تقديرات

بين الصبر الاستراتيجي واحتمالات الحرب الكبرى

في سياق الضربة الموجعة التي تلقتها طهران في نهاية يوليو الماضي عبر اغتيال إسرائيل لحليف إيران وضيفها قائد المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية” في مقر إقامته بمقر ضيافة تابع للحرس الثوري، توعد المرشد الأعلى علي خامنئي برد حازم على دولة الاحتلال، إذ صرح على حسابه الرسمي على منصة إكس “لقد اغتال الكيان الصهيوني المجرم والإرهابي ضيفنا العزيز في بيتنا، وأحزننا ذلك، لكن هذا الكيان أعد لنفسه أيضًا عقابًا شديدًا”.

من جهته قال الرئيس الإيراني المنصب حديثًا “مسعود بزشكيان” إنَّ بلاده ستدافع عن سيادتها وشرفها وستجعل الغزاة الإرهابيين يندمون على أعمالهم الجبانة. أما الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” فقد أعلن دخول المنطقة إلى مرحلة جديدة تتجاوز مرحلة الإسناد إلى الحرب الكبرى، وذلك خلال خطاب له أثناء تشييع جنازة الرجل الثاني بالحزب “فؤاد شكر” بعد استهدافه من قبل الطائرات الإسرائيلية في معقل الحزب بالضاحية الجنوبية لبيروت.

دلالات التصعيد

تمثل ضربة الاحتلال في بيروت تطورًا كبيرًا على مستوى الهدف وموقع التنفيذ، ففؤاد شكر الذي يعد القائد العسكري الأعلى والعقل الكامن وراء استراتيجية المواجهات الدائرة مع الاحتلال، هو أحد مؤسسي الحزب الأوائل والمسؤول عن برنامج الصواريخ الدقيقة ومستشار نصر الله الأول، وقد تم استهدافه بالقرب من مقر مجلس شورى الحزب في الضاحية، ويعد هذا الاستهداف الثاني لمعقل الحزب خلال ستة أشهر في إشارة إلى تجاوز قوات الاحتلال “تابوهات” المعركة.

وفي حين أنَّ استهداف شخصية عسكرية مثل شكر يُفهم في سياق تصاعد وتيرة المواجهات القائمة بين حزب الله وجيش الاحتلال منذ أكتوبر الماضي -خاصة بعد حادثة مقتل 12 درزيًّا بقرية مجدل الشمس بالجولان المحتل- وضمن إطار التكتيكات الإسرائيلية باستهداف القيادات الأمنية والعسكرية للحزب للحد من كفاءته العملياتية وإلحاق الضرر ببنيته التحتية البشرية، إلا أنَّ اغتيال هنية على الأراضي الإيرانية مثّل تحولًا نوعيًّا في أسلوب المواجهة، إذ انتهكت إسرائيل بذلك محظورات عدة على المستوى الجيوسياسي والقانوني، وتجاوزت توقعات أعدائها باستهدافها للشخصية السياسية الأولى في الحركة التي تخوض تل أبيب معها مفاوضات الأسرى، وذلك أثناء زيارة رسمية لحضور محفل سياسي مختص بتنصيب الرئيس الإيراني الجديد.

على المستوى الإعلامي تركت إسرائيل المجال مفتوحًا للتخمينات حول الضربة فلم يتبن أي مسؤول أمني أو سياسي العملية، وعند السؤال عن استهداف هنية علق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاجاري “أريد أن أؤكد أنَّه لم تكن هناك أي ضربة جوية، لا صاروخ ولا طائرة دون طيار إسرائيلية، في الشرق الأوسط بأكمله تلك الليلة، ولن أعلق أكثر من ذلك”، وهو تعليق لا يتضمن نفيًا وفيه إشارة إلى أنَّ العملية تمت من على الأرض -كما أفادت بيانات الحرس الثوري-، وعلى المستوى العسكري صرح هاجاري أنَّ الجيش في حالة تأهب قصوى على المستويين الدفاعي والهجومي وأنَّهم مستعدون للتعامل مع كل السناريوهات المحتملة، مما يشي بأنَّ القيادة الإسرائيلية تتوقع رد فعل عنيف على ضرباتها المهينة.

تسعى إسرائيل عبر هذه الاغتيالات النوعية إلى تحويل نجاحاتها التكتيكية إلى منجز استراتيجي تعيد من خلاله صورتها إلى ما كانت عليه حتى السادس من أكتوبر الماضي، وهي تحاول عبر توسيع نطاق عملياتها رفع الحالة المعنوية وتقديم نفسها في صورة الطرف الممسك بزمام معادلة التصعيد والقادر على ضبط إيقاع المعركة.

تكشف التكتيكات الإسرائيلية عن سعي حثيث ومتسارع لدفع حالة الاشتباك المحدود إلى الحرب الشاملة التي تعتقد تل أبيب أنَّها ستنقذها من معضلتها الاستراتيجية، فبعد عشرة شهور من المواجهات وبعد مئات الاغتيالات وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى تجد تل أبيب نفسها بلا منجزات كبرى، فعلى مستوى المعطيات الميدانية لا يزال عدوها الأول ينفذ كمائن معقدة وعمليات يومية، ويقصف أراضي المستوطنات، وينفذ عمليات تفخيخ وطعن في الضفة، كما لا تزال تل أبيب محاطة بجبهات مشتعلة وأعداء صاروا اليوم أقدر وأكثر جرأة على تهديد أمنها وضرب عمقها، وهي تواجه مشكلة تراجع مخزونها الحربي واستنزاف مقدراتها العسكرية فضلًا عن حالة الإنهاك الاقتصادي والانقسام المجتمعي والسياسي المتفاقم وعزلتها الدولية.

أما على المستوى الاستراتيجي فهي تواجه أزمة انهيار صورة استغرقت عقود لبنائها، وباتت فرص نجاح مشروع اندماجها الكامل في المنطقة أضعف من أي وقت مضى، كما أنَّها صارت تمثل بقيادتها المتطرفة عبئًا سياسيًّا وأمنيًّا على الولايات المتحدة التي تبحث عن تخفيف التزاماتها الأمنية في المنطقة والاتكاء على الدبلوماسية كأداة لاحتواء الخصوم والتهديدات، وهو اتجاه تنزلق واشنطن بعيدًا عنه مع مرور كل يوم حرب.

الوقت في صف من؟

في حين تبدو إسرائيل متعجلة لإشعال حرب كبرى وجر الولايات المتحدة لنزاع مفتوح مع محور المقاومة، تحاول طهران بكل ما استطاعت تفادي أو تأخير هذا النوع من المواجهات، فقراءة الاحتلال تنطلق من ضرورة إجراء تغير جذري في المعطى الجيوسياسي وأنَّ الظروف لا يمكن أن تعود لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، لأنَّ ذلك يعني أنَّها ستواجه تبعات انتهاك أمنها وانهيار صورتها في ظل استمرار وجود المهددات الأساسية وهو ضغط ربما لن يحتمله مشروع الدولة اليهودية. في المقابل تنطلق طهران من تقديرات بأنَّ دخول هذه المواجهة سيقوض استراتيجية الاستنزاف والإشغال عبر جبهاتها المتقدمة، وسيعيد مشروعها الاستراتيجي المتمثل في التحول إلى قوة إقليمية نووية سنوات إلى الوراء، وبالتالي فهي تبحث عن إطالة أمد المعركة والاعتماد على الظروف الجيوسياسية الجديدة لخنق دولة الاحتلال. 

إنَّ طول أمد المعركة وتطور فهم تشكيلات محور المقاومة لدفاعات تل أبيب وقدراتها الحربية وتطوير قدرتها على اختراقها ومواجهتها، يشكل تهديدًا من نوع آخر لدولة الاحتلال، فهذا الانكشاف الأمني يعني أنَّ إسرائيل صارت عارية أمام الجميع (الشركاء والأعداء)، ولم يعد بإمكانها الاعتماد على البروباجاندا كسلاح استراتيجي، فضلًا عن تطور فهم أعدائها لإمكانيتها وحدود قدراتها والتكتيكات الأنجع لمواجهتها وإيلامها، على مستوى آخر فإنَّ استمرار ضرب العمق الإسرائيلي سيجعل مشهد الصواريخ والمسيرات المتساقطة على عسقلان وحيفا وتل أبيب وغيرها من الأراضي المحتلة مشهدًا طبيعيًّا تعتاده المنطقة وأعداء إسرائيل، ما يقوض مساعي القيادة الإسرائيلية لفرض معادلة ردع جديدة ويضعها وسط واقع جديد تبدو فيه فرص استمرار وجودها أكثر ضآلة.

من زاوية أخرى فإنَّ استمرار المعركة بنسق التصعيد الحالي، حيث تشن إسرائيل ضربات موجعة ومهينة على كل من حزب الله وإيران مع اكتفاء هذه الأطراف بردود رمزية تلتزم بقواعد اشتباك ضربت بها تل أبيب عرض الحائط يفتح المجال للتطبيع مع هذه الظروف ما قد يؤسس لمعادلة ردع جديدة تمتلك فيها تل أبيب اليد العليا، كما أنَّ الضربات التي تختبر بها تل أبيب صبر طهران الاستراتيجي قد تكون مقدمة لتفكيك محور المقاومة الذي قد تبدأ أطرافه بالتفكير والرد بشكل منعزل عن بعضها مع تصاعد وطأة وخطورة الضربات الإسرائيلية وضعف الاستجابة الإيرانية، والمرجح أنَّ هذا كان أحد أهداف اغتيال هنية في طهران، فالرسالة هي أنَّ طهران غير قادرة على حماية ضيوفها وحلفائها، ويحمل توقيت الضربة رسالة أخرى مفادها أنَّه حتى في أكثر المناسبات تحوطًا وتشددًا في الإجراءات الأمنية -حيث تزور وفود دولية طهران لحضور حفل تنصيب الرئيس الجديد- تملك إسرائيل القدرة على الوصول لأهدافها ومن على الأرض.

السؤال المطروح اليوم هو عن مدى قدرة مبدأ “الصبر الاستراتيجي” على تحمل الضغوط الحالية، فإلى أي نقطة تستطيع طهران مواصلة الموازنة بين استراتيجيتها هذه وبين الحفاظ على هيبتها ومكانتها الاقليمية وتماسك تحالفاتها وجبهاتها المتقدمة، وهي للمفارقة أهداف ومنجزات تسعى طهران للحفاظ عليها عبر هذه الاستراتيجية.

طبول الحرب

ليست إيران وحدها من ترغب في تفادي خيار الحرب الشاملة، فالولايات المتحدة لديها حسابات استراتيجية معقدة وتسعى إلى احتواء ارتدادات المعركة في نطاق العمليات والمواجهات الجارية في غزة، لكن سلوك الحليف الإسرائيلي لم يضع في الاعتبار المصالح أو الرغبات الأمريكية، واستغل بنيامين نتنياهو الصراعات الحزبية الداخلية ونفوذ اللوبي الصهيوني ومجموعة إيباك لتمرير أجندته وعرقلة أي محاولات لتقييد الدعم المقدم لجيش الاحتلال أو فرض أي مسار سياسي عليه.

وبينما تدعو واشنطن حاليًّا على المستوى السياسي إلى إيقاف التصعيد وتبعث عبر وسطائها برسائل تهدئة كمحاولة لضبط المشهد وتكرار ما نجحت فيه نسبيًّا في أبريل الماضي، إلا أنَّ قواتها المتمركزة في المنطقة تحضر نفسها لسيناريو الحرب، حيث كشفت وزارة الدفاع الأمريكية عن توجيه وزير الدفاع “أوستن لويد” لقواته بإجراء تعديلات على الموقف العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بهدف رفع جاهزيتها وتعزيز دعمها لإسرائيل، كما وجه لويد بإضافة سرب طائرات مقاتلة F-22 تابع للقيادة المركزية “سينتكوم” لتعزيز الدفاعات الجوية. ويتمركز حاليًّا بالمنطقة كل من مجموعة سفن الهجوم البرمائية “واسب” الموجودة شرق المتوسط في محيط جزيرة كريت، ومجموعة حاملة الطيران “يو إس إس ثيودور روزفلت” التي ستحل محلها مجموعة “أبراهام لينكون في خليج عمان قبالة مضيق هرمز، وهي تمركزات غير استثنائية تأتي ضمن الوجود الأمريكي المجدول في المنطقة.

تشير تحركات واشنطن بالإضافة إلى تحركات حلفائها في المنطقة إلى وجود مخاوف حقيقية من تحضير إيران لرد مؤثر يتناسب مع ضربة تل أبيب، فالتواصلات الكثيفة بين وزراء خارجية كل من الأردن ومصر مع نظيرهم الإيراني والتصريحات السعودية بأنَّهم لن يسمحوا باستخدام مجالهم الجوي من قبل أي من الطرفين.

على الجهة الأخرى تنحو التحركات الإيرانية هذه المرة أكثر من منحى، فالحراك السياسي والدبلوماسي بدعوة دول منظمة التعاون الإسلامي لعقد قمة طارئة في جدة، ودعوة القائم بأعمال وزير الخارجية علي باقري للسفراء وممثلي الدول الأجنبية المقيمين في إيران إلى اجتماع، واستقبال أمين مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو في طهران لمناقشة الأمن الإقليمي، وتصريحات الرئيس الإيراني بزشكيان عن العلاقة الاستراتيجية بروسيا وضرورة تفعيل الاتفاقيات معها بشكل عاجل، كلها دلالات على التمهيد الإيراني لرد قد يشعل فتيل الحرب.

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى