مقالات

قطاف العنب: كيف تتجنب سوريا الإغراق في الإشكال الحدودي مع لبنان؟

370 كيلومترًا من التضاريس الوعرة رفقة 27 نقطة مختلف عليها و12 بلدة متداخلة، هكذا يعود ملف ضبط الحدود اللبنانية-السورية إلى الواجهة من جديد، لكن على صدى القذائف وأزيز الرصاص لا التفاهمات والاتفاقيات.

ففي 16 مارس 2025، عُثر على جثامين ثلاثة من مقاتلي الجيش السوري على الحدود اللبنانية السورية، وتقول رواية وزارة الدفاع السورية أنَّهم قتلوا في اشتباك محدود مع عناصر من “حزب الله” دخلوا إلى مشارف منطقة القصير السورية من قرية “حوش السيد علي” القريبة من مدينة الهرمل في شمال شرق لبنان. لكن بيروت قدمت رواية مغايرة، حيث صرح وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى بأنَّ الضحايا 3 “مهربين” قتلوا داخل الأراضي اللبنانية وسُلمت جثثهم إلى السلطات السورية عبر الصليب الأحمر اللبناني، فيما نفى حزب الله علاقته بما حدث.

على إثر ذلك، اندلعت اشتباكات عنيفة بين القوات السورية من جهة ومسلحين لبنانيين في منطقة حوش السيد علي المتنازع عليها بين لبنان وسوريا، ورغم إعلان وزارتي الدفاع في البلدين عن وقف لإطلاق النار في 17 مارس، فإنَّ الاشتباكات استؤنفت بين الجانبين في اليوم نفسه، واستهدف الجيش اللبناني القوات السورية بالمدفعية الثقيلة “ردًا على مصادر النيران”. وفي 18 مارس، اتفق الجيشان السوري واللبناني على الانسحاب من قرية “حوش السيد علي” وضمان عودة المدنيين، ثم في 19 مارس بدأ الجيش اللبناني تنفيذ تدابير أمنية في المنطقة “لضبط الأمن على الحدود”.

رغم نفي حزب الله “نفيًا قاطعًا” أي علاقة له بمقتل الأفراد السوريين أو الاشتباكات الحاصلة هناك، أو “أي نشاط من هذا النوع داخل الأراضي السورية”، فقد نعى خلال الاشتباكات 4 من مقاتليه، هم: عبد الحاكم مدلج، وعبد الله الزين، وعلي يونس شبان، وحمزة مهدي غراب، والذين شُيعوا في منطقة الهرمل بحضور رئيس تكتل نواب بعلبك- الهرمل التابع لحزب الله النائب حسين الحاج حسن ومسؤول منطقة البقاع في الحزب حسين النمر.

أصل المشكلة

تعود جذور الخلافات الحدودية بين لبنان وسوريا إلى ما قبل إعلان استقلال البلدين في أربعينيات القرن الماضي، فلم يوقع اتفاق الترسيم النهائي بين حكومتي البلدين إلا في عام 1970 والذي أقر بوجود 27 نقطة خلافية على طول الحدود، تبدأ من أكروم اللبنانية شمالًا مرورًا بالهرمل وتنتهي بمزارع شبعا في الجنوب.

لم تكن قرية “حوش السيد علي” نفسها بلدة عامرة من قبل، بل كانت معبرًا حدوديًّا بين سوريا ولبنان، لكن التوسع العمراني على جانبي الحدود جعل منها بلدة متداخلة بين الجانبين كما هو الحال بالنسبة لـ 12 بلدة أخرى، وهو ما لم تضع له الدولتان اللبنانية والسورية حلولًا عملية إلى اليوم.

هذا التداخل وغياب الترسيم الكامل، إلى جانب تضاريس المنطقة الجبلية والواقع السياسي والأمني الذي مرت به سوريا، جعل منها أرضًا خصبة لعمليات التهريب والإتجار بالسلاح والمخدرات منذ عقود، واستغل حزب الله هذا الواقع إلى جانب تحالفه مع نظام الأسد ليشق منها طرق إمداده البرية من سوريا إلى لبنان، كما أنَّها كانت منطلق مقاتليه الذين انخرطوا في الحرب السورية إلى جانب نظام الأسد منذ عام 2013.

محاولات الضبط

عقب حرب عام 2006 بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي، سعت الولايات المتحدة للحد من موارد حزب الله وقطع طريق إمداده البري عبر سوريا، فقدمت بين عامي 2007 و2011 أكثر من 700 مليون دولار من المساعدات الأمنية للجيش اللبناني لضبط الحدود ومنع عمليات تهريب السلاح للحزب.

وفي عام 2012، بدأت بريطانيا برنامجًا بقيمة 273 مليون جنيه إسترليني لدعم الجيش اللبناني لضبط الحدود، وبناء 40 برج مراقبة على طول الحدود مع سوريا مجهزة بكاميرات مراقبة عالية الدقة يصل مداها إلى 5 كيلومترات في العمق السوري، بما يغطي الطرق الواصلة إلى حمص ودمشق والساحل السوري عبر مثلث بلدات (القصير- جوسية- قارة) السورية، ومنها إلى الهرمل وبعلبك في لبنان. لكن هذه الخطوات لم يُكتب لها النجاح، فاندلاع الثورة في سوريا وتدخل حزب الله العسكري إلى جانب النظام وما صاحبه من تضخم لنفوذه في لبنان حال دون ذلك.

لفهم واقع المنطقة بشكل أدق

ثمة جانب ضبابي فيما يتعلق بالقوى المتنفذة في منطقتي الهرمل والبقاع على الحدود مع سوريا، بيد أنَّ الفهم الصحيح قد يساعد على إيجاد حلول تجنب طرفي المشكلة تكرار الاشتباك الذي حصل.

تحتضن منطقتا الهرمل والبقاع على الحدود مع سوريا بيئة مؤيدة لحزب الله، بل إنَّ البقاع كما هو معلوم يعد الخزان البشري للحزب في لبنان. لكن غياب ضبط الحدود، إلى جانب إهمال لبنان الرسمي لتلك المنطقة في الجوانب الإنمائية والاقتصادية، دفع بسكانها منذ عقود طويلة للاعتماد على عمليات التهرب والإتجار بالممنوعات كمورد اقتصادي وحيد.

ونظرًا لهيمنة الطابع العشائري على المنطقة التي يعد معظم أهلها من الشيعة، فقد بنى حزب الله منذ تأسيسه في ثمانينيات القرن الماضي علاقات عضوية مع شبكات التهريب هناك واحتواها بما يضمن له مصلحته ويوظفها ضمن جهوده الميدانية.

لكن انخراط الحزب إلى جانب نظام بشار الأسد في سوريا أكسب شبكات التهريب هذه نفوذًا متعاظمًا، وعزز من مواردها المالية بشكل كبير، كما سمح لها بامتلاك صنوف من السلاح الثقيل وبناء علاقات مع أقطاب الفساد في نظام الأسد لتتجاوز بذلك نفوذ حزب الله.

منذ ذلك الحين، باتت شبكات التهريب تلك تشكل عبئًا على كاهل الحزب يوازي -أو يتجاوز أحيانًا- دورها الإيجابي بالنسبة له، خاصة على الصُعُد الإعلامية والاجتماعية والأمنية، محليًّا وإقليميًّا. على إثر ذلك، عمد الحزب في كثير من الأحيان لرفع الغطاء السياسي عن كثير من هذه الشبكات، لتدور منذ بضعة أعوام حرب في الظل بينها وبين اللواء السادس في الجيش اللبناني تشمل مداهمات وملاحقات مستمرة واشتباكات بعيدة عن عدسات الإعلام، بل وخُصص فرع مخابرات الجيش لمنطقة البقاع في بلدة أبلح لتأديب تجار المخدرات وعصاباتهم.

“قطاف العنب لا قتل الحارس”

بناء على ما سبق، من المهم بالنسبة للدولة السورية البناء على معلومات دقيقة بعيدًا عن الخلط الطائفي وضغط الشارع، فهل حزب الله فعلًا قتل عناصر الجيش السوري؟ وما الغاية الأمنية أو السياسية من عملية قتل كهذه؟ ثم هل الحزب متفرغ في مثل هذا الوقت لخوض حرب استنزاف على الحدود الشمالية الشرقية، وكشف تحركات كوادره ومستودعاته فيما تعمد الطائرات الإسرائيلية على استهداف أي تحرك له على كامل الجغرافيا اللبنانية؟

تمر الإدارة السورية الجديدة اليوم في مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، وتواجه منذ تمرد الساحل الأخير عصابات فلول النظام الساقط في اللاذقية وطرطوس وحمص والشام، كما تعالج دعوات انفصالية في السويداء من جهة ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى. وأمام هذا الواقع المعقد والحمل الثقيل، وفي ظل محدودية الموارد البشرية والمادية، تبرز أهمية تقديم لغة التفاهمات التي تحقق المصلحة المرجوة على لغة الصدام العسكري التي قد تؤجج النزاعات ولا تحلها، وتغرق الجيش السوري الجديد في مستنقع أزمات الحدود التي تعجز الدول المتجذرة على معالجتها.

إنَّ المناطق الحدودية تُعدُّ مصدر ضعف دائم للدولة التي تواجه محاولات التمرد مهما كانت هياكلها الإدارية والأمنية والعسكرية متينة، وعادة ما يستغل المتمردون ميزة المناطق الحدودية المضطربة في المراحل الأولى لتمردهم لتأمين الغطاء والموارد اللازمين. لذلك، فإنَّ إشعال الحدود مع لبنان في ضوء المعطيات المذكورة أعلاه من شأنه أن يستنزف الدولة السورية ويعزز من أنشطة فلول النظام والمتربصين بها، بينما يمكن إيجاد صيغة لتسكين هذه الأزمة والسعي لحلها عبر تفاهمات معينة على الصعيدين الرسمي ودون الرسمي مع الجانب اللبناني.

إنَّ الدول التي تمتلك حدودًا مشتركة مع عدة دول بحاجة لضبط هذه الحدود بعيدًا عن أي أزمات مع الجانب الآخر، حيث تفت الأزمات الحدودية في عضد الدولة وتنعش المتربصين بها، فيما لم تُجد الخيارات العسكرية لحل هذا النوع من الأزمات في معظم الحالات المماثلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى