصادية وربما الجغرافية، وسوف يُسطر بكل تأكيد كأحد أهم المنعطفات التاريخية في مسار القضية الفلسطينية والمنطقة. لكني سأحاول هنا المساس بما يمكن أن نسميه “إعادة النمذجة” من الناحية الاجتماعية والإنسانية، وهذا المصطلح تحديدًا كثيرًا ما يُستخدم بالمعنى الهندسي، وهي: “عملية تحسين بناء قديم أو حديث تنطوي على تغيير كبير في جزء من البناء أو البناء بأكمله. وتختلف إعادة النمذجة عن كل الترميم، والتجديد، سواءً من حيث التكلفة أم القيمة المُضافة أم التأثير على البيئة.

إذ تتميز إعادة النمذجة بأعلى تكلفة لجميع الخيارات الثلاثة وهي تتطلب موادًا ووقتًا أكثر لإكمالها. كما تميل هذه العمليّة إلى أن تكون أكثر تعقيدًا بكثير من الترميم أو التجديد، حيث إنَّها تتضمن إجراء تغييرات على بنيّة المبنى من حيث توسيع المساحة، إزالة أو إضافة أو تغيير في الجدران، رفع الأسقف، إضافة تمديدات”.

وأحاول هنا استحضار أحداث وتحركات شعبية وتطورات في الوعي الجمعي للشعوب عامة سواءً العربية أم الغربية بل وحتى في داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وكذلك تغير مواقع الأفراد والكيانات السياسية ونحوها. أعنى تلك التي تمثل “تحولًا” هيكليًّا في الوعي، الذي ربما يكتسب صفة الديمومة ليكون قابلًا للبناء عليه في المستقبل.

تآكل السردية الوجودية كركيزة لوجود الكيان:

لقد كان نموذج الدولة الإسرائيلية أو الصهيونية من وجهة نظر جميع الدول الغربية تقريبًا، وكثير من الدول حول العالم إلا قليلًا؛ أنَّها دولة قامت على أساس عرقي -غربي- وأساس ديني يهودي في أرض الميعاد التي اختارها الرب، وترعى الديمقراطية الغربية من الناحية القيمية، ولما لم يكن لها رصيد أخلاقي فكان مناسبًا أن تحل محله المظلومية والاضطهاد والمحرقة، كما حُرّمت أي دعايات مناهضة لها قانونيًّا، أو مشككة في محرقتها ومظلوميتها. وكانت لهذه الأسباب مجتمعة؛ عصية على المساءلة أو النقد مهما فعلت، ومهما أراقت من دماء وانتهكت من قيم وأعراف وقوانين.

واليوم لا نبالغ إذا قلنا إنَّ هذه القضية قد أعيدت هيكلتها بشكل كامل وجذري، إذ صار التضامن الشعبي العالمي جارفًا، بين جموع لم تكن تبالي في أحسن أحوالها بما يحدث للشعب العربي الفلسطيني، بل وأيدت حكوماتها على الدوام في دعم الكيان سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، بل صارت التظاهرات العارمة تندلع في كل المدن والعواصم الغربية، منادية بحرية فلسطين، ومنددة بالتطهير العرقي في حق شعبه، ومطالبة بحقه في الحياة، بل في إقامة دولة فلسطينية، ومعاقبة دولة الكيان.

صار العربي الفلسطيني مناضلًا بطلًا يرقص العالم كله رقصته الدامية عند أعتاب الموت من أجل أرضه؛ بينما صارت قوات الاحتلال قاتلة مجرمة مغتصبة.

وبعدما كانت منيعة على المحاسبة؛ صارت دولة الاحتلال ماثلة أمام محكمة العدل الدولية، وصار قادتها خائفين من وضع أسمائهم على لوائح الاتهام ليكونوا ولأول مرة من المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، بعدما كان بعض قادتهم السابقين من الحائزين على جائزة نوبل للسلام، رغم المذابح التي اشتهروا بها تاريخيًّا!

وخطورة هذا الانقلاب الجذري في معايير القضية وتكييفها عالميًّا؛ أنَّه يمثل تطويرًا هيكليًّا كاملًا وإعادة نمذجة حقيقية لها، من الناحية الهيكلية بل والتأطيرية، من جهة “مفهوم الحق” نفسه، بما يأتي على سردية قيام دولة الكيان واستحقاقه بشكل شامل قانونيًّا وسياسيًّا، والأهم من ذلك في وعي الشعوب، حيث صارت تلك الدولة محتلة مغتصبة وصار أصحاب الحق أنموذج الأحرار والمناضلين.

أنموذج جديد للصراع يفرضه الطوفان

لقد أدى طوفان الأقصى إلى إعادة نمذجة طبيعة الصراع بين حركة مقاومة وجيش محتل نظامي مدعوم عالميًّا، فنموذج القاعدة مثلًا بدأ بإعلان الجبهة العالمية لقتال اليهود والنصارى، ثُمَّ أتبع ذلك مباشرة بالهجوم على عدة أهداف أمريكية وغربية؛ ووصل ذروته بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وكذلك دولة العراق الإسلامية التي بدأت بمهاجمة أكثر قوى المقاومة السنية غير المنضوية تحتها، والطائفة الشيعية بجميع أفرادها وقياداتها وعرقياتها، وانتهت بقتال تحالف عالمي يضم عشرات الدول، وهكذا.

بينما قدمت قوى المقاومة الإسلامية في غزة درسًا في الخداع الاستراتيجي طويل الأمد، في ظروف غاية في الصعوبة والتربص، لتقوم بضربة شاملة عاتية، أذهلت الصديق قبل العدو، فيما يتخطى حروب العصابات، إلى ما يشبه الجيوش النظامية الغازية، التي تقتحم الحدود برًا وبحرًا وجوًا؛ بما يزيد عن ثلاثة آلاف مقاتل فتضرب وتدمر وتقتل وتأسر، وتعود بأقل خسائر ممكنة إلى حالة الحرب الخداعية وملحمة الأنفاق مرة أخرى، وهذه مرحلة لها ما بعدها خاصة مع القدرة الأسطورية للمقاومة على الثبات والمناورة والرد والردع، لمدة طويلة جدًّا إذا تذكرنا أنَّها عادت مرة أخرى لتتكيف كقتال شوارع وحرب عصابات.

والمعضلة التي نتجت عن هذه الهيكلة الجديدة للصراع لدى الجانب الإسرائيلي؛ هي أنَّه راهن من البداية على إطلاق أسراه بالإخضاع التام للمقاومة، وطبيعة الإخضاع تبادلية، وهو ما يعني هزيمة ساحقة له في حال اضطر هو لإطلاقهم بالتفاوض في نهاية الأمر وفي مقابل إيقاف الحرب، ولن تجبر هذه الهزيمة آثار الدمار وأعداد الشهداء مهما كثرت!

إعادة تشكيل وعي الشباب العربي

لقد صنعت المقاومة في غزة درسًا يعيد تشكيل نموذج الشاب العصري في ذهنية الشباب المسلم بشكل جذري، فلم يعد هو من يرتدي أحدث برندات الموضة الغربية، لترسخ في أذهان كثير من الشباب ذلك النموذج البسيط الذي يمثل البطولة ولو بنعل شعبي وبنطال رياضي زهيد الثمن.

نعم هناك حالة من الخمود الظاهري تسود المنطقة العربية وخاصة في مصر، لكن المتابع لا يشك أنَّ هناك تغيرات تحصل في طبقة الشباب خاصة وعلى اختلاف مستوياتها وتوجهاتها، ولعل الحالة الآنية أقرب للكمون منها للخمود، وسبب هذه الحالة هو حالة الجمود السياسي بسبب القمع الذي جعل من خصوم السلطة خلال عقد من الزمان عبرة لمن يعتبر، وخاصة في قطاع الطلبة، كما أنَّ صعوبة الأوضاع المعيشية تخيم على الجماهير وتوهن حركتها، وتشغلها بقوت يومها، لكن ذلك لا يعني أنَّها قد لا تصل إلى نقطة حرجة مؤثرة.

فهناك دعوات لعلها الأقوى من نوعها في العالم العربي للمقاطعة الاقتصادية للكيان وداعميه كافة، وتمثل مصر ثقلًا كبيرًا في هذه الدعوات للحجم السكاني الهائل، ومحاولة تعويض العجز عن الدعم والنصرة لأهل غزة، بالإضافة إلى التبرع بكل ما يمكن ومن كافة الفئات حتى محدودة الدخل منها.

 بل طالت دعوات المقاطعة هذه المرة بعض الأشخاص كالفنانين، وبعض النوادي الأوسع شهرة وتشجيعًا في مصر وغيرها كالنادي الأهلي لكون أبرز الرعاة الرسميين له من تلك الشركات الداعمة للكيان الإسرائيلي، وكأن الجموع أفاقت فجأة من الغيبوبة وتعافت من أفيون الشعوب الكروي وحانت ساعة اليقظة!

تململ واضطراب في الشارع الأمريكي وأوساط الطلبة

تغير الوعي في المجتمع الأمريكي وتظاهرات الجامعات هناك مثل جامعة كولومبيا وعشرات الجامعات الأمريكية، بما يفوق الاحتجاجات الطلابية في الستينيات رفضًا لحرب فيتنام ولاحقا للمطالبة بمقاطعة جنوب إفريقيا وإنهاء الفصل العنصري، وهو ما يعد تطورًا بارزًا ومؤثرًا في أحد أهم روافد الحزب الديمقراطي وهو العنصر الطلابي الأكثر ليبرالية في المجتمع الأمريكي.

كذلك برزت خسارة اللوبي الصهيوني واضطراره للتراجع أمام تقدم المرشحة التقدمية المناصرة للقضية الفلسطينية “سمر لي” في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية بولاية بنسلفانيا للفوز بمقعد في الكونجرس، حيث حصلت على حوالي 27 ألف صوت عن المنطقة 12 في ولاية بنسلفانيا، أي من نسبته 55% من الأصوات مع تعداد 57% من الأصوات، في حين حصلت منافستها المدعومة من اللوبي الصهيوني، بهافيني باتيل، على 43% فقط من الأصوات. وذلك بعد أن ضخ اللوبي الصهيوني 100 مليون دولار لإسقاط عدد من المرشحين بأمريكا من بينهم سمر لي.

هذا بالإضافة لتوسع الاحتجاجات في العديد من المدن الأمريكية، مما قد ينعكس على نتائج الانتخابات الرئاسية القريبة، وسحب التأييد من كل من الرئيس الحالي بايدن والمرشح المقابل ترامب، وعلى أي حال فما يجري بمجموعه سيكون له صدى كبير في السنوات القادمة في أروقة السياسة الأمريكية.

هل أجهض الغرب قيمه ومبادئه؟

لقد تسببت مذابح غزة والتطهير العرقي والإبادة الجماعية فيها؛ في سقوط الكثير من الأصنام مثل “الحريات” في الغرب، و”حقوق” الإنسان عمومًا والنساء خصوصًا، ولا أتحدث هنا عن نساء وأطفال فلسطين والتهجير والتطهير العرقي بحقهم؛ وإنما أتحدث عما يشاهده العالم أجمع من سلوكيات قمعية شمولية ضد كل من يرفض هذه الفظائع دولًا أو أفرادًا، بل وشاهد الملايين نساء أمريكا وفتياتها وشبابها طلابًا وأساتذة؛ وهم يلقون على وجوههم وتقيد أيديهم ويعاملون كالمجرمين، بل لفقت لهم الاتهامات العلنية بدعم حماس ومعاداة السامية ونشر الكراهية، والأطرف من ذلك، تداولت بعض القنوات الإعلامية تهمة تلقي الدعم المادي من حماس لإثارة الاضطرابات!

وكان لافتًا صراخ إحدى الأساتذة في صدمة أثناء اعتقالها وهي توضح للشرطة ما تظن أنَّهم لا يعرفونه وهو أنَّها: “بروفيسور” وهم مستمرون في تكبيل يديها خلف ظهرها بينما هي ملقاة على وجهها!

حقًّا إنَّ العالم يتغير وقد آن للأوثان أن تسقط وتنكشف عوراتها، وصارت الأنظمة الغربية تتعامل مع مواطنيها بعقليتها ومبادئها الحقيقية؛ ليصبح المواطن الغربي فجأة وأيًا كان شأنه في لحظة واحدة كأنه مواطن عربي أو أحد مواطني دول العالم الثالث لمجرد أنَّه انتبه ولو مرة لقضية عادلة وإنسانية مظلومة.

خالد سعيد

سياسي مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى