مقالات

كيف أدارت هيئة تحرير الشام المحرر؟

أحيانًا تفاجئ الأحداث حتى صانعيها، وحينئذٍ لا بُدَّ أن تنحني الجباه لروعة القدر ومكنوناته، بينما تفتش العقول عن خبيئات الإعداد والفكر والعمل. وهكذا كانت تطورات الأحداث في سوريا بالنسبة للجميع دون استثناء؛ النظام وداعميه والشعب والثوار أنفسهم، لتضع الجميع أمام أوضاع جديدة فريدة من نوعها وغير متوقعة، كما تفرض عليهم تحديات ومسؤوليات جديدة وثقيلة قد تختلف كليًّا وجزئيًّا عن سابقاتها.

لقد أصبح الثوار منذ عدة سنوات مسؤولين عن إدارة منطقة ليست بالصغيرة على الأقل في محتواها السكاني الذي يبلغ حوالي أربعة ملايين مواطن، فيما يشبه “الحكم اللامركزي” المستقل؛ بما تحويه هذه المنطقة من تعقيدات إنسانية واجتماعية واقتصادية وعسكرية وربما سياسية؛ فإنَّهم اليوم يجدون أنفسهم مسؤولين عن حكم سوريا كلها بذات التعقيدات لكن على مقياس أكبر وأكثر اتساعًا، ولعل الحالة الأولى كانت تمهيدًا للثانية، وتأهيلًا لها.

ولعل في ذكرها بشيء من التفصيل وحسب شهادات بعض شهود العيان وصانعي الأحداث؛ ما يجيب عن السؤال الملح الآن وهو: هل سيتمكن هؤلاء الثوار وقيادتهم الحالية من التحكم في دفة البلاد والإبحار بها إلى بر الأمان في ظل هذه الصعوبات والتحديات أم لا؟

وربما نستطيع أن نرسم بعض ملامح الإجابة عن المستقبل بسرد وقائع الماضي القريب بأكبر قدر متاح من الدقة، ولا يعني ذلك منَّا ثناءً أو قبولًا بكل ما فيها، بل ربما تعرضنا لبعض الجوانب السلبية والانتقادات الموجهة من داخل التجربة نفسها بما يؤدي الغرض الصحيح ولا يطعن في التجربة المبهرة والأمل الصاعد وبستان الربيع العربي الذي روي بالدماء في سبيل نيل الحرية والكرامة وتحقيق الهوية العربية والإسلامية.


أهم التحديات التي واجهتها الهيئة في المحرر:

سبق أن تناولت بشيء من التفصيل أهم التحديات الداخلية والخارجية التي تتصدى لها الإدارة الجديدة المنتصرة في سوريا اليوم، وذكرت منها تحديات داخلية وأخرى خارجية، وهي نفس تحديات اليوم تقريبًا لكن دون وجود النظام المجرم وحلفائه وتربصهم، ولعل هذا التحدي والتربص الخشن قد استبدل اليوم بالتربص الناعم من الاتحاد الأوروبي وأمريكا وأطراف إقليمية ومكونات محلية.

وسأقتصر هنا على كيفية معالجة هيئة تحرير الشام وقيادتها لبعض أهم التحديات الداخلية في إدارة المحرر، ويشمل ذلك:


أولًا: مشكلة التنوع الإثني والديني:

نجحت الهيئة بقيادة أحمد الشرع “الجولاني” في تقديم صورة ملائمة بالنسبة للغرب في التعامل مع الأقليات في مناطق إدلب على النحو التالي:

١- النصارى:

سيطر الثوار على ضيع عديدة للنصارى في إدلب شمال غرب سوريا بالقرب من الساحل، وهي مناطق ضُمت بقوة السلاح إذ كانت موالية للنظام وكانوا من المحاربين، ولذلك فقد فر أغلب أهلها إلا أعدادًا قليلة جدًّا بقيت في إدلب المدينة وبعض تلك الضيع.

وكانت دور أولئك الفارين تؤجر لآخرين بموجب عقد مع بيت الغنائم؛ وأكثرهم من المهاجرين، وقد قامت الهيئة منذ حوالي خمس سنوات؛ بتأمين عودة من أراد ذلك منهم، كما عملت على استصدار قرارات بإخراج المهاجرين وغيرهم من هذه الدور.

كما أعيد عمل الكنائس بعد إصلاحها والسماح للنصارى بالعودة مع تطمينات والسماح بإقامة شعائرهم، كما أعادت الأراضي الزراعية إليهم مرة أخرى. وتواصلت الهيئة مع مسؤول ملف النصارى في سوريا في الأمم المتحدة، وأعطوه صلاحيات كاملة، بل وخصصت له راتبًا سخيًّا. وتم تعيين مسؤول عن هذه الطائفة في مجلس الشورى بجميع المناطق التي يوجدون فيها، وألزموا المهاجرين الذين رفضوا المغادرة بإيجار لأصحاب تلك البيوت إن قبلوا، أو يخرجوا مع توفير دور جديدة لهم. ومن رفضوا تنفيذ تلك القرارات تم إجبارهم عن طريق القوى الأمنية، بل اعتُقل بعضهم لفترات وجيزة، وقد غادر بعضهم لاحقًا.

ويمكن القول إنَّ التعامل مع النصارى كان بحساسية شديدة جدًّا، بحيث وُجهت كافة الخدمات ولُبيت احتياجاتهم، بل تم توجيه المنظمات الخيرية لمناطقهم وتوزيع السلال الغذائية وغيرها من أمور. كما كانت تفرض الزكاة على المسلمين بطبيعة الحال كونها فريضة إسلامية، بينما عُفي النصارى من الجزية.


٢- الدروز:

عُوملوا بالمثل كالنصارى تمامًا من حيث الامتيازات، رغم أنَّه بعد دخول قُراهم شارك بعضهم في القتال مع الثوار، وبدأ المهاجرون ببناء المساجد في قُراهم دون أي إشكال، بل انجذب بعض أبنائهم إليهم في حالة من التطبع الكامل دون إكراه، رغم أنَّ الثوار من السُّنة وكاد ذلك أن يحدث تغييرًا ديموغرافيًّا لتلك القرى إن استمر، ولكن أخرجت الهيئة المهاجرين من تلك القرى الدرزية، ونص الجولاني -كما في لقاء مسجل معه- على أنَّ اختياره هو أن يبقوا دروزًا كما هم، كما جعل لهم ممثلين عنهم في غرف المشورة مثلهم كالنصارى تمامًا.

 ٣- الأكراد: بعد تعرضهم للتضييق على يد بعض فصائل الجيش الوطني، ومنعهم من احتفالية النيروز بقوة السلاح، شنت الهيئة حملة من إدلب لحماية الأقلية الكردية، ومنحتهم حقوقهم.


4- الشيعة:

قبلت الهيئة بعقد اتفاقية لإخراج الشيعة من كفاريا والفوعة رغم قدرة المجاهدين آنذاك على اقتحامهما عنوة والانتصار عليهم بعد حصارهما، لكنهم خرجوا بكامل عتادهم وأولادهم وأموالهم بأمان تام، كما أنَّهم يحاولون العودة الآن بعد سيطرة الثوار على كامل سوريا.

تسليم الطفل هوكر:

وهو طفل عراقي من الطائفة اليزيدية اعتقلته داعش صغيرًا جدًّا مع والدته وأخته اللتين قتلتا في قصف للتحالف، بينما نجا هو ليعيش في دار أيتام بإدلب وينشأ كطفل مسلم، وقد اكتشفت الهيئة قصته لاحقًا وسلمته لأسرته في العراق وسط ضجة إعلامية كبيرة.

ثانيًا: التحديات الاقتصادية في المحرر

افتقر المحرر آخر خمس سنوات للموارد الطبيعية ما عدا الزيتون وبعض الزراعات البسيطة، والثروة الحيوانية، ولكن بكميات قليلة لا تكفي الكتلة السكانية الموجودة في المحرر. وفي مرحلة ما قبل توحيد الفصائل كان لكل منها “اقتصادية” خاصة به، وكان أكثرها ثراءً ودخلًا هو فصيل “أحرار الشام” لامتلاكه الكثير من الموارد، وسيطرته على معبر باب الهوى، وكذلك وجود حقول للبترول في مناطقه قبل سيطرة الجبهة عليها. فيما كانت جبهة النصرة من أفقر الفصائل، ولكنها تتميز بنوعية المقاتلين وتأثيرهم في المعارك بسبب كثرة المهاجرين والعقيدة الإيمانية والقتالية لدى أفرادها.

ويعود الإخفاق في إدارة اقتصادية جبهة النصرة في المرحلة الأولى إلى استحواذ أبنائها على التجارة والاقتصاديات، بحيث يعمل المسؤولون عنها برواتب، ولذلك لم يهتم أكثرهم بتحقيق أرباح لتلك المشروعات أو الحفاظ عليها. بالإضافة إلى وجود قدر من الفساد المالي، وانتشار المحسوبية، وتحصيل مكاسب شخصية، واحتكار بعض السلع؛ مما سبَّب فوضى ضخمة وارتفاع في الأسعار وأيضًا عدم توفر لبعض السلع الرئيسية في بعض الأوقات.

 موارد جبهة النصرة (جبهة فتح الشام/هيئة تحرير الشام):

  • الدعم الخارجي خاصة بعد تأسيس غرفة الموم في الشمال والموك في الجنوب لدعم الجيش الحر. بينما توجه حوالي ٢٥% أو أكثر لجبهة النصرة، وكان هذا الدعم عينيًّا وليس نقديًّا (سلاح أو ذخيرة أو طعام ومؤن).
  • الغنائم: وتتمثل في الأراضي، ومعامل الأدوية ومصانع الغذاء وغيرها، ويجري التصرف فيها تحت إدارة هيئة الغنائم.
  • المعابر الحدودية الداخلية: حيث تأسست معابر حدودية تقسم المحرر، وتفصل بين ريف حلب الشمالي ومنطقة إدلب، وفُرِضَت رسوم بمبالغ كبيرة نسبيًّا على التجار والمعامل والمصانع.
  • الاحتطاب: وهو سلوك تورطت فيه بعض المجموعات من الغلاة التي تخللت جبهة النصرة في البدء، وقد وُجهت تلك الظاهرة داخليًّا بعد ذلك، قبل أن تتهم هيئة تحرير الشام باعتمادها لاحقًا بحق الكتائب المستقلة أو الكتائب التي فككتها الهيئة، خلال جهودها لتوحيد الفصائل وقيادة المحرر.
  •  صفقات إطلاق الرهائن الأجانب لدى الجبهة -الهيئة لاحقًا- أو التوسط في بعضها، فعلى سبيل المثال في صفقة كفريا والفوعة: وهما قريتان شيعيتان في محيط سُني كبير، وافقت الهيئة على خروج أهلها المحاربين سلميًّا بكامل عتادهم بمقابل مادي تتراوح تقديراته بين 80 إلى 300 مليون دولار.
  • وأخيرًا تبرعات المسلمين من كل مكان داخل وخارج سوريا لدعم الثورة والثوار.

آليات الهيئة لتنمية الاقتصاد

جلب قرار الأمم المتحدة باعتبار معبر باب الهوى هو المنفذ الوحيد للمحرر إنعاشًا اقتصاديًّا كبيرًا، وذلك بعد انتصار هيئة تحرير الشام في قتالها مع أحرار الشام، وسيطرتها على المعبر، حيث أصبح من أهم موارد الهيئة الاقتصادية. وكذلك سماح تركيا بحرية الاستيراد عن طريق ميناء مرسين حيث يجري استيراد غالب ما يتم استهلاكه في المحرر من الصين عن طريق تركيا أو من تركيا مثل جميع المواد الخام للمصانع، ومواد البناء خاصة الأسمنت والحديد، والأدوات الكهربائية والإلكترونية، وكذلك السيارات والأدوات الصناعية.

 وبناءً على ذلك تم اتخاذ قرار بتخصيص الاقتصاد، فعلى سبيل المثال مادة السكر يتعامل فيها عدد من التجار يحدد أحمد الشرع بنفسه أو من ينوب عنه أسماءهم في مقابل نسبة (للهيئة والضرائب والزكاة)، وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا كبيرًا في السوق الاقتصادي. كما بُنيت مدينة صناعية، ومن أهم الصناعات فيها تصدير الحجر، والصناعات الغذائية، وبعض الأدوية حيث تنتشر المعامل الدوائية، والملابس السورية.

كذلك جرى تأسيس “شركة نماء للاستثمارات بسبب كثرة حالات النصب عن طريق جمع أموال وسرقتها، كما حدث في حالة أبي ياسين المصري الذي فر بقرابة ٣٠٠ ألف دولار من أموال المستثمرين؛ وكذلك حالة اشتهرت باسم الختيار (العجوز) وكان يقدم أرباحًا هائلة من نفس أموال المستثمرين ثم اتضح أنَّه كسابقيه، وقد تسبب في أضرار بالغة وإفلاس كثير من الناس، تداركت الهيئة الموقف وصادرت ما أمكن من ممتلكاته، وحاولت تعويض الناس قدر الإمكان. ومن ثم قررت الهيئة تدشين شركة “نماء” تحت إشراف الجولاني مباشرة، وبما أنَّ هناك أموالًا يستثمرها الناس وتضيع، وتتحمل “الهيئة” نتائجها، فحماية لها وحفاظًا عليها، فتحت الشركة مجالًا للمستثمرين لشراء الأسهم حيث تعمل على تشغيلها واستثمارها مقابل أرباح تصل إلى ٣٠% سنويًّا. ومن أهم فوائد شركة نماء:

  • ربط الحاضنة الشعبية بوجود الهيئة، فكل من استثمر لدى نماء يرغب في وجود الهيئة، حتى لو كان معارضًا لها، وذلك حتى لا تضيع أمواله.
  • تحقيق أرباح كبيرة، تفوق كثيرًا نسبة المستثمرين.
  • توفير قاعدة بيانات عن حركة رؤوس الأموال في المحرر.

الهيكلية والبناء المؤسسي

مثَّلت هذه النقطة قصورًا حقيقيًّا في إدارة المناطق المحررة بسوريا في الفترة السابقة لانتصار الثورة وتحرير بقية المناطق في سوريا وصولًا إلى دمشق، فمنذ بداية جبهة فتح الشام وبعدها هيئة تحرير الشام لم توجد أي هيكلية سياسية أو بنيوية حقيقية، حتى داخل الهيكل الأساسي والقيادي، وإنما تبدأ الهيكلية والعمل المؤسسي عند بداية كل مفصل أو ملف. أما أسوأ الأمور فبرزت بملف تعاملات “الأمنيين” – كما يطلق عليهم في المحرر، غير أنَّه من المؤمل استيعاب الإدارة لتلك السلبيات والعمل على تلافيها بشكل كامل، لإدراكها الفرق بين الجماعة والدولة.

ومن أهم الخطوات التي اتخذت بعد تحرير دمشق:

من الناحية العسكرية والأمنية

  •  توزيع الفرق العسكرية على المحافظات ومراعاة توزيع المقاتلين إقليميًّا كل حسب محافظته بحيث يكونون قريبين من أهليهم، كما أنَّهم أكثر تفهمًا لظروفهم وعاداتهم وأقدر على التعامل معهم، بينما تم إبعاد الألوية والفرق العسكرية للمهاجرين وعادوا إلى بيوتهم في إدلب.
  • توزيع “القوى الأمنية” بحيث تتولى المسؤولية عن المناطق في كافة المحافظات، كما يتقلد أحد الأمنيين منصبًا يقابل منصب المحافظ، ولكنه يتسم بصفة مدنية.
  • تمت هذه التوزيعات بناءً على أبناء المنطقة، فالكوادر الحلبية ضمن الهيئة تعمل في حلب، وكذلك حمص ودير الزور وحماة وجميع المحافظات.
  • وتتبقى بعض التحديات الداخلية بشأن المهاجرين، والمجموعات أو الفصائل المسلحة خارج نطاق الهيئة، والقوى المعارضة للحراك الثوري برمته وغيرها.

من الناحية الاقتصادية

  • تركز الإدارة الجديدة على إغلاق صنبور السرقة والفساد في الدولة والذي هو من أخطر عوامل إفقارها واستنزاف مواردها، والعمل على تحسين حياة المواطن العادي وتوفير السلع وزيادة الرواتب.
  • يتجه التصور الاقتصادي العام إلى المشاريع القومية والتعاون بين الدولة ورؤوس الأموال، كاستمرار لنفس نهج حكومة “المحرر”، بالإضافة إلى جمع الضرائب من المعابر والموانئ والمطارات.

وختامًا: ينبغي التأكيد أنَّه لا توجد تجربة للحكم والإدارة تخلو من سلبيات، ولكنها في حالة إدارة الهيئة وقيادتها للمحرر وقياسًا بمميزاتها وايجابياتها، تعد الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. كما أنَّ هذا النجاح إن كان امتدادًا لفترات حكم سابقة لربما كان عاديًا أو طبيعيًّا، ولكن أن تكون هي التجربة الأولى لشباب من المقاتلين، ويمكنهم النجاح في مثل هذه الظروف؛ فهي تجربة لافتة للنظر حقيقة.

مع الإشارة إلى أنَّ أهل السنة تحديدًا وبعيدًا عن الأنظمة الوظيفية في بلادهم على الطراز العلماني الغربي؛ فإنَّه لم توجد دولة لهم على الحقيقة منذ تفكيك الخلافة العثمانية التي سقطت منذ مئة عام، كما عانت لفترة طويلة قبل ذلك ما يعانيه الرجل المريض، بينما لم تنل تجربة إسلامية أخرى فرصتها للنجاح وإثبات قدرتها على الحكم والإدارة، فتأتي مثل هذه التجربة كطفرة جديدة ربما لا مثيل لها حديثًا، اللهم إلا النموذج الوليد في أفغانستان تحت حكم طالبان وهي ما زالت تخط ملامحها الواعدة. كما نستطيع القول إنَّ تجربة إدارة المحرر قد أفادت الإدارة الثورية الجديدة لسوريا ورفدتها بخبرة لا بأس بها، بل وأعطت الدليل العملي على قدرتها على العمل والنجاح تحت الضغوط.

خالد سعيد

سياسي مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى