تقديراتسياسي

قسد المستقبل المجهول

من خلف السواتر، وقبالة المكاتب السياسية، تلوح “قسد” كمثال معقّد على الكيانات المعلّقة بين الثورة والدولة، بين الاستقلال المشتهى والاندماج المتردَّد. فمنذ سقوط النظام السابق وقيام الحكومة السورية الجديدة، دخلت “قسد” في مدار تفاوضي متذبذب، لا يشبه حربًا ولا سلامًا؛ فلا هي انسحبت حقًّا من شرق الفرات، ولا سلّمت نفسها لقدر الدولة الواحدة، ولا تمكّنت من الحفاظ على طوباوية “الإدارة الذاتية” في واقع إقليمي لا يعترف بالخيال.

لكن ما الذي يُبقي هذا الكيان على قيد التوازن؟ وما حقيقة المفاوضات التي جرت؟ ومن يقف وراء تباطؤ التفاهمات أو انفراطها؟ وهل يتجه هذا الكيان إلى انخراط منضبط في بنية الدولة، أم إلى انفصال ناعم، أم إلى صدام دموي يعيد إشعال شرق البلاد من جديد؟

من “الشيخ مقصود” إلى “سد تشرين”… هل كانت البداية واعدة؟

في الأيام الأولى لتشكيل الحكومة السورية الجديدة، لم يكن أشد المتفائلين يتوقّع أن تشهد العلاقة بين “قسد” والدولة المركزية تقاربًا بهذا القدر من السرعة. فبعد أعوام من العداء، بدأت أبواب الحوار تُفتح، وجلس الطرفان إلى طاولة واحدة. كانت الرسائل متبادلة: حكومةٌ تبحث عن إعادة بسط السيادة، و”قسد” التي تخشى العزلة بعد اضطراب الحماية الأمريكية، فتميل إلى التفاوض كيلا تُفاجأ بالتحوّلات.

هل كانت تلك مجرّد مراوغة؟ أم بداية لتحوّل حقيقي؟

في بداية يناير، سُجّل الحدث الفارق: انسحاب “قسد” من حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، وتسليم المهام الأمنية لقوات الدولة الجديدة، دون اشتباك ولا قصف. بدا الأمر وكأنه نصر رمزي للحكومة، ورسالة إلى الداخل والخارج بأنَّ مرحلة “تقاسم الجغرافيا” قد انتهت. ثم تبع ذلك اتفاق ميداني على الانسحاب من سد تشرين، الموقع الاستراتيجي الذي تحتفظ به “قسد” كخط دفاع متقدّم.

لكن، هل كانت تلك الانسحابات إعلانًا لاندماج وشيك؟ أم مجرد اختبار لحُسن النيات؟

في العمق، ظلت “قسد” حذرة. لم تُسلم كل شيء، ولم تنسحب من الرقة، ولا من الحسكة، ولا حتى من الطبقة. ظلّت تحتفظ بالبنية الأمنية والعسكرية في مناطقها، بينما أطلقت حملة إعلامية تؤكد أنَّها “لا تمانع الاندماج، لكن بشروط تحفظ هويتها ونضالها”. هنا بدأت الأسئلة تتكاثر: من يعرقل التفاهم؟ وماذا تخبئ الجبهات الهادئة؟ وهل يمكن أن تقوم وحدة بلا توحيد فعلي للسلاح والسلطة؟

مخاوف الهامش… من يخشى الدولة؟ ومن يُخيفها؟

ليست “قسد” كيانًا موحدًا كما توهم البيانات الرسمية. خلف الستار، تنقسم بنية هذا الفصيل إلى أطياف شتى: جناح عسكري يأتمر بأيديولوجيا حزب العمال الكردستاني، وإدارة مدنية تدّعي التمثيل الديموقراطي، ومجموعات عشائرية تقاتل من أجل النفوذ المحلي، وقواعد شعبية متأرجحة بين الإحباط والرغبة في الانفكاك. فهل يمكن لمثل هذا الكيان أن يتخذ قرارًا مصيريًّا واحدًا؟!

في الشهور الأخيرة، ارتفعت أصوات داخل “قسد” تحذّر من العودة إلى حضن الدولة المركزية. أُطلقت تصريحات تتحدث عن “خطر تعريب المنطقة”، وعن “فرض هوية دينية” على مجتمع تعددي، وعن “تهميش التاريخ الكردي في سوريا الجديدة”. ولا يعلم هل هذه مخاوف حقيقية أم مجرّد وسيلة ضغط تفاوضي.

في المقابل، لم تكن الحكومة السورية الجديدة بلا هواجس. كانت تعلم أنَّ ضمّ “قسد” بتركيبتها الراهنة دون تفكيك مرجعياتها العقائدية والعسكرية، يعني زرع كيان موازٍ داخل الدولة. فكيف يمكن بناء جيش وطني بينما يحتفظ بعض أفراده بالولاء لحزب أجنبي؟ وكيف تُبنى إدارة موحدة في ظل خطاب محلي لا يعترف بسيادة المركز؟

وسط هذه الحسابات، تفجّرت التوترات. توقفت عمليات تبادل الأسرى في حلب. ورفضت “قسد” إطلاق سراح عناصر من الجيش الوطني. وانتشرت الحواجز الأمنية التابعة لها مجددًا في الرقة والحسكة. بل وظهرت إشارات لانشقاقات داخلية، منها انشقاق “علي الحمدان” مسؤول العلاقات العسكرية في قسد، ما فضح هشاشة التماسك الداخلي.

وفي قلب هذا المناخ، خرجت تصريحات إعلامية من “إلهام أحمد” القائدة في قسد تؤكد أنَّ “أمن سوريا يحتاج إلى تدخل إسرائيلي”، وترفض أي اندماج غير مشروط. هنا انكشفت بوضوح حقيقة المخاوف: ليست “قسد” وحدها من تخشى الدولة، بل الدولة أيضًا تخشى أن تستوعب كيانًا لا تنطبق عليه شروط السيادة.

ما الذي ينتظر قسد؟ بين الانفكاك، الاندماج، والانفجار

في ظل انكفاء الحماية الأمريكية، وتقلّب الموقف الأوروبي، وازدياد الضغوط التركية، تبدو “قسد” اليوم أمام مفترق ثلاثي: إما الانفكاك التدريجي عن الحالة العسكرية والانخراط في الدولة، وإما الانفصال الواقعي بدعم غير معلن من الخارج، أو الانفجار المفاجئ إذا ما انهارت التفاهمات أو استُدرجت الأطراف إلى صدام.

لكن أي طريق هو الأقرب؟

الاندماج الكامل يبدو أقرب إلى الطموح منه إلى الواقع. فالتجربة أظهرت أنَّ “قسد” لا تزال تنظر إلى نفسها كندٍّ لا كتابع، وتخشى أن تنتهي كما انتهت فصائل أخرى سُلّحت، ثم استُنزفت ثم أُقصيت. كما أنَّ القوى الداخلية فيها لا تزال غير موحدة، ما يجعل أي اتفاق هشًّا قبل أن يُولد.

أما خيار الانفصال، فيبدو مستبعدًا رسميًّا، لكنه قائم فعليًّا على الأرض. إذ تحتفظ “قسد” بسيطرتها الأمنية والإدارية في أغلب مناطق شرق الفرات، وتفرض ضرائب، وتدير مدارس، وتمنع دخول القوات النظامية إليها دون تنسيق. وبدعم استخباراتي أمريكي أو إسرائيلي، قد تتمكن من الحفاظ على هذا الوضع لسنوات، لكن بثمن باهظ: عزلة دبلوماسية، ورفض داخلي، وانفجار محتوم.

ويبقى الخيار الأخطر: الانفجار. يكفي تحوّل صغير في واشنطن أو أنقرة أو دمشق، حتى تنهار خيوط التهدئة. وقد تُستدرج “قسد” إلى معركة شاملة تدفعها إلى الانسحاب القسري، أو إلى التوغل في وهم السيطرة الذاتية، فتفقد ما تبقّى من غطاء شرعي أو دعم شعبي. فهل تدرك “قسد” أنَّ الوقت لا يعمل لصالحها؟ وهل تتدارك الحكومة السورية أنَّ الفرصة المتاحة اليوم قد لا تعود؟

خاتمة

ليست “قسد” دولة، ولا ثورة، ولا ذراعًا دولية كاملة السيادة. إنَّها كيان ولد من الفراغ، وتمدّد في ظل تناقض القوى، وعاش على حواف الخريطة السياسية والعسكرية. واليوم، وقد بدأت الخريطة تُعاد رسمها بخطوط أوضح، تجد “قسد” نفسها أمام لحظة الحقيقة.

فهل تنزل عن الشجرة وتخوض اختبار الدولة بشجاعة، فتفكك ما يلزم تفكيكه، وتبني ما يمكن بناؤه؟ أم تختار العزلة خلف رايات عابرة، وتكتب بيدها مشهد الانفصال والانفجار أم تظل تُماطل في منتصف الطريق، إلى أن يقرر الآخرون مصيرها دون أن يكون لها صوت أو سلاح أو ظل؟

في السياسة كما في التاريخ، لا تنتظر الأرض من لا يقرر. وقسد اليوم، إما أن تصير جزءًا من سوريا، أو تتحوّل إلى جزر منسية على هامش الخريطة.

أسامة عيسى

باحث في الدراسات العسكرية والشأن السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى