ينظر العديد من محللي السياسة الخارجية للعقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتباره الفترة التي صادمت فيها أنقرة العديد من الجهات الفاعلة في سياستها في الشرق الأوسط، كما ارتفعت خلالها التوترات إلى أعلى مستوى، حتى أنَّه نوقش مدى تعرض أنقرة للعزلة. وبينما استدل المؤيدون لهذه الأطروحة بعلاقات تركيا آنذاك مع العراق وسوريا ومصر والسعودية والإمارات. إلا أنَّ العلاقات التركية الإسرائيلية، التي بدأت في التدهور قبل 2010، كانت أولى العلاقات التي أبدت علامات “للتحسن” في نهاية هذه الفترة.
ففي عام 2008، تسببت عملية الرصاص المصبوب، التي استهدفت فيها إسرائيل قطاع غزة، في تدهور العلاقات بين الجانبين، ثُمَّ أعقب هذه الحادثة التي وقعت بين أردوغان وبيريز في عام 2009، والمعروفة باسم “أزمة دافوس”. وأخيرًا شهد عام 2010 تصاعد التوترات الدبلوماسية إلى مستوى الذروة، حيث وصلت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى نقطة الانهيار. ففي 11 يناير 2010 تعرض السفير التركي المعتمد لدى تل أبيب، أحمد أوغوز تشليكول، للإهانة الفجة المنتهكة للأعراف الدبلوماسية، من نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون. وسُجلت هذه الأزمة لاحقًا في التاريخ باسم “أزمة المقعد المنخفض” في الشؤون الخارجية للبلدين. وبعد أشهر قليلة من هذه الحادثة، وقعت حادثة الهجوم على سفينة مافي مرمرة قبالة سواحل غزة في مايو 2010، التي أسفرت عن مقتل 9 مواطنين أتراك مدنيين على يد جنود إسرائيليين. أدت هذه الحادثة إلى تجميد العلاقات التركية الإسرائيلية، كما طلبت تركيا من إسرائيل الاعتذار الرسمي عن الحادثة وتقديم تعويضات لأسر ضحايا الحادث.
لاحقًا بدأت فترة التطبيع بين البلدين باعتذار نتنياهو نيابة عن إسرائيل عن حادث مافي مرمرة، وانتهى الأمر بقبول الإسرائيليين دفع تعويضات وترسيم عملية التطبيع بين البلدين باتفاق مكتوب. ورغم أنَّ التوتر بين أردوغان ونتنياهو بشأن القضية الفلسطينية في السنوات التالية تسبب في تباطؤ أو حتى توقف وتيرة عملية التطبيع بين البلدين، فإنَّ الواقع الإقليمي الجديد والتهديدات الأمنية الجديدة التي ظهرت في فترة ما بعد عام 2010، مهدت الطريق أمام البلدين للتعاون في نقاط معينة.
غير أنَّ العلاقات التي دخلت فترة إعادة البناء من جديد على هذا الأساس، أخذت تتوتر نتيجة عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس يوم 7 أكتوبر وما تلاها من هجمات إسرائيلية وحشية غير مسبوقة استهدفت قطاع غزة.
إنَّ نقاط الضعف العسكرية والاستخباراتية التي عانتها إسرائيل، التي كشف عنها هجوم حماس في السابع من أكتوبر، دفعت تل أبيب لمعاقبة غزة عقابًا هستيريًّا. في المقابل ازداد موقف تركيا من عدوان إسرائيل وتداعياته قسوة يومًا بعد يوم وازدادت نبرتها حدة. وفي الأخير، دخلت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب حيز التجميد مرة أخرى مع سحب إسرائيل لدبلوماسيها من تركيا.
في بداية الصراع -أي السابع من أكتوبر وما تلاه، أعربت أنقرة باعتبارها أحد رعاة حماس في المنطقة، عن أسفها لفقدان أرواح المدنيين من كلا الجانبين وطالبت بوقف إطلاق النار، بدلًا من أن تلوم حماس مباشرة. إنَّ أنقرة وتصريحها بأنَّ العملية كانت نتيجة لسياسات إسرائيل تجاه فلسطين، أظهرت أنَّ لديها موقفًا بتوجيه اللوم لإسرائيل وإنَّ تصريحات وزير الخارجية فيدان تظهر حقيقة موقف أنقرة، حيث ترى تصرفات إسرائيل بمثابة جريمة وأنَّ هناك “سرقة” تترجم في سياساتها “الاستيطانية” تجاه الأراضي الفلسطينية وأنَّه لا بُدَّ من ارتداد العواقب عليها في نهاية المطاف.
ورغم أنَّ الرئيس أردوغان تحدث بنبرة أقل حدة في الأسابيع الأولى وترك الساحة لوزير الخارجية فيدان في الاتصالات الدبلوماسية، فإنَّه في الفترة الأخيرة انتقد بشدة سياسات الاحتلال الإسرائيلي واتهم الغرب بدعم إسرائيل وذكر أنَّه لا يرى حماس منظمة إرهابية، وهكذا دخل أردوغان صراعًا جديًّا مع إسرائيل.
رغم أنَّ موقف تركيا من حماس وعدم الاعتراف بها كمنظمة إرهابية هو سياسة معروفة، فإنَّ تعريف حماس بـ “المجاهدين الذين يدافعون عن أرضهم” من قبل أردوغان وتعريف فيدان للمستوطنين الإسرائيليين بـ”اللصوص” مؤشرات على تفاقم الوضع بين البلدين.
كذلك جرت العديد من الاحتجاجات الضخمة والمحدودة ضد إسرائيل في جميع أنحاء تركيا بما في ذلك التجمع الكبير الذي عُقد في إسطنبول 28 أكتوبر بمشاركة الرئيس أردوغان، كما وقعت جميع الأحزاب السياسية في البرلمان التركي على نص مشترك يدين إسرائيل. كل ذلك كان مؤشرًا على أنَّه لن تكون هناك تراجعات كبيرة في السياسية الخارجية التركية على المدى القصير في قضية إسرائيل وغزة. وقد أشار أردوغان في تجمع فلسطين الكبير في مطار أتاتورك الدولي إلى حضور تركيا وقدراتها النافذة في المنطقة من خلال ضرب أمثلة بليبيا وكاراباغ. إنَّ إشارة أردوغان لمثل هذه الأمثلة يُظهر إمكانية توسيع نطاق الدعم لحماس والجماعات الفلسطينية الأخرى، إذا طالت الحرب.
إنَّ وصول العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى حد التدهور مرة أخرى، واستمرار حرب إسرائيل ضد غزة على غزة فترة طويلة سيؤثر في القضايا التي كانت متوترة فعلًا في العلاقات بين البلدين، فضلًا عن التأثير على مجالات التعاون المحتملة ومساحات المصالح المشتركة. وستكون السياحة والتجارة أولى المجالات المتضررة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إنَّ المحادثات بين البلدين حول التعاون في مجال الأمن والطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط ستؤجل لبعض الوقت وسيصبح هذا المجال مرة أخرى مجالًا للتنافس.
كما ستواصل تركيا عرقلة طريق التعاون المحتمل بين إسرائيل وقبرص واليونان في مجال الطاقة مع وجود قوتها البحرية على الطريق بين شمال قبرص وليبيا. إنَّ التطور السلبي في علاقات إسرائيل مع تركيا واحتمال أن يؤدي وضع الحرب الحالي إلى الإضرار بعمليات التطبيع مع الجهات الفاعلة الإقليمية مع إسرائيل، سيعني أيضًا أنَّ خُطة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، لن تكون مجدية بعد الآن؛ فإسرائيل تُعدُّ جزءًا منها. بالمقابل سيلقي هذا الوضع الجديد الضوء على مشروع “طريق التنمية”، الذي ترغب تركيا في تنفيذه وتحصيل مكاسبه بالتشارك مع العراق واستبعاد اليونان وإسرائيل.
وفي المجال العسكري، قد يؤدي زيادة دعم تركيا لفصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة حركة حماس؛ إلى زيادة الدعم الإسرائيلي لوحدات حماية الشعب ردًا على ذلك، إذ يمكن لتل أبيب أن تهدد تركيا بجوار حدودها مباشرة من خلال توفير الدعم المالي والعسكري لوحدات حماية الشعب، عبر الولايات المتحدة، كما يمكنها أيضًا التعاون ورعاية بعض المهام العسكرية لحليفتها الولايات المتحدة في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، قد يصبح لتل أبيب هدفًا متوسط المدى في خلق تهديدات أمنية يمكن أن تعيق مشروع الطريق التنموي التركي العراقي، وذلك من خلال الدعم الممكن تقديمه لعناصر حزب العمال الكردستاني في العراق. وعلى الرغم من هذه المخاطر، فإنَّ تركيا سوف ترغب في زيادة دعمها المالي والدبلوماسي للجماعات الفلسطينية قدر الإمكان. وهكذا، في حين أنَّ معظم اللاعبين الإقليميين يظلون سلبيين في البيئة الإرهابية التي خلقتها إسرائيل، فإنَّ أنقرة تستطيع تعزيز وتقوية نفوذها في ملف فلسطين من خلال إجراءات في متناولها.
ورغم أنَّ الفترة المقبلة قد تحمل مشكلات جديدة بين أنقرة وتل أبيب في المجالات المذكورة أعلاه، فإنَّ الطرفين سيواصلان اتباع سياسات تستهدف العدو المشترك في سوريا. فرغم أنَّ فترة ما بعد 7 أكتوبر أبعدت عن الطاولة إمكانية التعاون التركي الإسرائيلي في سوريا، فإنَّ الهجمات الإسرائيلية المتزايدة على سوريا في العشرين يومًا الماضية واستمرار تركيا في تقويض سلطة النظام عبر العمليات المناهضة لوحدات حماية الشعب في شمال سوريا، يعني ذلك كله الاستمرار في مهاجمة العدو المشترك (نظام الأسد والميليشيات المدعومة من إيران) دون التأثر بقضية غزة.
فهناك العديد من الميليشيات المدعومة من إيران في شمال سوريا التي تدعم وحدات حماية الشعب وجنود النظام ضد القوات التركية والمعارضة السورية. وتشكل آلاف الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله تهديدًا لتركيا والمعارضة السورية، بدءًا من ريف اللاذقية وامتدادًا إلى إدلب وحلب والحسكة. فقد لعبت الميليشيات المدعومة من إيران دورًا فاعلًا في عملية حصار النظام لحلب، كما تنفذ بين الحين والآخر هجمات لمضايقة الجنود الأتراك في المنطقة. وردًا على ذلك، واجهت تركيا مباشرة العناصر المدعومة من إيران في كل من إدلب وحلب.
على الجانب الإسرائيلي، فإنَّ وجود آلاف الميليشيات الخاضعة لسيطرة الحرس الثوري الإيراني جنوبي سوريا والفرقة الرابعة مدرعات بقيادة ماهر الأسد وهيمنة حزب الله، كلها أسباب تستخدمها تل أبيب للتدخل في المنطقة. وقد استهدفت القوات الجوية الإسرائيلية، التي نفذت أكثر من 1000 غارة جوية منذ عام 2017، العديد من النقاط التابعة للنظام وإيران في دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس ودير الزور وحلب. كما استهدفت الهجمات العديد من القواعد العسكرية التابعة لأذرع إيران في المنطقة، خاصة حزب الله، فيما قُتل العشرات من عناصر النظام والعسكريين الإيرانيين.
بينما تنظر تل أبيب إلى الميليشيات المعنية “المجاورة” لها في جنوب سوريا باعتبارها تهديدًا أمنيًّا، فإنَّها أيضًا ترى شبكة تهريب المخدرات المتمركزة في سوريا، التي أثرت بشدة في المنطقة في السنوات الأخيرة بمثابة تهديد. وتستخدم كل هذه كأسباب للتدخل. وإنَّ صعود حزب الله إلى الساحة بعد 7 أكتوبر وبدء الاشتباكات بين القوات الإسرائيلية وعناصر حزب الله يوجد أسبابًا جديدة لتل أبيب لزيادة عملياتها في سوريا. كما أنَّ استهداف مطاري دمشق وحلب عدة مرات وقصف مواقع عسكرية تابعة للنظام في ريف درعا الذي تعمه الفوضى، ينبغي أن يُفسر على أنَّ إسرائيل تردع سوريا وإيران. وعلى الرغم من أنَّ أنقرة وتل أبيب يتصادمان مع بعضهما البعض بشأن وحدات حماية الشعب في سوريا في الظروف الحاليَّة، فإنَّهما سيستمران في الاستفادة من تصرفات بعضهما البعض ضد إيران ونظام الأسد.