اعتمدت روسيا بوتن في تأسيسها لحضورها الخارجي على مبدأ استغلال الفرص والتحولات الجيوسياسية، وقد قدَّم تهاوي النظام السوري أمام زخم الثورة في 2015 فرصة تاريخية لروسيا التي طالما تطلعت للوصول إلى المياه الدافئة والتمركز على ضفاف البحر المتوسط. ومثَّلت سوريا ساحة مثالية للحضور العسكري الروسي، فالنظام المنهار واليائس كان مستعدًا لمنح موسكو كل الامتيازات المطلوبة لتأسيس وجود استراتيجي ومستدام على سواحله الغربية، كما أنَّ البيئة الدولية المتخوفة من مد الثورات وتبعات صعود الإسلاميين مثّلت ظرفًا استثنائيًّا تسامح مع وجود روسيا في موقع جغرافي ذي حساسية عالية.
مثّل التدخل الروسي في سوريا خروجًا عن “المألوف”، فالتحديات التي فرضتها الجغرافيا والظروف الجيوسياسية والاقتصادية على القيادة الروسية تاريخيًّا قيدت مقاربتها للسياسة الخارجية ونطاق نفوذها وانتشارها ما وراء الحدود، فقد انشغلت القيادات الروسية تاريخيًّا بتأمين حدودها وصناعة محيط وعمق أوروبي وآسيوي آمن وموالٍ لها وفشلت في محاولات تجاوز مجالها الحيوي والجغرافي الطبيعي إلى نطاقات جيوسياسية أوسع.
إنَّ الطموح الروسي التاريخي في الوصول للبحر المتوسط، وطموح بوتين الشخصي لإعادة موسكو كقوة فاعلة على المسرح الدولي يكشف عن مكانة التمركز الروسي على الساحل السوري في اللاذقية وطرطوس في العقل السياسي الروسي والاستراتيجية الروسية الكبرى، وبالتالي فإنَّ التطورات الأخيرة التي بدأت بإطلاق إدارة العمليات العسكرية بقيادة أبي محمد الجولاني “أحمد الشرع” عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر وانتهت بانهيار كامل للنظام السوري وفرار رئيسه “بشار الأسد” إلى موسكو في 8 ديسمبر 2024، مثَّلت ضربة للطموح الاستراتيجي لموسكو وخيبة أمل كبرى لقيادته، ويستدعي هذا التحول النوعي أسئلة حول تأثيره على نفوذ روسيا وحضورها في مناطق وملفات أخرى، وتأثيره الأعم على الاستراتيجية الروسية والخيارات المطروحة أمام الكرملين لاحتواء ارتدادات هذا التحول.
منطق التدخل
كما أراد بوتن، فإنَّ تمركز قواته في سوريا منحه وصولًا للعديد من الملفات المحورية في السياسة الدولية، فمن قضايا أمن وإمدادات الطاقة، مرورًا بقضايا الهجرة غير النظامية والنزاعات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط (الخليج، إيران، إسرائيل)، وصولًا لاتساع البصمة العسكرية عبر مناطق مختلفة والتأثير على ملف قوى التمرد ومجموعات ما دون الدولة. إنَّ وصول موسكو إلى هذه الملفات فضلًا عن تزايد قدرتها على التأثير عليها منذ 2015 مثَّل الخطوة الأولى في طموح بوتين بصناعة بيئة دولية متعددة الأقطاب وإفساح المجال للفرص الاقتصادية والسياسية التي سيحملها وجود موسكو وسط هذه الملفات.
تؤكد موسكو في المفهوم الاستراتيجي للسياسة الخارجية الروسية المعتمد في عام 2023 على سعيها “لخلق ظروف خارجية تعزز مكانة روسيا كمركز مؤثر في العالم الحديث”، كما تؤكد الرؤية الروسية على مبدأ مشتق من العقيدة العسكرية للجيش لعام 2010 وهو “الدفاع عن روسيا خارج أراضيها”، وقد شكَّل هذا المنطق الاستراتيجي المقاربة الروسية للانتشار العسكري في الخارج؛ حيث استخدمت موسكو تواجدها في سوريا وحربها على القوى الثورية كمنصة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وترسيخ دورها كلاعب رئيسي على المسرح الدولي.
لقد كان منطق التدخل الروسي في سوريا متجاوزًا للأزمة السورية والعلاقات مع النظام، وقد انعكس هذا على شكل الوجود العسكري الذي تركز على الساحل السوري وتعامل مع الثورة الشعبية بمنطق مكافحة الإرهاب واستخدم سياسات وحشية في قمعها، فتركيز موسكو لم يكن على بناء النظام ودعمه في إدارة المشهد السوري، وبالتالي لم تلقِ بالًا لنتائج توظيفها المفرط للقوة التدميرية على “الدولة” ومرحلة ما بعد قمع الثورة، فقد كان الغرض الحفاظ على سلطة سياسية موالية تشرع وجودها العسكري.
ومع انطلاق الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير 2022 دخلت موسكو معركتها الأهم في تصور بوتين لإعادة تشكيل البيئة الدولية وصناعة واقع جديد، إلا أنَّ تباطؤ زخم الهجوم الروسي واستمرار تعثر القوات الروسية في إحراز أهداف الغزو الاستراتيجية وضع القيادة الروسية أمام معضلة، حيث تحولت أوكرانيا إلى جبهة استنزاف أثرت في قدرة روسيا على تحقيق الأهداف الاستراتيجية لسياستها الخارجية.
تبعات السقوط
الورطة الأوكرانية استحوذت على قدر كبير من تركيز موسكو وإمكاناتها، ومع إطلاق إدارة العمليات العسكرية عملية ردع العدوان وجدت روسيا نفسها في مواجهة واقع صادم -ساهمت في صناعته-، حيث انهار الغطاء السياسي لوجودها العسكري في ظرف 11 يومًا فقط. وقبل أن تصل قوات إدارة العمليات العسكرية إلى مناطق الساحل بدأت موسكو بالتواصل مع قيادتها والقيادة التركية للتفاوض حول أمان قواتها وقواعدها.
تظهر صور وتقارير المصادر المفتوحة بدء روسيا منذ اليوم السادس للعمليات العسكرية في نقل معداتها وآلياتها العسكرية من ميناء طرطوس البحري وقاعدة حميميم الجوية إلى مواقع مختلفة كانت ليبيا أبرزها. وقد برزت ليبيا كوجهة أولية للقيادة الروسية لأسباب متعددة؛ فالموقع الجغرافي جنوب المتوسط يسهل لوجستيات النقل والحركة، فضلًا عن وجود أرضية تمثَّلت في اتساع حضورها العسكري في البلاد -والدول الملاصقة- عبر عدد من المنشآت العسكرية والمواقع الاستراتيجية ما يتيح لها بنية تحتية أولية تحتضن جزء من قواتها وآلياتها.
مثّلت ليبيا في المقاربة الخارجية الروسية رديفًا مهمًا لأهداف التمركز الروسي في سوريا، حيث عملت كمنصة لتوسيع نطاق الانتشار والوصول الروسي في إفريقيا ومنطقة الساحل، وعملت قاعدة حميميم كمركز ترانزيت للطائرات المحملة بالمعدات والمقاتلين المتجهة إلى ليبيا. وقد أدى انتشار مجموعات الفيلق الإفريقي (فاغنر سابقًا) عبر مراكز استراتيجية في البلاد مثل قاعدة الجفرة الجوية بالمنطقة الوسطى وفي محيط المنشآت النفطية في الجنوب الغربي في ظل غياب أي تحدٍ أمني إلى فتح المجال أمام موسكو لتوسيع نطاق تأثيرها عبر الحدود إلى منطقة الساحل وإلى إحداث تكامل مع تمركزاتها الأخرى في إفريقيا، كما منحها تأثيرًا في ملف الهجرة غير النظامية وقدرة على جني المكاسب الاقتصادية عبر عقود الاستكشاف والاستخراج للثروات الطبيعية، وتوطيد علاقتها بالأطراف الفاعلة في المنطقة التي صارت قوات الفيلق الإفريقي على مرمى حجر منها.
إنَّ هزيمة حليف موسكو في سوريا سينعكس بشكل مباشر على قدرتها على الانتشار في الخارج وتأسيس وجود عسكري مستدام بعيدًا عن مناطق نفوذها التاريخية ومجالها الحيوي، كما سينعكس على علاقاتها ومصالحها مع القوى الإقليمية والدولية التي ستنظر لموسكو كطرف خاسر وغارق في حرب استنزاف على حدوده.
إنَّ تضرر المصالح المادية والملموسة ليس هو آخر أضرار موسكو فالضرر على مستوى السمعة أكبر، إذ يشكل فشل موسكو في حماية وتأمين أهم مراكز انتشارها الخارجي ودعم حليفها إلى انهيار صورتها والثقة في قدرتها على لعب دور الشريك القوي والموثوق، وهو ربما أحد الأسباب التي دفعت الصحافة الروسية لنشر تقارير حول تسليم بشار الأسد لمعلومات عن حلفائه لإسرائيل ومعلومات أخرى حول رفضه المقاومة والقتال، بالإضافة لتصريحات الرئيس الروسي حول انسحاب قوات النظام والقوات الإيرانية أمام تقدم الثوار، فهي رسالة لشركاء روسيا وأصدقائها بأنَّ موسكو لا تتحمل وزر ما جرى.
سيناريوهات محتملة
في أوائل العام الحالي عززت روسيا من حضورها العسكري في ليبيا ودول الساحل، حيث كشفت مصادر استقصائية عن إرسال نحو 1800 عسكري قادمين من الجبهات الأوكرانية للالتحاق بما بات يعرف “بالفيلق الإفريقي” في ليبيا كما أرسلت آلاف الأطنان من المعدات العسكرية.
وفي أعقاب سقوط النظام السوري كثفت موسكو رحلاتها الجوية والبحرية إلى ليبيا فيما يعتقد أنَّها عمليات نقل لأصول عسكرية من ضمنها منظومات دفاع جوي S-300 وS-400. كما أفادت مصادر أمنية ليبية عن عقد مدير الاستخبارات العسكرية الروسية في 9 ديسمبر اجتماع مطول مع القائد العام للقوات المسلحة “خليفة حفتر” واثنين من أبنائه: رئيس أركان القوات البرية “صدام” ورئيس أركان الوحدات الأمنية “خالد”، وقد تبع الاجتماع نقل قوات الفيلق الإفريقي لعتاد ثقيل من مناطق التمركز بالساحل إلى الجنوب، وإجراء قوات حفتر مناورات نوعية في محيط سرت، وما هو استجابت له البحرية التركية بمناورات بحرية بالقرب من خليج سرت، بالإضافة لتحرك قوات عسكرية من مصراتة في محيط المناطق المحاذية لسرت والجفرة.
تشير المعطيات المذكورة إلى وجود حراك روسي غير اعتيادي قد يكون بهدف إعادة التموضع في ليبيا وتحويلها لمركز ثقل لقواتها في الخارج، لكن القوات الروسية تواجه مشكلات لوجستية وفنية كبيرة، فالمنشآت العسكرية والبنية التحتية الداعمة لها لا تؤهل ليبيا لاستضافة وجود عسكري استراتيجي مشابه لذلك الذي في سوريا، كما أنَّ غياب مركز دعم وتزود بالوقود يضع عقبة كبرى أمام حركة طائرات الشحن الجوي العسكري ما يعوق القدرة على الانتشار والتمركز.
على مستوى آخر لا يمثل حليف موسكو في ليبيا سلطة سياسية “شرعية” مما يعرقل قدرتها على تأسيس حضور رسمي مستدام، كما أنَّ القيادة السياسية والأمنية في النصف الغربي للبلاد تتبنى موقفًا رافضًا ومعاديًا للدعم الروسي لحفتر وتواجد المجموعات العسكرية الروسية التي ساهمت في الهجوم على طرابلس في 2019 ما يعني أنَّ أي محاولة لتأسيس حضور مستدام يتطلب التحضير لمواجهة السلطة الشرعية والحسم العسكري ضدها. تمثّل هذه التحديات عقبات أساسية أمام أي اتجاهات تفكير وتخطيط تتبنى فكرة استبدال التمركز الاستراتيجي في سوريا بليبيا، فضلًا عن التحديات التي تمثلها القوى الإقليمية التي قد تعتبر هذا التمركز خطرًا على نفوذها وأمنها.
تحتاج موسكو لرؤية سياسية وأمنية مطورة تواكب التحول الجيوسياسي الحاصل وتحد من حجم التحديات التي تواجهها، وهو ما قد يستغرق وقتًا لبنائها وترجمتها لسياسات ومقاربات عملية، لكنها -فيما يبدو- لن تدخر جهدًا في المناورة للحفاظ على قدرتها على الوصول للمياه الدافئة، حيث تستمر في التفاوض مع القيادة السورية الجديدة حول الحفاظ على قواعدها في حين تتحرك بشكل موازٍ لاستكشاف فرص بديلة.
وتشير التصريحات والتحركات الروسية إلى ارتفاع إحساس القيادة الروسية بالخطر حيث باتت تواجه تهديد الانكماش على نفسها وخسارة مساحات التأثير عبر القضايا المختلفة، وهو ما سيضعها في موقف استراتيجي متراجع أمام خصومها خصوصًا في ظل غياب بوادر القدرة على حسم الحرب في أوكرانيا.
في مسألة إعادة التموضع يلوح أمام موسكو خيار آخر -ربما أقل تفضيلًا- وهو السودان، ورغم أنَّ القاعدة البحرية المتفق عليها في بورتسودان تعد قاعدة لوجستية محدودة، فإنَّ الأرضية السياسية ربما تكون أكثر ملاءمة من ليبيا، حيث تملك موسكو تفاهمًا مع السلطة “الشرعية”، إلا أنَّ تطوير مستوى الحضور العسكري يتطلب تطوير الموقف السياسي من الجيش، حيث ساهم سابقًا التباطؤ في تقديم الدعم للجيش السوداني والانفتاح عليه مقابل تورط مجموعات فاغنر في دعم قوات الدعم السريع في تعطيل الاتفاق على إنشاء القاعدة. بالنسبة لموسكو، فإنَّ القاعدة في بورتسودان تضمن لها موقعًا استراتيجيًّا على البحر الأحمر، مع إمكانية الوصول المباشر إلى طرق التجارة التي تربط أوروبا وآسيا وإفريقيا، لكنها لا ترتقي إلى أن تكون بديلًا عن حضورها في سوريا.
إنَّ التحول الكبير الذي جلبه سقوط النظام السوري انعكس على أدوار وموقف الفاعلين الدوليين والإقليميين بشكل مباشر، فبعد سعي النظام التركي لشهور عديدة لتطبيع العلاقات مع النظام السوري صار اليوم في موقف استراتيجي متفوق على القوى الإقليمية المنافسة، كما وضع هذا التحول روسيا في حالة دفاعية تبحث فيها عن الحد من خسارتها وإيجاد حلول لمعضلتها، ومع تغير الموقف الاستراتيجي تتغير الأولويات، وهو ما يفتح الطريق لتحول جذري في السياسات والمقاربات تجاه قضايا محددة، فمثلًا سوريا اليوم صارت أولوية تركية وهو ما سينعكس على التزامات الأخيرة تجاه مناطق تواجد ونفوذ أخرى مثل ليبيا، والعكس صحيح بالنسبة لروسيا التي قد تتغير أولوياتها وفقًا لتطور الأحداث لتصبح ساحة ليبيا أو السودان أولوية، خصوصًا في حال نجح ترامب في فرض تسوية بملف الحرب الروسية الأوكرانية.