استراتيجيدراسات

الخداع الاستراتيجي: كيف تسقط الدفاعات والخطوط الحمراء

في أوائل سبعينيات القرن الماضي كثف البريطانيون حملاتهم الأمنية والعسكرية في مواجهة الجيش الجمهوري في أيرلندا الشمالية، وكان من ضمن أساليب المواجهة المستخدمة عمليات الخداع التكتيكي التي استهدفت تحقيق منجز استراتيجي، حيث هدفت القيادة البريطانية إلى تعميق الانقسام داخل بنية التنظيم عبر ضرب الثقة بين القيادة القديمة للجيش الجمهوري الأيرلندي والفئة الأصغر سنًّا من القادة.

تحت مسمى “خداع الاختلاس” أدارت وحدة بريطانية تدعى “القوة المتنقلة للاستطلاع” عملية خداع اعتمدت على الدعاية والمعلومات المضللة لضرب بنية التنظيم الداخلية. بدأت “خداع الاختلاس” عندما تواصل العميل البريطاني المزدوج لويس هاموند مع صحفيين من صحيفة “صنداي تايمز” مدعيًا أنَّه عميل للجيش الجمهوري الأيرلندي قد تسلل إلى القوة المتنقلة للاستطلاع بناء على أوامر قيادة الجيش الجمهوري، وقدم هاموند للصحفيين معلومات عن هيكلة ومهام القوة المتنقلة للاستطلاع كما قدم وثيقة مزورة زعم أنَّها مذكرة داخلية كتبها أحد قادة الجيش الجمهوري.

الوثيقة التي حوت ادعاء باختلاس سبعة من قادة التنظيم 150,000 جنيه إسترليني من أموال التنظيم، كانت طلقة البداية لعملية خداع الاختلاس فقد أفرز “تسريب” الوثيقة سلسلة من المقالات في جريدة “الصنداي تايمز” ساهمت في تأسيس حالة من الشك والريبة داخل تنظيم الجيش الجمهوري وتعكير صفاء الثقة مع بيئته الحاضنة.

سلسلة المقالات التي كانت أشبه بالقصف التمهيدي، مثلت المستوى الأول من إجراءات الخداع، حيث شملت العملية مستويات أخرى تضمنت تضليلًا معلوماتيًّا عبر قنوات متنوعة، فكلما قام الجيش الجمهوري بالسطو على المصارف البريطانية، أصدرت بريطانيا إعلانًا رسميًّا يدعي أنَّ المبلغ المسروق كان أكثر من الخسارة الفعلية، كما تضمنت تضليلًا معلوماتيًّا على نطاق أضيق استهدف قيادات التنظيم الذين تم تزويدهم بمعلومات مغلوطة عن طريق عملاء مزدوجين ضمن أدوات وطرق أخرى.

يعطي المثال المطروح سابقًا لمحة عن البُعد الأمني والمستوى التكتيكي لمفهوم الخداع والذي يمكن تعريفه على أنَّه “المعلومات التي تُبث عبر بيان أو فعل لدفع الآخرين لقبول تصور مزيف للواقع بهدف التأثير على سلوكهم”، وهو تعريف المؤرخ العسكري والضابط السابق بوحدة استخبارات الحرب النفسية بالجيش الأمريكي “بارتون وايلي”.

التعريف السابق للخداع يضع المفهوم في قالب إجراءات التزوير والتضليل وهو المعنى اللغوي للمرادف الإنجليزي Deception، بينما تشير تصورات أخرى -تتبنى المعنى العملي والفني- إلى تضمنه لممارسات أشمل تنطوي على توظيف الحقائق ضمن أدوات أخرى لنسج واقع أو صورة محددة، حيث يقوم الخداع -كما يعرفه بعض خبراء علوم الأمن- على أربعة مبادئ أساسية وهي: الحقيقة، التعمية، التمويه، والتضليل، وتعتمد المبادئ الثلاثة الأولى على عرض معلومات حقيقية بشكل معين يحول دون تكوين الخصم لتصورات دقيقة، في حين يخدم المبدأ الأخير (التضليل) هدف توجيه الخصم إلى بديل أكثر جاذبية.

فمثلًا تضخيم حقيقة معينة والترويج لها بشكل مكثف يساهم في إسقاط حقائق أخرى من الاعتبار ما يعزز صورة خاطئة للواقع، وهو ما يلخصه كبير محللي CIA الأسبق 1970-1984 ومؤلف مجموعة كتب في علوم الأمن والاستخبارات روبر م. كلارك حيث يجادل بأنَّ “كل أنواع الخداع تعمل في إطار ما هو حقيقي، فالحقائق تضع اللبنة الأولى للتصورات والمعتقدات؛ ثم تُوظف تلك الحقائق لخداع الخصم”[1].

لغرض النقاش الذي سنطرحه في هذه الورقة فإنَّنا سنعتمد التعريف الثاني كمفهوم أكثر شمولية، حيث يمكن أن يشمل أساليب موازية مثل العمليات النفسية والتعمية والتمويه، وهي أساليب لا تقتصر على التضليل والتزوير وتستهدف التأثير على إدراك الآخرين والتلاعب بسلوكهم. ويمكن توضيح هذه الأساليب بعرض جزء من خطاب كبير المحللين في الاستخبارات البريطانية لضباط وجنود سرب 656 لطائرات الأباتشي قبيل انطلاق حملة الناتو على ليبيا “فجر الأوديسا”:

“هدفكم الأشمل في هذه المهمة هو “التأثير الإدراكي” على النظام، نحن لن نفوز بالحرب بمجموعة طائرات أباتشي، لكن هذه الطائرات تملك سمعة وهيبة قوية، أنتم مهابون في العالم، وستذهبون إلى ليبيا من حين إلى آخر لتعزيز سمعتكم عند الجمهور المستهدف في طرابلس. هذا هو موضع التأثير المطلوب بالضبط، التأثير على عقل النظام، الناتو بقيادة لندن وباريس يهدف من خلال إدخال المروحيات في العملية إلى زيادة الضغط على النظام[2].”

يعقب قائد السرب 656 “ويل ليدلاو” على النص السابق بقوله: “إضافة المروحيات للحملة كان لغرض الضغط النفسي -المعروف عسكريًّا بالتأثير الإدراكي- على قوات النظام، تمامًا كما كان الغرض من نشر صور الأباتشي وهي تطلق الصواريخ في عرض البحر بداية الشهر”. ويعكس هذا المثال شمولية مفهوم الخداع واتساع تطبيقاته، ففاعلية مروحيات الأباتشي في الحملة التي شنها الناتو على ليبيا كانت محدودة جدًّا على الصعيد العملياتي، وهو ما يؤكده العميد جون كينجويل قائد قوة المهام البحرية الملكية البريطانية بأنَّ الهدف الرئيسي لمهام الأباتشي كان “نفسيًّا، وليس حركيًّا”[3]، حيث كان استخدام الأسطول البحري البريطاني للقذائف شديدة الانفجار والضوئية الدقيقة يستهدف إحداث تأثير معنوي على قوات النظام.

إنَّ الخداع بمفهومه الشامل هو عملية نسج واقع لدى شخص أو مجموعة محددة من الأشخاص بهدف التأثير على سلوكهم بطريقة محددة جدًّا، وهو ممارسة مستخدمة في العديد من السياقات والمستويات، بدءًا من الأعمال العسكرية المباشرة وصولًا إلى العمل السياسي والدبلوماسي، كما يمكن أن يأخذ شكلًا تكتيكيًّا أو استراتيجيًّا. إنَّ هذه الطبيعة المتعدية تجعل منه ممارسة جوهرية وضرورية في المستويات المختلفة للصراع، فحضوره أساسي في حالة الحروب الباردة أو المفتوحة، والمواجهات ذات الطبيعة الأمنية، أو حتى النزاعات السياسية وهو ما لخصه المفكر العسكري الصيني “صن تزو” بقوله “كل الحروب تعتمد على الخداع”، فطالما كان هناك شكل من أشكال المواجهة يصبح حضور الخداع أساسيًّا.

الدبلوماسية: نوع مختلف من الخداع

في الأمثلة السابقة كانت قنوات الخداع عسكرية، مخابراتية، وإعلامية، وذلك لارتباطها بشكل مباشر بالعمل الحربي ومجال المواجهة المباشرة مع العدو، لكن ممارسة الخداع خصوصًا في السياق الاستراتيجي كثيرًا ما تتطلب إقحام الدبلوماسية والاتصال السياسي كقنوات لبث الرسائل ونسج الوهم، ويشير التعريف الساخر للدبلوماسي الإنجليزي “هنري ووتن” للسفير أو الدبلوماسي باعتباره “رجل صادق يرسل للخارج ليمارس الكذب لصالح دولته” إلى تأصل المفهوم والممارسة في العلاقات الدولية والتفكير الغربي.

تتميز طبيعة العمل الدبلوماسي بحساسية عالية تجاه التصريحات والمعلومات المتناقلة، وذلك لأنَّ أسس العلاقة في المجال السياسي وحقل العلاقات الدبلوماسية لا تقوم على الخداع وإنما على “المصداقية والثقة”، ما يجعل من ممارسة الخداع مهمة خطيرة وحرجة لما لها من تداعيات مباشرة على سمعة الدولة وعلاقتها الخارجية ليس بالطرف الممارس عليه الخداع فقط وإنما مع الأطراف الدولية الأخرى، وهو ما يحد من نطاق تطبيق المفهوم في هذا المجال ويميز طريقة تنفيذه عن المجالات الأخرى التي تتسم بسرية أكبر، كما يضفي عليه طبيعة نوعية إذ غالبًا لا يُمارس الخداع إلا في سياق استراتيجي أو في بيئات ذات طبيعة عدائية.

ممارسة الخداع في النطاق الدبلوماسي لا تقتضي تنفيذه بشكل واعي ومباشر، فأحيانًا يكون الدبلوماسي نفسه هدفًا ضمنيًّا في عملية الخداع، بل وأحيانًا يخفى عنه حتى الاتجاه والهدف الاستراتيجي، في المقابل فإنَّ هناك حالات ممارسة واعية للخداع في هذا المجال -المكشوف- لكنها عادة تأتي في شكل غير مباشر وقابل للتنصل، ويتميز النوع الأول بإضفاء نوع من “المصداقية” ما يستبعد عنصر الأخطاء والانفعالات البشرية من المعادلة.

في المستوى الدبلوماسي تبرز عدة نماذج تاريخية في حقبة الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، ربما أبرزها النشاط الدبلوماسي الياباني الذي سبق هجوم بيرل هاربر الشهير، حيث استمر الدبلوماسيون اليابانيون حتى أواخر عام 1941 في التفاوض والتعاطي بشكل إيجابي رغم استعدادات الجيش الياباني لشن هجوم على القوات الأمريكية في بيرل هاربور. أوحى نمط الاتصال الدبلوماسي الياباني بأنَّ طوكيو لم تتخذ بعد قرار خوض الحرب ضد الولايات المتحدة بعد، وهو ما دفع القيادة السياسية لعدم التعاطي مع المعلومات حول التحضيرات العسكرية اليابانية بشكل جدي، حيث تلقى الرئيس الأمريكي قبل ثلاثة أيام من الهجوم الياباني على بيرل هاربور في السابع من ديسمبر 1941 تحذيرًا من الاستخبارات البحرية مفاده أنَّ الشبكة العسكرية والتجسسية في طوكيو تركز على هاواي.[4]

مؤخرًا قدمت المفاوضات بين حزب الله ودولة الاحتلال التي توسطتها الولايات المتحدة عبر مبعوثها الخاص “آموس هوكشتاين” نموذجًا فريدًا عن دور المستوى الدبلوماسي في إدارة عمليات الخداع، حيث لعبت المفاوضات في هذه الحالة دورًا محوريًّا في رسم صورة موازية للحقائق والمؤشرات العسكرية والميدانية وتقليل حساسية الهدف (حزب الله) تجاه المخاطر والتهديدات التي تواجهه، وقد مكنت هذه الحالة الاحتلال من كسر “الخطوط الحمراء” والإخلال “بقواعد الاشتباك” (استهداف الضاحية، تصفية القيادات التاريخية والصف الأول، قصف المدنيين) دون أن يستدعي ذلك الرد المناسب من الحزب. في هذه الحالة لم تكن العوائق أمام الحزب لمواكبة حالة التصعيد عوائق مادية بقدر ما كانت ذهنية، فقيادته التي بادرت بالهجوم في الثامن من أكتوبر 2023 بذهن وقراءة نشطة ودقيقة، دخلت حالة من التبلد تجاه المؤشرات قادتها لمراكمة استنتاجات خاطئة لتجد نفسها في وضع معنوي واستراتيجي متخلف عن الواقع، وقد مثَّل استهداف الأمين العام للحزب “حسن نصر الله” تتويجًا للأفضلية الإدراكية والتخطيطية لتل أبيب.

المستوى الاستراتيجي

مع تطور أدوات الصراع وتقنياته اكتسب مفهوم الخداع أهمية أكبر في حقل العلاقات الدولية، حيث أتاحت المعرفة والأدوات والتقنيات المعاصرة قدرات أكبر على دراسة الخصوم ومتابعة تحركاتهم، وبالتالي قدرة أكبر على تقويض سياساتهم والحد من فاعليتها، ما يتطلب تعزيز قدرات المناورة والتضليل على المستوى الاستراتيجي. وفي المقابل فإنَّ هذا التطور المعرفي والتقني فتح قنوات وأساليب جديدة لممارسة الخداع على نطاق واسع وعبر مستويات مختلفة ما يضفي عليه صبغة استراتيجية ويجعل من عملية نسج التصورات وتشكيل الانطباعات عملية أكثر قابلية للإدارة والتنفيذ.

إنَّ السمات الأساسية للبيئة الدولية المعاصرة: الاشتباك والتعقيد ومركزية القوة، فرضت على القوى والأطراف المختلفة (دول، ميليشيات، جماعات سياسية، مكونات دون الدولة) المنخرطة في الصراعات الجيوسياسية -خصوصًا الأطراف الأقل قوة- تطوير أساليب المواجهة والتي يأتي الخداع الاستراتيجي على رأسها، حيث يساهم هذا المستوى من الخداع في صناعة بيئة يمتلك فيها الطرف المخادع الأفضلية للعمل والحركة. إنَّ الخداع الاستراتيجي لا يرتبط بأحداث معينة أو بأهداف مرحلية للتأثير على سلوك الخصم في قضية محددة، وإنما يرتبط ببناء انطباعات أشمل تستهدف تحوير وعي الخصم وتقليص قدرته على الفهم.

تستهدف عمليات الخداع في العموم تحقيق منجزين رئيسيين:

1-التوجيه، وذلك عبر هندسة عمليات الخداع لنسج “واقع” يدفع الخصم لأخذ إجراءات محددة تخدم أهدافك النهائية.

2-الإرباك، وذلك عبر تشويش الخصم والحد من قدرته على الفهم والوصول إلى المعلومة، وتقويض القدرة على الفعل بالمحصلة.

يمكن أن نعتبر النمط الأول نمطًا هجوميًّا؛ فهو يقوم على مبدأ “محاصرة” إدراك الخصم ويستهدف تشكيل وعيه وتصوراته، ويتسم هذا النمط بالتعقيد العالي لما يحتاجه من إدارة دقيقة لنوع وكم المعلومات والرسائل ومتابعة مستمرة لأثرها على سلوك الطرف المستهدف وتعديل مستمر للأساليب المستخدمة للحفاظ على مسار العملية من الانحراف، في حين يعتبر النمط الثاني نمطًا دفاعيًّا يقوم على الحد من قدرة الخصم على فهم تحركاتك وأهدافك ويعد أقل تعقيدًا من النمط الأول لأنَّه لا يستهدف توجيه الخصم وإنما الدفاع ضده.

تستهدف عمليات الخداع الاستراتيجي في معظم حالاتها تحقيق المنجز الأول، حيث نبحث فيها عن بناء تدريجي لحالة إدراك ووعي مشوه يحدث ارتباكًا استراتيجيًّا، وهي عملية معقدة تتضاءل فيها نسب النجاح، فهذا النوع من الخداع يتطلب أناة وانضباط عالي في التنفيذ، كما يتطلب متابعة مستمرة لانطباعات الخصم واستنتاجاته وتطوير عملية الخداع بشكل مستمر لتواكب هذه الاستنتاجات لضمان بقاء الخصم ضمن إطار الصورة التي تنسجها.

