
في عالم السياسة الدولية، تُشكِّل القوانين والتشريعات أدوات فعَّالة في إدارة المصالح والتحالفات، ولكنها قد تتحوًّل أيضًا إلى أسلحة تُستخدم لخدمة أجندات خاصة. فمنذ مطلع القرن العشرين، تزايدت الحاجة إلى مواجهة التهديدات الأمنية العالمية عبر الأطر القانونية، لكن تلك القوانين لم تكن دائمًا محايدة أو عادلة، بل اتسمت كثيرًا بقدر كبير من الانتقائية، مما جعلها محل جدل واسع النطاق.
أحد أبرز تلك القوانين وأكثرها تأثيرًا على المشهد السياسي العالمي هي القوانين الأمريكية لمكافحة الإرهاب، التي لم تقتصر آثارها على الداخل الأمريكي، بل امتدت لتشمل دولًا ومنظمات وأفرادًا حول العالم. وبينما يُفترض أنَّ الهدف الأساسي منها هو التصدي للعنف المسلح الذي يستهدف المدنيين أو يهدد الأمن الأمريكي والدولي، فإنَّ الواقع يكشف أنَّ تلك القوانين تأثرت بمساحات النفوذ ونطاقات المصالح الأمريكية، وأصبحت أداة تُستخدم لمعاقبة بعض الجهات، بينما يُغض الطرف عن جهات أخرى تمارس العنف نفسه أو أشد.
فما الذي يجعل بعض الحركات والجماعات المسلحة تُدرج على قوائم الإرهاب الأمريكية بينما يُتغاضى عن أخرى؟ وهل هذه القوانين تستند إلى معايير قانونية واضحة، أم أنَّها انعكاس لمصالح الدول الكبرى؟ كيف يمكن أن تؤثر هذه القوانين في شرعية الحركات التحررية أو المقاومة المشروعة ضد الاحتلال؟
في هذا المقال، سنتناول قوانين وقوائم الإرهاب الأمريكية بشيء من التفصيل، حيث سنستعرض بنودها والعواقب والآثار المترتبة عليها، كما سنحاول قراءة واستنباط دوافعها وأهدافها الحقيقية، ومدى ارتباطها بالمصالح الأمريكية أكثر من ارتباطها بحفظ الأمن وحماية الداخل الأمريكي.
الإرهاب من المنظور الأمريكي…من التقيد بالضوابط إلى الكل مستباح
عقلانية ما قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر
كانت الولايات المتحدة حتى قبل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، تُعَرِّف “الإرهاب” طبقًا لما ورد في القسم 140 (d)(2) من قانون “تفويض العلاقات الخارجية” عام 1988 بأنَّه: “العنف المتعمد بدوافع سياسية والذي يُرتكب ضد أهداف غير مقاتلة من قبل مجموعات غير حكومية “دون الدولة” أو عملاء سريين”.
هذا التعريف يمكن اعتباره الأقرب إلى العقلانية والرشد، حيث يقيد وصف الأفعال والممارسات بالإرهاب فقط في حالة استهداف المدنيين، أي أنَّ الولايات المتحدة لم تكن تصنف الهجمات التي تطال جنودها العسكريين كهجمات إرهابية، ولم تكن تصنف الأفراد أو المنظمات التي تقوم بتلك الأفعال ضمن دائرة المتهمين بممارسة الإرهاب.
ما بعد الصدمة…الجميع إرهابيون محتملون
عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، أعادت الولايات المتحدة تعريف “الإرهاب” وفق الأمر التنفيذي رقم 13224 الصادر عام 2001، بأنَّه:
“أي نشاط ينطوي على فعل عنيف أو فعل خطير على حياة الإنسان أو الممتلكات أو البنية الأساسية؛ ويبدو أنَّه يهدف إلى ترهيب أو إكراه السكان المدنيين؛ أو التأثير على سياسة الحكومة عن طريق الترهيب أو الإكراه؛ أو التأثير على سلوك الحكومة عن طريق الدمار الشامل أو الاغتيال أو الاختطاف أو أخذ الرهائن”.
تبرز خطورة هذا التعريف الجديد في أنَّه لا يقتصر فقط على تصنيف الإرهاب ضمن نطاق الأفراد والمنظمات التي تستهدف حياة المدنيين بشكل مباشر، بل يمنح الإدارة الأمريكية صلاحيات مطلقة لاستهداف ما تشاء من المنظمات والأفراد وفق إطار واسع فضفاض شديد العمومية، يشمل:
- القيام بفعل يمكن اعتباره خطيرًا، وليس عنيفًا فقط.
- ليس فقط على حياة المدنيين، بل الإنسان بوجه عام، دون التمييز بين مدني وعسكري.
- ليس الإنسان فقط، بل والممتلكات العامة والخاصة.
- الحكومة أصبحت جهة اعتبارية مستهدفة وتقويض سياستها أصبح فعلًا إرهابيًّا.
وفق هذا التعريف يمكن اعتبار المتظاهرين الذين يشاركون في أعمال الشغب الشعبي أو يستخدمون وسائل اعتراض على ممارسات الحكومات، من قطع الطرق أو حصار وإغلاق المؤسسات الرسمية، أو إشعال النيران في بعض السيارات أو حتى صناديق القمامة، وهي الممارسات التي جرى التعارف على كونها وسائل عنف سياسي غير مجرمة وفق القوانين الدولية ما دامت لم تستهدف حياة البشر، إرهابيين من منظور التعريف الأمريكي الجديد للإرهاب. وحدث ذلك بالفعل حينما وصف الرئيس ترامب أحداث العنف التي وقعت عام 2020 خلال الاحتجاجات التي عرفت آنذاك بـ “حياة السود مهمة”، بأنَّها إرهاب محلي.
لا يتوقف الأمر عند ذلك، بل وفق التعريف الجديد، يمكن التعامل مع الهجمات الإلكترونية أو الاختراق أو السيطرة على مواقع رسمية للدولة، على أنَّها أفعال إرهابية، حتى لو كان مرتكبوها شبانًا أو أطفالًا دون الخامسة عشر.
قوانين مكافحة الإرهاب…توسيع دائرة الاتهام
تفرض الولايات المتحدة قيودًا على تحركات وتعاملات المؤسسات والأفراد على مستوى العالم بموجب حزمة من القوانين والأوامر التنفيذية المتعلقة بمكافحة الإرهاب. حيث صدر قانون مكافحة الإرهاب فيما يعرف باسم “قانون مكافحة الإرهاب وعقوبة الإعدام الفعّالة-AEDPA ” ملحقًا به القسم 219 من قانون الهجرة والجنسية (INA) والمتعلق بالقيود والعقوبات المفروضة على المنظمات الأجنبية، والذي صدرت بموجبه قائمة الإرهاب تحت إشراف “وزارة الخارجية الأمريكية”، التي تعرف باسم “FTO“.
بموجب هذه القائمة تُفرَض الإجراءات التالية:
- منع تمويل المنظمات الإرهابية وحث ودفع الدول الأخرى على القيام بالمثل.
- وصم وعزل المنظمات الإرهابية المحددة على المستوى الدولي.
- منع التبرعات أو المعاملات الاقتصادية مع المنظمات المذكورة.
- إعطاء الصلاحية للمؤسسات المالية الأمريكية بالسيطرة على أموال يكون للمنظمة الإرهابية الأجنبية المعينة أو وكيلها مصلحة فيها.
كما صدر عدد آخر من القوانين والأوامر الرئاسية عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، منها الأوامر التنفيذية رقم 13224 و13268 التي صدر بموجبها قائمة أخرى للإرهاب تحت إشراف “وزارة الخزانة الأمريكية” تشمل المنظمات والأفراد معًا، والتي تعرف باسم “SDN“. وبموجب هذه القائمة تُفرَض الإجراءات التالية:
- حظر جميع الممتلكات والمصالح التابعة للأفراد أو الكيانات المدرجة على القائمة، سواءً الموجودة داخل الولايات المتحدة أو التي تأتي إليها من الخارج أو التي تقع ضمن حيازة أو سيطرة الأشخاص الأمريكيين في أي مكان.
- حظر تعامل الأشخاص الأمريكيين أو الأجانب داخل الولايات المتحدة مع الممتلكات المحظورة، وتُفرض عقوبات مدنية وجنائية في حالة المخالفات.
- منع التبرعات أو المساهمات للأفراد أو الكيانات المحددة.
- تنبيه الحكومات الأخرى لتجنب الارتباط بالإرهابيين داخل أراضيها.
- تعطيل الشبكات الإرهابية وحرمانهم من الوصول إلى الموارد المالية وغيرها عن طريق المتعاطفين.
هذا بالإضافة إلى قانون “باتريوت آكت” سيّئ السمعة، أو ما عرف بـ “قانون توحيد وتعزيز أمريكا من خلال توفير الأدوات الملائمة المطلوبة لاعتراض وعرقلة الإرهاب”، الذي صدر أيضًا في أعقاب نفس الهجمات، وكان أكثر القوانين جدلًا وانتهاكًا لحياة الأفراد، حيث وسع صلاحيات مكتب التحقيقات الفيدرالية والاستخبارات المركزية في استخدام أدوات المراقبة والتنصت وقدرات التحقيق وتسهيل تبادل المعلومات الاستخباراتية والتتبع والاعتقال.
عززت ووَسَّعَت كافة القوانين والأوامر التنفيذية السابقة، من دائرة استهداف الأفراد والمنظمات داخل وخارج الولايات المتحدة، وأتاحت تتبعهم ومراقبتهم والتنصت على محادثاتهم الهاتفية ورسائلهم الإلكترونية وتجميد أصولهم وممتلكاتهم، بل واعتقالهم في أي مكان في العالم إذا لزم الأمر دون أذون قضائية ودون محاكمات.
كما فرضت حظرًا كاملًا على المواطنين الأمريكيين أو الأجانب المقيمين داخل الولايات المتحدة، يمنع ويجرم جميع أشكال التعاملات المالية والتجارية، أو تقديم أي دعم مالي أو فني أو لوجستي لتلك المنظمات والأفراد.
المنظمات المدرجة على القوائم…حصار وعزلة
على الرغم من أنَّ كافة القوانين التي صدرت فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، استهدفت في المقام الأول محاصرة وعزل الأفراد والمنظمات المتهمة بممارسة أو دعم الإرهاب وفق التعريف الأمريكي، ومنع تقديم أي دعم لهم من أي نوع، فإنَّها لم تتضمن أي نص واضح يقيد أو يمنع الإدارة الأمريكية من فتح قنوات تواصل مباشرة مع هذه المنظمات أو الأفراد.
ولكن تعارفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على ألا يتم التواصل مع تلك المنظمات والأفراد إلا من خلال وسطاء، وذلك بهدف الاستمرار في تعزيز عزلتهم، وعدم تمكينهم من أي مساحة قد توفر لهم بعض من المشروعية أو الاعتراف الضمني، والتي تُعدُّ أحد أهم العقوبات المترتبة على الإدراج في قائمة الإرهاب بموجب القسم 219 من قانون الهجرة والجنسية.
الرئيس ترامب يكسر القاعدة…طالبان على المقعد المقابل
عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أدرجت واشنطن حركة طالبان على قوائم وزارة الخزانة الأمريكية للإرهاب المعروفة باسم “SDN” في يوليو 2002. وبعد قتال مرير دام أكثر من 20 عامًا بين حركة طالبان والولايات المتحدة في أفغانستان، كلف الولايات المتحدة ما يقارب 2.3 تريليون دولار كتكاليف مباشرة للحرب، وبعد أن استنفذت الولايات المتحدة كافة أهدافها في أفغانستان، حتى لم يعد لديها أي دوافع عسكرية أو اقتصادية تبرر مكوثها أكثر من ذلك، أوعزت إلى بعض حلفائها للبدء في القيام بدور الوساطة بينها وبين حركة طالبان من أجل إنهاء الحرب والانسحاب النهائي من أفغانستان.
جاءت تلك الخطوة في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة التحول التدريجي البنيوي والهيكلي للانتقال من طور عقيدة الحرب ضد الإرهاب إلى الحرب التقليدية مرة أخرى، في ظل تنامي الخطر القادم من بحر الصين الجنوبي، والذي تطلب الاقتصاد في القدرات العسكرية الأمريكية على كافة الجبهات التي لم تعد تمثل أهمية كبيرة، مقابل حشد القدرات لمواجهة التهديد الصيني.
في عام 2010، بدأت دولة قطر في القيام بدور الوساطة، وفتحت حركة طالبان لأول مرة مكتب تمثيل رسمي لها في الدوحة عام 2013، وامتدت المفاوضات على مدار خمسة أعوام كاملة، ولكن دون حدوث تقدم ملموس في ظل اعتراضات الحكومة الأفغانية.
هذا التباطؤ دفع الرئيس ترامب إلى اتخاذ قرار جريء بالذهاب إلى التفاوض المباشر مع طالبان عام 2018، حيث استمرت المحادثات المباشرة بقيادة المبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد لمدة عامين، اختتمت باتفاق الدوحة التاريخي في فبراير 2020، والذي قضي بانسحاب القوات الأمريكية في موعد أقصاه أغسطس 2021. وهكذا أبرم الرئيس ترامب اتفاقًا ثنائيًّا بمعزل عن الحكومة الأفغانية، التي لم تنجح في التفاهم مع حركة طالبان وعَقْد اتفاق مماثل معها.
استمر القتال بين طالبان والقوات الحكومية، وبدأت طالبان في تحقيق انتصار تلو الآخر، حتى قرر الرئيس بايدن تنفيذ عملية الانسحاب بشكل فوري في عجالة، ما أدى إلى تهاوي قوات الحكومة الأفغانية أمام قوات طالبان التي نجحت في السيطرة على العاصمة كابل في انتصار تاريخي كاسح في أغسطس 2021.
حركة حماس من قوائم الإرهاب إلى طاولة المفاوضات
حماس على قوائم الإرهاب…السابقون الأولون
أُدرجت حركة حماس في أكتوبر عام 1997 على قوائم الإرهاب لدى وزارة الخارجية الأمريكية المتعلقة بالمنظمات، والتي تعرف باسم “FTO“، بموجب القسم 219 من قانون الهجرة والجنسية (INA) الملحق بقانون مكافحة الإرهاب “AEDP”، وتُعدُّ ضمن أوائل المنظمات التي أدرجت على تلك القائمة. وتم هذا الإدراج عقب سلسلة العمليات المسلحة التي نفذتها حماس منتصف التسعينيات بقيادة يحيى عياش، والتي خلفت مئات القتلى والجرحى في صفوف جنود ومستوطني الاحتلال الإسرائيلي، لتكون بذلك ضمن أول 30 منظمة تُدرج على تلك القائمة.
كما تم إدراج حماس مرة ثانية في أكتوبر عام 2001 على قائمة أخرى للإرهاب لدى وزارة الخزانة الأمريكية تشمل المنظمات والأفراد، والتي تعرف باسم “SDN“، بموجب الأمرين التنفيذيين 13224 و13268، وذلك في أعقاب انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000. وما بين العامين 2011 و2019، تم إدراج 8 من قادة حماس على قائمة وزارة الخزانة، منهم ستة قادة قضوا خلال معركة طوفان الأقصى وهم: إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، ومحمد الضيف، ومروان عيسى، وروحي مشتهى، وأبو أنس الغندور.
التفاوض المباشر مع حماس…اضطرار لا اختيار
في خطوة تحمل الكثير من الدلالات، كسرت واشنطن العزلة المفروضة على حركة حماس المدرجة على القوائم الأمريكية للإرهاب منذ عام 1997، لتدخل في مفاوضات مباشرة معها خلال شهر فبراير 2025، من خلال المبعوث الأمريكي لشؤون الرهائن “آدم بولر”، وذلك من أجل الإفراج عن الأسرى مدوجي الجنسية الأمريكية الإسرائيلية لدى فصائل المقاومة الفلسطينية ممن تم أسرهم يوم السابع من أكتوبر 2023؛ ومتخلية بذلك عن استراتيجية الوساطة التي ظلت تنتهجها حتى في أشد الأوقات حساسية، لتصبح تلك الخطوة بمثابة سابقة هي الأولى في تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدار أكثر من 25 عامًا، وذلك منذ إصدار القوائم الأمريكية للإرهاب عام 1997.
جاءت هذه المفاوضات المباشرة في ظل تعقد محادثات وقف إطلاق النار في غزة، ومع الاهتمام الشديد الذي يوليه ترامب لتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه بالإفراج عن الأسرى لدى حماس، وعلى رأسهم الأمريكيين منهم في أقرب وقت، ثم وقف الحرب بشكل نهائي.
أدرك ترامب أنَّ هناك تضاربًا في المصالح بينه وبين رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو الذي بدا غير مهتم بعودة الأسرى، حيث يعدهم نقطة ضعف تعيقه عن استكمال الحرب وتحقيق الأهداف التي وضعها. هذه الحرب يراها نتنياهو الضامن الوحيد لبقاء ائتلافه الحكومي، الذي يمثل سقوطه تهديدًا مباشرًا على مستقبله ليس السياسي فقط بل والشخصي أيضًا، لا سيما في ظل القضايا التي يُحاكَم بموجبها حاليًّا.
يعي ترامب أيضًا أنَّ حركة حماس على درجة عالية من الإدراك لقيمة ما يمثله ملف الأسرى من أهمية قصوى بالنسبة لها، فهو ورقة الضغط الوحيدة التي تمتلكها، وعليه من الصعب أن تقبل بالتفريط فيها بلا مقابل يخرج غزة من أزمتها الحالية، وهو ما يعقد المشهد بشكل أكبر.
ولذلك كانت خطوة الذهاب إلى التفاوض المباشر مع حركة حماس، كمحاولة أخيرة من ترامب لتحقيق نجاح مماثل على غرار تجربة طالبان، بما يسمح بالإفراج عن الأسرى الأمريكيين في صفقة ثنائية خاصة بمعزل عن نتنياهو، في وضع أشبه ما يكون بما فعله مع الحكومة الأفغانية مع الاختلاف الكبير بينها وبين ما تمثله إسرائيل للولايات المتحدة من أهمية.
إلا أنَّ المفاوضات لم تمض كما ينبغي، حيث اصطدمت تلك الخطوة باعتراضات واسعة داخل الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، مما عرقل الوصول إلى صيغة تفاهم مناسبة تمهد لمراحل متقدمة من التفاوض، وأجبرت ترامب على التراجع عن تلك الخطوة.
شرعية واعتراف ضمني…الهدية لا ترد
مثلت تلك الخطوة حدثًا استثنائيًّا وسابقة هي الأولى من نوعها، ليس فقط لكون حركة حماس مدرجة على قوائم الإرهاب، بل لكونها جاءت في ظل دعم وتوجيه كامل تقدمه الولايات المتحدة لدولة الاحتلال في حربها التي تشنها على غزة، والذي سخرت لها فيها نخبة خبرائها العسكريين، ووضعت تحت تصرفها ترسانة أسلحتها الفتاكة المدمرة، وفي ظل الوضع الصعب الذي تعانيه حماس على كافة الأصعدة، سواءً فقدانها الصف الأول من قيادتها العسكرية والسياسية، أو الضغط والحصار اقتصادي غير الإنساني الذي يتعرض له سكان غزة. كل ذلك يجعل من تلك الخطوة انتصارًا معنويًّا كبيرًا لحماس، واعترافًا ضمنيًّا بها كطرف في المعادلة.
وبصرف النظر عن فشل المفاوضات وانهيار الهدنة وعودة الحرب مرة أخرى، إلا أنَّ تلك الخطوة ستبقى رصيدًا في حساب حماس، فالانتصارات في المعارك الطويلة غير المتكافئة تكون بمحصلة الجهود ومجموع النقاط، والموقف التفاوضي لحماس في المرحلة المقبلة ربما يرتكز على ما رسخته تلك الخطوة في وعي الطرفين، وهو أمر من غير الممكن تخطيه أو تجاهله، حتى وإن تعمد المفاوض الأمريكي إسقاطه من الحسابات.
مكافحة الإرهاب أم حركات التحرر؟
الدوافع الأولى…إسرائيل حاضرة بقوة
صدرت أول قائمة أمريكية للمنظمات والجماعات الأجنبية الإرهابية في أكتوبر 1997، والتي تعرف باسم “FTO” وذلك بعد أكثر من عام كامل على صدور قانون “AEDPA“. سنتناول فقط الحزمة الأولى من المنظمات المدرجة على تلك القائمة بالفحص والتحليل، وذلك لضمان عدم التحيز في البيانات كونها صدرت قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي أثرت بشكل كبير فيما بعد على توجهات الإدارة الأمريكية في عمليات التصنيف، حيث أدرجت واشنطن على تلك القائمة منذ تلك اللحظة ما لا يقل عن 45 منظمة أجنبية، 90% منها حركات إسلامية جهادية إما على علاقة بتنظيم القاعدة أو تنظيم داعش.
كان العدد الإجمالي للمنظمات ضمن الحزمة الأولى المدرجة على القائمة في أكتوبر 1997 هو 28 منظمة أجنبية. وخلال الفترة من أكتوبر 1997 وحتى سبتمبر 2001 تم إضافة 3 منظمات جديدة فقط، وهي الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي نفذ هجماته آنذاك ضد المصالح البريطانية، وتنظيم القاعدة الذي أدرج لأول مرة على القائمة في أكتوبر 1999 عقب تفجيرات السفارات الأمريكية في تنزانيا وكينيا عام 1998، والحركة الإسلامية في أوزباكستان لارتباطها بتنظيم القاعدة.
تم رفع 15 منظمة ضمن الحزمة الأولى من القائمة، إما بسبب تفككها وانتهائها، أو بسبب وضعها للسلاح وانخراطها في العملية السياسية. حيث تم رفع 5 منظمات من القائمة في الفترة ما بين أكتوبر 1999 وأكتوبر 2001، كما تم رفع المنظمات العشر الأخرى بالتدريج حتى عام 2022، فيما بقيت 13 منظمة فقط مدرجة على القائمة حتى اليوم، إلى جانب عشرات المنظمات الأخرى التي أدرجت عقب تلك الحزمة الأولى.
أولًا: الأيديولوجيا والتوجهات
يمكن تصنيف المنظمات ضمن الحزمة الأولى كالتالي:
- وفق التقسيم الأيديولوجي: 70% منها حركات يسارية/ماركسية/شيوعية كانت تناضل ضد الاستعمار والنفوذ الأجنبي، و25% حركات إسلامية، وحركة روحية يابانية، وحركة يهودية إسرائيلية.
- وفق التقسيم الجغرافي: 30% منها حركات نشطة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، و18% داخل نطاق دول أمريكا اللاتينية، و14% في منطقة شرق آسيا، والباقي موزع ما بين تركيا واليونان واليابان وإسبانيا وإيران والجزائر.
إلا أنَّ اللافت هنا هو أنَّ من بين 13 منظمة متبقية إلى اليوم، يوجد 6 منظمات أي (50%) تمثل فصائل مقاومة فلسطينية ولبنانية متعددة الأيديولوجيات، من اليسارية الماركسية إلى الإسلامية السنية إلى الإسلامية الشيعية، تشترك جميعها في كونها تقود عمليات الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم تقم باستهداف مصالح الولايات المتحدة في أي مكان في العالم.
كما أنَّ بعض المنظمات اليسارية الفلسطينية كانت لديها قنوات تواصل مع حركات التمرد اليسارية في أمريكا اللاتينية تتبادل من خلالها الدعم اللوجيستي والتدريب، مثل حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية-الجيش الشعبي، وحركة توباك أمارو الثورية البيروفية، واللتين للمفارقة كانتا مدرجتين على نفس القائمة ثم رُفعتا من القائمة فيما بعد، حيث رُفعت الأولى في ديسمبر عام 2021 عقب اتفاق السلام مع الحكومة الكولومبية المبرم في نوفمبر 2016، والذي نتج عنه انخراطها في العملية السياسية، فيم رُفعت الثانية في أكتوبر 2001، عقب القضاء على الحركة وتفككها أواخر عام 1997.
ثانيًا: السياقات والظروف المصاحبة
بالنظر إلى السياقات الداخلية والدولية المتزامنة مع توقيت إدراج المنظمات على القائمة، نلاحظ وجود سياقين رئيسين مهمين، الأول هو سلسلة التفجيرات التي تعرضت لها الولايات المتحدة بدءًا من تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، ثم تفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995، ثم تفجيرات أبراج الخبر في السعودية 1996 والتي صنفت في ذلك الوقت ضمن أشد الهجمات عنفًا، حيث قُتل فيها 19 من أفراد سلاح الجو الأمريكي.
أما السياق الثاني، فهو تصاعد العمليات المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بداية من عام 1993 عقب توقيع اتفاق أوسلو حتى أواخر عام 1997 الذي شهد سلسلة من العمليات الاستشهادية نفذتها الفصائل الفلسطينية، خلفت مئات القتلى والمصابين في صفوف جنود الاحتلال والمستوطنين، لا سيما العمليات التي قادها يحيى عياش.
فإذا جمعنا طبيعة وهوية الحزمة الأولى من المنظمات التي أدرجت على قائمة “FTO” جنبًا إلى جنب مع السياقات الدولية المصاحبة، نجد أنَّ هناك شواهد قوية على أنَّ الدوافع الأولى -قبل وقوع تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر- الكامنة خلف إصدار القانون والقائمة الملحقة به، لم تكن مرتبطة جميعها حصريًّا بالهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة أو أمنها الخاص فقط، بل بأمن حلفائها وحماية نفوذها الاستعماري داخل تلك الدول، وعلى رأسهم دولة الاحتلال الإسرائيلي. حيث كان على رأس أولويات من يصيغون هذا القانون التضييق على مصادر تمويل الحركات والمنظمات الفلسطينية التي سعت لإفشال مسار التطبيع مع الاحتلال المترتب على اتفاق أوسلو، بالإضافة إلى قطع قنوات اتصالها مع حركات التمرد اليسارية اللاتينية صاحبة الخبرة الطويلة والفاعلة في مقاومة النفوذ الأمريكي في القارة اللاتينية.
بشرعية شعبية حرة أو بشرعية السلاح…ستبقى على القوائم
إنَّ تعاطي الولايات المتحدة مع المنظمات وحركات التحرر التي تسعى إلى مقاومة النفوذ والاستعمار الأمريكي المباشر أو بالوكالة، لم يتغير كثيرًا حتى في حال وصلت تلك الحركات إلى سدة الحكم، سواءً وصلت بواسطة عملية سياسية من خلال صناديق الاقتراع، أو وصلت بقوة السلاح، وسواءً حظيت بإجماع شعبي أم لم تحظ، فالحالتان لديها سواء، ستظل تلك الحركة/المنظمة على قوائم الإرهاب ما دامت تسعى إلى الاستقلال الكامل وتقويض النفوذ والمصالح الاستعمارية للولايات المتحدة في تلك الدول.
فعلى الرغم من الاتفاق التاريخي الذي أبرمته حركة طالبان مع الولايات المتحدة، والذي تعهدت فيه طالبان بعدم دعم أي حركات تهدد المصالح الأمريكية في العالم، فإنَّ حكومتها لم تحظ بأي اعتراف دولي حتى اليوم، وجمدت الولايات المتحدة أصول البنك المركزي الأفغاني لصنع أزمة اقتصادية للحكومة الجديدة، كما لم تُرفع طالبان من قوائم الإرهاب إلى الآن.
يزعم البعض أنَّ وصول حركة طالبان إلى سدة الحكم بالقوة العسكرية كان هو السبب وراء ذلك. دعونا نقبل جدلًا بهذا الرأي، ولننتقل إلى تجربة أخرى على النقيض، حيث قررت حركة حماس عام 2006 خوض غمار المنافسة السياسية والحزبية، وشاركت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ونجحت في الفوز بالأغلبية وتشكيل الحكومة، بعد انتخابات وصفت آنذاك بأنَّها حرة ونزيهة أجريت تحت إشراف ومراقبة جهات دولية وأممية. إلا أنَّ ذلك لم يشفع لها، فلم تحظ حكومتها بالشرعية الدولية، وتم الانقلاب عليها وإفشالها، كما لم ترفع الحركة من قوائم الإرهاب.
نموذج آخر وهو حزب الله، والمدرج على قوائم الإرهاب منذ أكتوبر 1997، حيث كان للحزب حضور سياسي دائم داخل مجلس النواب اللبناني، وتمكن تحالفه من السيطرة على الأغلبية داخل البرلمان لفترات طويلة. إلا أنَّ هذا التمثيل السياسي لم يكسب الحزب شرعية دولية، كما لم يرفعه من القوائم الأمريكية للإرهاب.
كما أنَّنا لدينا نموذج آخر لثورة شعبية حظيت بدعم شعبي ودولي وهي الثورة السورية، حيث نجح الرئيس “أحمد الشرع” أو “أبو محمد الجولاني” قائد “هيئة تحرير الشام” في تحرير دمشق في 8 ديسمبر 2024 بعد أكثر من 12 عامًا من النضال ضد الأسد طاغية سوريا.
تقلد “أحمد الشرع” منصب رئيس الجمهورية لحين اعتماد دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات تشريعية، ويحظى حاليًّا بحالة قبول شعبي ودولي واسعة، حيث التقى في مدة وجيزة ممثلين ورؤساء وملوك دول أوروبية وعربية وحصل على دعم العديد منهم وعلى رأسهم ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وتركيا وقطر ومصر والسعودية، بالإضافة إلى مشاركته في القمة العربية الأخيرة ممثلًا عن الجمهورية السورية.
كل ذلك لم يشفع للشرع، حيث لم تُرفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب رغم أنَّ الجيش السوري الجديد قائم بالأساس على الهيئة وفصائل مسلحة أخرى، وعلى الرغم من أنَّ الهيئة حاليًّا تحظى بدعم شعبي كبير وواسع في أنحاء سوريا. كما لم تُرفع العقوبات المفروضة على سوريا جراء جرائم نظام الأسد، وذلك دون إبداء أي أسباب مقنعة واضحة.
الخاتمة
وقفت الولايات المتحدة موقف العداء من أغلب حركات التحرر التي قادت نضالًا مسلحًا لدحر الاستعمار وتقويض النفوذ الأجنبي، سواءً كان الاستعمار أو النفوذ أمريكيًّا خالصًا كما في حالة فيتنام والعراق وأفغانستان، أو من خلال حلفائها كاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، أو نفوذًا غير مباشر من خلال أتباعها في بعض الدول مثل كولومبيا التي سيطرت فيها الشركات الأمريكية على ثروات النفط.
فقد اتخذت الولايات المتحدة موقف العداء من ثورة التحرير الجزائرية ودعمت فرنسا ضد الشعب الجزائري، كما عادت الثورة الكوبية وشاركت في اعتقال المناضل اليساري “تشي جيفارا” وساهمت في إعدامه، وحاربت استقلال وتوحد فيتنام، وناصبت الثورة الإيرانية العداء، ودعمت ديكتاتورية بنوشيه في شيلي، وحتى اللحظة الحالية تحارب بنفسها فصائل المقاومة الفلسطينية.
رأت الولايات المتحدة أنَّ هناك فرصة سانحة بعيدًا عن اللجوء إلى القوة العسكرية، لتقويض قدرات حركات التحرر والمناهضة للإمبريالية التي يحظى كثير منها بقبول وتعاطف شعبي، والتي استطاع بعضها تحقيق الاستقلال الذاتي في التمويل، وذلك بواسطة إصدار تشريعات جديدة تحرر أيادي الولايات المتحدة المكبلة بالتشريعات الكثيرة التي تدعم مجال الحريات وتحمي حقوق الأفراد، بحيث تمكنها من السيطرة على مقدرات تلك المنظمات -المحفوظة بالقوانين- من خلال تشريعات قانونية مقابلة.
لقد وجدت الولايات المتحدة ضالتها في قوانين مكافحة الإرهاب، واعتبرتها العصا الغليظة التي تستطيع من خلالها إخضاع من تشاء أفرادًا ومنظمات وحكومات، وتجفيف ما شاءت من المنابع التي تتعارض مع مصالحها العليا، في أي مكان في العالم، مهما انتهكت تلك القوانين من حريات وحقوق البشر.