ليلة المُسيّرات وسقوط جدار الأمن
سيّد الأمن، هو اللقب الذي يطلقه أنصار نتنياهو وجمهوره عليه، بوصفه يركز على تعزيز الأمن كحجر زاوية في برنامجه السياسي، وباعتبار وجوده في الحكم يعني تحقق “الأمن التام والشامل”، وملاحقة الإرهاب والقضاء عليه حيثما حلّ ووقع، وأنَّ حماس لن تكون في عهده إلا مردوعة، وأنَّ حزب الله لن يكون في فترة حكمه إلا خائفًا مذعورًا.
في المقابل، وجد الإسرائيليون أنفسهم في أصعب ليلة دراماتيكية مرت عليهم في العقود الأخيرة، وأفاق المجتمع الإسرائيلي فجأة على ليلة عصيبة أسموها “ليلة المُسيّرات”، وتبين أنَّ حارس أمن إسرائيل قد أخطأ التقدير مجددًا، وأنَّ تقديره بأنَّ إيران ستبتلع المنجل، وستمرر الضربة قد خاب، وأنَّها قامت بدلًا من ذلك بامتشاق السيف.
4 لاعبين، والمستفيد اثنان!
تقضي الاستراتيجية الأمريكية في معركة طوفان الأقصى بتركيز الجهد الحربي ضمن نطاق غزة فقط، باعتبارها الساحة الاستراتيجية، والباقي هي ساحات اشتباك تكتيكية، بالتالي تدفع واشنطن باتجاه تجنب توسيع نطاق المعركة، واحتواء المشهد، ويكفيها ما سببه لها الطوفان من اضطراب في جدول الأولويات.
بينما تقضي الاستراتيجية الإسرائيلية، وتحديدًا استراتيجية نتنياهو، بما يحمله الرجل من توجه منذ كان وزيرًا للمالية في حكومة شارون بأنَّ إيران هي العدو الأول لإسرائيل، وأنَّ ضربها أهم من أي شيء آخر، وتضاعفت أهمية ذلك بالنسبة لنتنياهو في الفترة الأخيرة لأربعة أسباب:
1. الخروج من مستنقع ٧ أكتوبر:
تريد إسرائيل التي فشلت في حملتها العسكرية الكبيرة المتواصلة منذ 6 أشهر في القضاء على المقاومة في غزة، أو حتى إنهاء وجودها في الحكم، إيصال رسالة لجميع الأطراف مفادها أنَّنا قادرون على فعل شيء مؤثر.
2. استعادة الردع:
منذ حرب يوليو/تموز 2006 يعاني الردع الإسرائيلي الذي يشكل نواة وجودها ومركزية أمنها القومي، ويتآكل شيئًا فشيئًا طيلة العقدين الماضيين، حتى أتى طوفان الأقصى على ما تبقى منه، وتأتي خطوة استهداف إيران كمحاولة لضرب العدو الأشد خطرًا في أذهان الشعب الإسرائيلي، وترميمًا للردع المتآكل حتى لو معنويًّا.
3. إشغال مجتمع الكيان بخطر خارجي مبالغ فيه:
هذا التصعيد هو بمثابة الفزّاعة التي يرعب بها نتنياهو المجتمع الذي بدأ في التململ من سوء أداء الجيش، وعدم تمكن المستوى السياسي من تحقيق إنجاز ملموس، فالتصعيد مع إيران هو بمثابة العصا الغليظة لتوحيد ما تبقى من عصابات وتكتلات المجتمع الإسرائيلي المتناحر، تحت قبة الخطر الوجودي من وحش التهديد الخارجي.
4. استعادة القوة الدافعة الأمريكية:
فهي تشكل الشريان التاجي الذي يحفظ استمرار الحرب بعد أن تضاءلت إلى أدنى مستوياتها بسبب تراجع رواية المظلومية التي بدأت بها إسرائيل حربها، والجرائم غير المسبوقة التي ارتكبتها، وفوق كل ذلك أداؤها المتدني وغير القادر على تحقيق إنجاز حتى الآن.
أما الاستراتيجية الإيرانية فتقضي بإعادة ترسيم الخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك الممتدة من 45 عامًا، واستندت في مبادرتها الجريئة إلى ثلاثة أمور أساسية:
- الانطباع الذي يسود طهران بأنَّ “إسرائيل ضعيفة وعالقة في مأزق السابع من أكتوبر، وأنَّ المقاومة في غزة تستنزفها، بالتالي من الممكن ضربها بصورة مباشرة”.
- الشعور بأنَّ وجودها في سوريا بات مهددًا بشكل وجودي، وأنَّ إسرائيل ماضية في استراتيجية إنهاء وجودها هناك، وأنَّها تجاوزت الخطوط الحمراء في اغتيالها اثنَين من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في دمشق خلال 4 أشهر.
- الشعور بأنَّ نتنياهو قد استنفذ جميع فرصه في استجلاب الغطاء الأمريكي، وأنَّ الإدارة الأمريكية غير معنية بحرب مع إيران تعني بطبيعة الحال حربًا إقليمية.
أما استراتيجية المقاومة في غزة فتقضي باشراك أكبر عدد ممكن من الجبهات في المعركة، وخلق واقع جديد يتمثل في ألا تخوض غزة حربًا لوحدها، بل انخراط جبهات متعددة معها، وهي مستفيدة من هذه الهجمات بشكل كبير في عدة اتجاهات، يمكن قراءتها كالآتي:
فقد مثلت الضربة الإيرانية نقطة نجاح جديدة للمقاومة، تمثلت في استجلاب لاعب جديد للمعركة، وإدخاله إلى بؤرة التوتر الإقليمي، والأهم من هذه الضربة وحجمها هو البيئة الإقليمية الجديدة المتشكلة بسبب معركة طوفان الأقصى، فهذه البيئة تمنح المقاومة مزيدًا من الفرص الإيجابية كلما توترت أكثر، وهذا معناه أنَّ التوتر الإقليمي نقطة قوة مركزية بالنسبة للمقاومة، وأنَّ طول أمد معركة الطوفان أصبح لصالح المقاومة وليس ضدها، وذلك للأسباب الآتية:
- تحسين الوضع التفاوضي للمقاومة، والتموضع السياسي لها بسبب تطور أوراق القوة بيدها.
- منح المقاومة ميزة ترجيحية ميدانيًّا، عبر تخفيف الضغط عنها، وتمكينها ميدانيًّا أكثر، ومنحها مساحة أكبر للتحرك العملياتي.
- زيادة روح التحدي لدى حركات ودول وجماهير المقاومة، والدفع باتجاه مزيد من التصعيد الشعبي في الضفة والقدس والداخل ودول الطوق.
- اضطراب حجم الضغط الأمريكي، بسبب تبدل أولوياته ودفعه للتحرك أكثر خشية من انزلاق المنطقة إلى حرب مفتوحة تشغلها عن مساحات اهتمامها الرئيسية.
هذا يعني أنَّ الذي لم تنجح المقاومة في تحصيله في الأيام الأولى للطوفان؛ من المرجّح أن تتمكن من حيازته في الأيام اللاحقة.
انتصار تكتيكي أم هزيمة استراتيجية؟
إن كان من فشل مركزي يمكن نسبته إلى إسرائيل في هذه الحرب فهو الفشل الاستخباري، وعدم قدرة ترسانة الأمن على تقدير الموقف بشكل صحيح منذ فجر السابع من أكتوبر، يوم أن فشل الكيان في تقديره لحماس، وظنّ أنَّها استطاب لها المقام، ولن تقدم على خطوة كبيرة تجاه إسرائيل، وتفاجأ بها تنفذ أكبر خديعة استراتيجية ضده منذ 50 عامًا، واليوم وبعد 6 أشهر من مراكمة الفشل فوق الفشل، تجد إسرائيل نفسها تقع في ذات الخطأ الاستراتيجي مجددًا، إذ كشفت يديعوت أحرونوت، وبعد يوم واحد من الرد الإيراني، أنَّ شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي فشلت في تقديراتها حول اغتيال القيادي في الحرس الثوري، محمد رضا زاهدي، في العاصمة السورية دمشق، حيث توقعت أن يأتي الرد الإيراني عبر وكلاء طهران، دون تدخّل إيراني مباشر، بينما ما حدث دفع بالمنطقة إلى شفير حرب، كذلك صرح رئيس أركان الجيش السابق، غادي آيزنكوت بتصريحات لافتة تعبر عن حجم الورطة الاستراتيجية التي وقع فيها الكيان، حيث قال: “إنَّ الجيش الإسرائيلي يستخدم منذ نصف عام قدرات عسكرية كبيرة جدًّا في الحرب على غزة، لكنه لم ينجح في الوصول إلى أماكن احتجاز 133 رهينة، ممن يتواجدون على بُعد ساعة وعشْر دقائق من هنا”.
وأضاف أنَّ “العدو الأكثر ضعفًا في الشرق الأوسط ألحق بنا الضرر الأكثر شدة. وهذا تحدٍ سننظر إليه بعد خمس سنوات، عشر، خمسة عشر سنة. وعلينا قلب الاستراتيجية والإنهاء في موقع متفوق، وهناك ضرورة لعقد جديد، وتعزيز المناعة القومية. والأمر الفوري هو إعادة المخطوفين كواجبنا الأسمى، والذين لم ننجح بحمايتهم”، ويعني بذلك القبول بشروط حماس، والرضا بالحد الأدنى من أهداف الحرب التي يمكن تحقيقها، التي لم يتبقَ منها سوى تحرير ما بقي حيًّا من الأسرى، في ظل عدم القدرة على تحقيق أيّ من الأهداف السابقة.
إنَّ هذا هو وضع إسرائيل المهزومة، إذ تكافح الغرق، كصبيّ لا يعرف السباحة، وجد نفسه في عرض البحر، لا يملك سوى ضرب المياه خائفًا بذراعيه وساقيه يرجو النجاة، وهو لا يعلم أنَّه بذلك يُهلك نفسه فحسب.