يعطي هذا المستوى من الخداع أفضلية في الإدراك وتفوقًا نوعيًّا في التخطيط للمواجهة، كما يتميز بقدرته على إدخال الخصم في صراع مع الذات، حيث يصعب التخلص من الانطباعات والتصورات الخاطئة المتشكلة على مدار فترات مطولة حتى مع توفر المعلومات الصحيحة، وتعتبر هذه الأفضلية العنصر الأهم في المواجهة لما لها من أثر مدمر على منطق الخصم وقدرته على الحركة والاستجابة للتهديدات وصنع السياسات. توصف هذه الحالة “بالتصاق التضليل Stickiness of Deceit” وتشير دراسة صادرة عن جمعية العلوم النفسية الدولية[5] حول مدى صعوبة التخلص من المعلومات المضللة، إلى أنَّ التخلص من هذا النوع من التصورات يتطلب جهدًا مضاعفًا؛ لأنَّ عكس مسار الوعي ينافي الطبيعة الإنسانية التي تميل للدفاع عن قناعات تكبدت العناء في بنائها.

وتتضمن عمليات الخداع الاستراتيجي ثلاثة مبادئ ضرورية:

1-تنفيذها على عدة مستويات عبر حملات منظمة، أي أنَّها لا تتسم بالطابع الاستراتيجي حتى يكون لها أكثر من بُعد تنفيذي (سياسي، أمني، دبلوماسي، إعلامي، أكاديمي)، وهو ما يتطلب تناغم الإجراءات والرسائل أو ما يعرف بالتماسك الاستراتيجي حتى ترسم لوحة موحدة.

2-مراقبة مستمرة لردود الفعل وتطور الانطباعات ومدى نجاح العملية، وإجراء التعديلات على الخطط والأساليب لضمان عدم الإخلال بالصورة المنسوجة وبقاء الهدف ضمن إطار هذه الصورة.

3-فهم دقيق لمعتقدات العدو وثقافته وأهدافه وبيئته الاستراتيجية، حيث يجب أن ينسجم منطق الخداع مع تصورات الهدف وميوله الطبيعية.

رغم أنَّ البعد التنفيذي أساسي في عمليات الخداع الاستراتيجي، فإنَّ المفهوم يرتبط جوهريًّا بالبعد المعنوي، حيث ينبع مفهوم الخداع من القدرة على الفهم ثم تشكيل الأفهام، وبالتالي فهو يتأسس على الإمكانات الذهنية والقدرة على التخطيط قبل أن ينزل لمرحلة الإجراءات التنفيذية.

نموذج الطوفان: فن كتابة القصة

في عام 2017 وبعد عقد من توليها زمام السلطة في قطاع غزة أعلنت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” عن وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي أعادت فيها تقديم نفسها لمحيطها الإقليمي والدولي. جاءت الوثيقة التي تبنت لهجة سياسة مرنة في ظل تحولات كبيرة في المشهد الإقليمي والدولي، فقد سبقتها موجة الثورات المضادة وصعود ترامب رئيسًا للولايات المتحدة وما ترتب على ذلك من محاصرة أصدقاء الحركة وحلفائها الإقليميين، فمن إعادة العقوبات على طهران وانتهاج الإدارة الأمريكية لسياسة الضغوط القصوى مرورًا بحصار قوى الثورة المضادة وممالك الخليج لدولة قطر وتصنيف حركة حماس كمنظمة إرهابية ومطالبة الدوحة بقطع العلاقات معها، وصولًا إلى تتويج كل ذلك بموجة التطبيع الثالثة واتفاق أبراهام وعزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي، شكلت كل هذه الظروف بيئة ملغمة بالفخاخ والمخاطر الاستراتيجية للحركة المحاصرة في غزة.

في ظل هذه الظروف وفي 13 فبراير 2017 تحديدًا انتُخب الأسير المحرر وأحد مؤسسي كتائب القسام “يحيى السنوار” رئيسًا للمكتب السياسي للحركة في قطاع غزة لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الحركة، وقد عنونت صحيفة “إسرائيل اليوم” ذلك اليوم في صفحتها الرئيسية “القائد الجديد لغزة: انتصار المتطرفين” في حين نشرت “يديعوت أحرونوت” مقالًا بعنوان “لقد فك زناد الأمان، والبندقية جاهزة لإطلاق النار”.


بين وثيقة المبادئ الجديدة التي تجاوزت ذكر انتماء الحركة لجماعة الإخوان المسلمين ونصت على قبولها بحل الدولتين وفق حدود 1967 في تبن واضح لمواقف أكثر براغماتية، وبين صعود السنوار المعروف بخلفيته الأمنية وصلابته وتاريخه التفاوضي، تأسست حالة من الضبابية والشك حول مستقبل اتجاه الحركة وسياساتها، وقد مثلت تلك البيئة ظرفًا مثاليًّا للسنوار لتمهيد الطريق لعملية طوفان الأقصى.

حرص السنوار منذ صعوده على إرسال رسائل مختلطة، سعى من خلالها لحلحلة المواقف المتصلبة من الحركة فقد ورث بيئة إقليمية ودولية متحفزة لاجتثاث الحركة الإسلامية. بمراجعة تصريحات السنوار ومقابلاته ومواقفه خلال الفترة الممتدة بين 2017-2023 يظهر لنا مراوحة واضحة بين خطاب التهدئة والتصعيد، ففي سياق خطاب وإجراءات التهدئة أكد السنوار بشكل متكرر على مبدأ “المقاومة السلمية” التي تجسدت في مسيرات العودة، كما نحى خطابه منحىً تنمويًّا وإنسانيًّا تحدث فيه عن أهمية التهدئة وضرورة توفير حياة كريمة لأهل غزة وضرورة تطوير بنيتها التحتية، وخلال مفاوضات التهدئة التي جرت في 2018 أرسل أبو إبراهيم رسالة خطية بالعبرية لنتنياهو يحثه فيها على “عمل مغامرة محسوبة”، والتي علق عليها مئير بن شبات، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية بقوله ” في مداولات التسوية التي أدارتها إسرائيل مع حماس، في أكتوبر 2018، تلقيت وثيقة خاصة، كتبها يحيى السنوار بالعبرية، كانت هذه إحدى اللحظات الجميلة في المسيرة، نحن نتلقى رسالة مباشرة من السنوار، كتبها بنفسه بخط يده، وبأحرف كبيرة بالعبرية، تحوي نصيحة: خذ مخاطر محسوبة .. إنَّ الردع الإسرائيلي فعل شيئًا ما، وها هو الطرف المقابل يتوجه إلينا ويناشدنا بأخذ مخاطرة”.

على صعيد موازٍ أعلن السنوار عن استعداده “لتقديم كل التنازلات من أجل تحقيق المصالحة الوطنية”[6] فقاد مسار مصالحة وحوار مع حركة “فتح” لإنهاء حالة الانقسام الداخلي، وتمكن السنوار بعد عدة لقاءات استضافتها العاصمة المصرية القاهرة من عقد تفاهمات مع تيار الإصلاح الديمقراطي بقيادة محمد دحلان، وقاد أبو إبراهيم جهود ترميم العلاقة مع النظام المصري بعد التوتر والقطيعة اللذين أعقبا انقلاب يوليو في 2013، كما قاد مسارًا دقيقًا وازن فيه بين إصلاح العلاقة مع طهران وبين الحفاظ على مسافة من حالة الاشتباك القائمة بين حلفاء واشنطن في المنطقة وعلى رأسهم النظام السعودي وبين النظام الإيراني.

شكلت هذه المواقف والإجراءات الهيكل العام والمستوى الأول لعملية الخداع التي قادها السنوار لأكثر من خمس سنوات، لكن استراتيجية المراوحة بين خطاب التصعيد والتهدئة كانت عمود الخطة الأساسي، فالتجهيز لعملية بهذا الحجم يتطلب استعدادات لوجستية وعسكرية كبيرة من غير الممكن الحفاظ على سريتها في ظل التفوق التقني والجوي للعدو وفي جغرافيا محاصرة بحجم قطاع غزة، وهي معضلة عالجها السنوار بالحرص على إخفاء طبيعة التحضيرات وغايتها وليس إخفاء التجهيزات نفسها، بتعبير آخر كانت الاستراتيجية صناعة رواية موازية مقنعة وتوفير غطاء لهذه التحضيرات وهو الدور الذي لعبه الحفاظ على خطاب التصعيد والمواجهة.

في السرد السابق تظهر معضلة أخرى في عملية تمرير الخداع، فكيف تضمن في ظل التقاط العدو لإشارات متباينة ابتلاعه للطعم (روايتك للأحداث)، وهو ما حرص السنوار على معالجته عبر بناء تجانس بين مستويات الخداع المختلفة، فقد تضمنت العملية توظيف الخطاب السياسي، الاتصال الدبلوماسي، الإجراءات الأمنية والعسكرية، الحملات الدعائية، والتقنية الحديثة وغيرها من القنوات لرسم صورة متجانسة للعدو، فإلى جانب السياسات العامة لعبت الاتصالات الداخلية على مستوى الحركة ومع الحلفاء دورًا مهمًا في تأكيد الرسالة الأساسية “الجنوح للسلم والانحناء للعاصفة” وهي عملية معقدة تستدعي ممارسة تضليل فعلي على عناصر الحركة نفسها والشركاء المحليين والخارجيين، وقد تعرضت الحركة خلال تلك المدة لحملة انتقادات حادة من الأوساط الإسلامية ومحور المقاومة وحلفائها بلغت حد التخوين وعقد المقارنات مع حركة فتح وتاريخ تحولاتها التي أدت لتحييدها كحركة مقاومة.

بالإضافة لما سبق فإنَّ الإجراءات على المستوى العسكري والتي كان الامتناع عن المشاركة في عدد من جولات المواجهة مع الاحتلال أبرز ملامحها، لعبت دورًا محوريًّا في تشكيل الانطباع العام عن اتجاه الحركة “الجديد”، حيث مثَّل امتناع حماس من دخول عدة جولات تصعيد خاضتها حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس والتي كان آخرها في مايو 2023 أي قبل انطلاق عملية الطوفان ببضعة أشهر علامة فارقة في قراءة العدو لدوافع الحركة ونواياها الحقيقية، فقد مثَّل هذا النمط تخليًّا عن مفهوم استراتيجي حرصت عليه الحركة كوسيلة دفاع أمام مساعي عزل المقاومة والقضية الفلسطينية.

لقد أسس السنوار بهذا النمط لانطباع بأنَّ خطاب المواجهة والتصعيد الذي تبناه والمواجهات المحدودة التي خاضتها الحركة خلال هذه المدة، كانت دوافعها تكتيكية ضمن إطار عملية “المراجعة” الجارية لموقف الحركة الاستراتيجي، وأنَّ أي تصعيد خطابي أو حركي فأقصى غايته تحسين خيارات التفاوض والحفاظ على التماسك الداخلي والسمعة بعيدًا عن أي تصورات أو استعدادات استراتيجية للمواجهة، لقد كان الانطباع العام أنَّه “لا يعني ما يقول”.

أطر هذا الانطباع قراءة قيادة الاحتلال لكل التحركات والاستعدادات المرصودة وهو ما قاد القيادة الأمنية والسياسية لتجاهل معلومات ومؤشرات حول التحضيرات لعملية طوفان الأقصى؛ حيث أصدرت شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” والاستخبارات الداخلية “الشاباك” عدة تحذيرات لنتنياهو بين مارس ويوليو 2023 حول احتمال اقتراب تصعيد كبير[7]، كما تم تجاهل تحذيرات قدمتها المخابرات المصرية للاحتلال قبل الهجوم بأيام[8]، وقد أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بيانًا حول هذه المزاعم قال فيه :لقد تشاركنا في تقييم المعلومات الواردة مع جميع الأجهزة الأمنية بأنَّ حماس ليست مهتمة فعلًا بالتصعيد وأنَّها مهتمة بالتوصل إلى حل مع إسرائيل بشكل ثابت، وقد ذهبت تقديرات الأجهزة إلى حد الادعاء بأنَّ حماس قد تم ردعها”.[9]

كانت هذه هي الرواية التي نجح السنوار في تمريرها لاحتواء زخم التحفز الإقليمي والدولي ضد الحركة وإطفاء حلقة النار من حولها وتوفير غطاء لدعم البنية التحتية العسكرية للمقاومة، لكنها لم تكن لتمر دون فهم عميق لثقافة العدو وطرق تفكيره ومنهجيات تقييمه، وهي معركة أثبت السنوار بعد قضاء 23 عامًا في سجون الاحتلال تفوقه النوعي فيها، كما لعبت تركيبة شخصية السنوار ورصيده النضالي والأخلاقي دورًا محوريًّا في نجاح العملية، فالرجل الذي أسس جهاز مكافحة العملاء “مجد” في ثمانينيات القرن الماضي وحظي باحترام القيادات الأمنية والعسكرية وتولى قيادة الهيئة القيادية العليا لأسرى الحركة، ثم لعب لدى خروجه دور حلقة الوصل بين الجناح السياسي والعسكري، وامتلك رصيدًا كبيرًا من الخبرة في التفاوض مع الاحتلال ودراسته، كل هذه المقومات أهلته للتخطيط الاستراتيجي وساهمت في تماسك أيدولوجيا التنظيم وقيمه المركزية وعلاقاته الخارجية مع حلفائه وإيمان عناصره وحاضنته وداعميه بأهلية قيادته ونزاهتها.

ليس من المبالغة القول بإنَّ نموذج طوفان الأقصى سيدوَّن كأحد أنجح وأبرز الأمثلة التاريخية في فن الخداع الاستراتيجي، ليس لتحقيق قيادة العملية شروط ومبادئ الخداع بشكل كامل ودقيق فقط، وإنما للظروف التي نشأت ونفذت فيها العملية، فهذه عملية ولدت في ظروف حصار محكم -بأبعاده الجغرافية، الأمنية، السياسية والأيدولوجية- وفارق ضخم في ميزان القوى والإمكانات والموارد فضلًا عن الحالة الجيوسياسية العامة التي اتسمت بسطوة قوى التطبيع والثورة المضادة أمام تراجع الحالة الثورية والإسلامية، وهي ظروف تمكنت الحركة بقيادة السنوار من امتصاص صدمتها والتكيف معها دون الإخلال بالقيم المركزية والأهداف الاستراتيجية.

خاتمة

توضح الأمثلة التاريخية وحالات الدراسة السابقة، من التجربة البريطانية مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، مرورًا بالتضليل الدبلوماسي الياباني قبل عملية بيرل هاربر، وصولًا إلى المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية التي مهدت لإسقاط “الخطوط الحمراء”، وانتهاء بنموذج “طوفان الأقصى”، توضح كل هذه النماذج أنَّ الخداع الاستراتيجي أداة قادرة على تجاوز استعصاءات الواقع وحواجز فوارق القوة وأنَّه غالبًا ما تعقبه تحولات كبيرة في البيئة المحيطة.

ويكشف نموذج “طوفان الأقصى” تحديدًا عن ثلاث استنتاجات رئيسية:

الأول: أهمية الخداع الاستراتيجي خاصة في بيئات الاستضعاف (حصار جغرافي وأمني، اختلال ضخم في ميزان القوة، وبيئة إقليمية ودولية معادية).

الثاني: قابلية إدارة عمليات بهذا التعقيد في ظل كل تلك العقبات الكبرى، حيث استطاعت قيادة الحركة استثمار كل الأدوات المتاحة، من بيانات وخطابات سياسية واتصالات دبلوماسية ومقاربات تفاوضية، لإيجاد حالة إدراكية لدى العدو تتيح الإعداد والتحضير لعملية استراتيجية معقدة تحت غطاء من التصورات المضللة.

الثالث: ضخامة المنجزات، فعملية واحدة ناجحة قد تقلب معادلات استراتيجية وتسقط خطوطًا حمراء طالما اعتبرت عصية على الاختراق.

في المحصلة، يبرهن الخداع الاستراتيجي على أنَّ الصراع مهما كان شكله ليس مجرد استعراض للقوة المادية، بل أيضًا ميدان لتنازع الإرادات والعقول، ومتى نجح الجانب المخادع في تضليل وعي خصمه وصناعة إدراك مغلوط للواقع، فإنَّه يفتح بذلك الطريق نحو تحقيق تفوق استراتيجي قد يكون حاسمًا في الصراع ونتائجه.


[1] Deception: counter deception and counterintelligence, William L. Mitchell, Robert Clark

[2] Apache over Libya, Will Laidlaw.

[3] Short War, Long Shadow: The Political and Military Legacies of the 2011 Libya Campaign, Royal United Services Institute (RUSI), Mar 16, 2012.

[4] December 1941: 31 Days that Changed America and Saved the World, CRAIG SHIRLEY

[5] Misinformation: Psychological Science Shows Why It Sticks, Association for Psychological Science

[6] السنوار: حماس ستواصل تقديم التنازلات من أجل إنجاز المصالحة، وكالة الأناضول، سبتمبر 2017

[7] I give you a warning of war,’ Shin Bet head told PM 10 weeks before Oct. 7, The Times of Israel

[8] Egypt warned Israel of Hamas attack days earlier, senior US politician says, The Guardian

[9] IDF says Netanyahu was warned 4 times in 2023 about how enemies saw internal discord, The Times of Israel

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى