خيارات إندونيسيا في لعبة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين

 تمتعت الشيوعية بقدرة على جذب من يعتقدون بإمكانية تشكيل فردوس أرضي. وأسرت القلوب والعقول في العديد من الأماكن، بدءًا من إندونيسيا في جنوب شرق آسيا إلى الولايات المتحدة نفسها. ومع ذلك، تمكنت الولايات المتحدة بقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية الكبيرة من التغلب على تلك التحديات.

لقد ظلت الولايات المتحدة في أغلب حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي القوة العظمى الأولى عالميًّا. وتمكنت من كبح انتشار الشيوعية وصولًا إلى هزيمتها، وهو الأمر الذي جعل لعبة «القوى العظمى» يعفو عليها الزمن، على الأقل مؤقتًا. حتى أنَّ الصين الشيوعية على وجه التحديد، اضطرت إلى تعديل نظامها الاقتصادي ليتوافق مع النظام الرأسمالي بدعم استراتيجي وتعاون من الولايات المتحدة، وهي حاليًّا ثاني أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي.

 ما الذي دفع واشنطن وبكين إلى الصراع ضد بعضهما البعض؟

هناك قول مأثور في بلاد فارس يقول إنَّ “سجادة واحدة كبيرة بما يكفي لاستيعاب رجلين من رجال الدين، لكن سجادة واحدة ليست كبيرة بما يكفي لاستيعاب ملكين”.

 لقد أصبحت الصين، في ظل مكانتها كقوة عظمى ناشئة، نظرًا لقوتها الاقتصادية الهائلة، أكثر حزمًا على الساحة الدولية. وليس من المتوقع أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في ثلاثينيات القرن الحالي فحسب، بل من المتوقع أيضًا أن تصبح قوة سياسية وعسكرية تحل محل الاتحاد الأوروبي كقوة عظمى أو حتى الولايات المتحدة نفسها. وهو ما يخلق احتكاكات بين القوتين العالميتين.

 إنَّ بعض القضايا مثل حقوق الملكية الفكرية، والعقوبات، والتعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، والخطاب حول “المحور الآسيوي” الذي تبنته إدارة أوباما، هي أدلة على لعبة القوة هذه، مما يُلزم العديد من الدول باختيار القوى العظمى التي تريد التقرب منها. وفي حالة إندونيسيا، باعتبارها قوة إقليمية في محيطها الجغرافي، فإنَّ سياساتها الداخلية واستقرارها يرتبطان بتلك المنافسة.

فمنذ وصول إدارة جوكو ويدودو بقيادة حزب النضال الإندونيسي إلى السلطة في عام 2014، أتاحت إندونيسيا موادها الخام ومواردها التعدينية أمام الصين بينما وضعت سياسات تقلل بشكل أساسي من نفوذ الولايات المتحدة في البلاد، مثل شراء غالبية الأسهم الأمريكية في شركة فريبورت للتعدين ومنع تصدير المواد الخام إلى خارج البلاد، وهي ممارسة شائعة في الشركات الغربية. كما أقامت علاقات تجارية أوثق مع الصين.

ومع ذلك، فإنَّ العديد من تكتلات الأعمال في إندونيسيا لا تزال تتمتع بتوجه غربي في نظرتها العالمية، ويواصل جيشها القوي إقامة علاقات وثيقة للغاية مع الولايات المتحدة والعالم الغربي الأوسع، كما يتضح من التدريبات العسكرية التي تجريها جاكرتا فقط مع الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وأستراليا، وشرائها للمعدات العسكرية عادة من دول حلف الناتو.

وفي السياق الإقليمي أيضًا، اختار شركاء إندونيسيا في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وبالأخص فيتنام، والفلبين، الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، في ظل خشيتهما من تغلغل نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي. ويتجلى ذلك في استثمار شركة أبل الضخم في فيتنام، والاتفاقيات العسكرية وغير العسكرية العديدة التي أبرمتها الفلبين مع الولايات المتحدة. وحتى اليابان، فهي دولة صاحبة مصلحة في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، قد وقفت بثبات إلى جانب الولايات المتحدة، ووُصفت بأنَّها شريك جديد في تحالف أوكوس، الذي يضم أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة. لذا، من هو الطرف الذي ينبغي لإندونيسيا أن تختاره؟

 لدى إندونيسيا عدة خيارات في هذا الصدد. الأول هو الوقوف إلى جانب الصين. إذ تتمتع إندونيسيا بعلاقات اقتصادية عميقة مع بكين. فحجم تجارتها الثنائية مع الصين هو الأضخم، وتستمر صادراتها إلى الصين في النمو بشكل كبير، في تجارة مربحة بشكل متزايد.

توجد في إندونيسيا جالية صينية كبيرة مهاجرة، تُوصف بأنَّها تشكل النخبة الاقتصادية في البلاد. ويمكن أن تلعب تلك الجالية دور الجسر الثقافي والاقتصادي والدبلوماسي بين البلدين. كما يصف العديد من قادة الرأي الإندونيسيين علاقة بلادهم مع الغرب بأنَّها استغلالية، ويعتبرون أنَّ الدخول في فلك الصين يمكن أن يقلل من هذا الاستغلال. ومع تزايد الميول الليبرالية الاجتماعية في الغرب، تستطيع إندونيسيا أن تحمي نزعتها المحافظة من خلال الانحياز إلى الصين، الدولة المحافظة اجتماعيًّا.

 وأخيرًا، فصعود الصين يكفل لبكين المزيد من الهيمنة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والمزيد من النفوذ في الصناديق الضخمة في إندونيسيا المتعطشة للاستثمار، وبالتالي يصبح من المفيد لإندونيسيا أن تصبح حليفًا مبكرًا للصين مما يكفل لجاكرتا أن تصبح قوة مهيمنة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

أما الخيار الثاني فهو الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة. فقد دارت إندونيسيا تقليديًّا في الفلك الأمريكي حتى تولت إدارة ويدودو المسؤولية في عام 2014. فباعتبارها دولة ديمقراطية، تتمتع إندونيسيا بقيم مشتركة أكثر مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنَّ المؤشرات الاقتصادية تظهر بوضوح أنَّه من المفيد التعاون مع الصين، فإنَّ الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بمزيد من القوة والنفوذ عندما يتعلق الأمر بالسياسة والدبلوماسية والمؤشرات العسكرية وغيرها، وحتى النماذج التعليمية الإندونيسية لا تزال تتبع التعليم على النمط الغربي.

لقد أنشأت الولايات المتحدة أيضًا شراكات أمنية إقليمية مثل تحالف أوكوس العسكري بين ثلاث دول ناطقة باللغة الإنجليزية هي أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، والتحالف الرباعي بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة للهيمنة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقد اعتبر العديد من النقاد أنَّ إندونيسيا أكثر عرضة للاستغلال من قبل الصين منذ وصول ويدودو إلى السلطة، مع حصول النخبة الحاكمة على فوائد اقتصادية، ومع تزايد عدوانية الصين خاصة في بحر الصين الجنوبي المتاخم، قد تميل إندونيسيا إلى الحصول على دعم من الولايات المتحدة كشريك لها.

الخيار الثالث هو البقاء خارج ألعاب القوة تلك. تُعدُّ إندونيسيا دولة ذات موقع استراتيجي للغاية، حيث تطل على محيطين، وتمثل حاجزًا جغرافيًّا مباشرًا بين الصين وأستراليا، ويبلغ اقتصادها تريليون دولار، وعدد سكانها يقترب من 300 مليون نسمة. كما أنَّ جيشها ضخم أيضًا، وهي بمثابة باب إلى العديد من التحالفات من الدرجة الثانية، بدءًا من رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) إلى منظمة التعاون الإسلامي (الكتلة الإسلامية). كما أنَّ لديها حكومة جديدة مقبلة، وقد أعلن ائتلافها الحاكم (على الأقل ظاهريًّا) أنَّه أقرب إلى الصين، ولكنه فتح أبوابه أيضًا أمام الكتلة الغربية. وهذا ما يميز توجهها الدولي عن الحكومة السابقة التي قادها حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي.

 يمكن أن تكون إندونيسيا بمثابة جسر بين واشنطن وبكين. ومع ذلك، فإنَّ هذا الخيار ينطوي على مخاطر استراتيجية. ففي حالة نشوب حرب، فستتمزق في جوانب مختلفة بين هاتين القوتين العظميين الكبيرتين، وكل منهما تريد أن تقف إندونيسيا إلى جانبها. وإذا رأت حكومة إندونيسيا القادمة أنَّ الحرب مقبلة، فلزامًا عليها أن تقرر أي قوة عظمى تريد أن تقف إلى جانبها، سواء علنًا أم سرًا.

الخيار الرابع هو تقليد النهج الذي اتبعته سيريمافو باندارانايكا، رئيسة وزراء سريلانكا أثناء الحرب الباردة. لقد حرضت الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ضد بعضهما البعض، وانتزعت بدورها تنازلات لبلدها. وبينما يبدو هذا النهج خبيثًا وغير مرغوب فيه، يجب أن نتذكر أنَّه في واقع السياسة لا توجد أخلاق، خاصة على الساحة الدولية.

تقيم إندونيسيا علاقات عسكرية وأمنية وثيقة مع الولايات المتحدة، وقد أظهرت جاكرتا مؤخرًا التزامًا بشراء طائرات مقاتلة أمريكية الصنع من طراز إف-15 وطائرات هليكوبتر طراز سيكورسكي بلاك هوك، ومن ناحية أخرى، توفر الصين لجاكرتا احتياجات مالية لتطوير البنية التحتية الهائلة لرابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، والدولة الإسلامية الأكثر اكتظاظًا بالسكان، واقتصادها البالغ 1.5 تريليون دولار هو الأكبر في جنوب شرق آسيا، مما يضع إندونيسيا كقوة إقليمية رئيسية تواجه بيئة استراتيجية معقدة وديناميكية.

وفي هذا الصدد، تعمل إندونيسيا على موازنة دقيقة لاستقلالها الاستراتيجي من خلال الحفاظ على مصالحها الوطنية عبر تجنب الانحياز إلى أي طرف في لعبة القوى العظمى، وتناور بعناية في منطقة ذات أهمية استراتيجية في جنوب شرق آسيا حيث تتنافس الولايات المتحدة والصين على النفوذ فيها.

إنَّ إندونيسيا هي الحالة الأكثر ملاءمة للانضمام إلى مجموعة البريكس الموسعة، وقد فاجأت العديد من المراقبين عندما لم يكن اسمها موجودًا بين الدول الستة – الأرجنتين والسعودية ومصر والإمارات وإيران وإثيوبيا – التي اختيرت من بين 23 دولة تقدمت بطلبات للانضمام إلى مجموعة البريكس.

لقد حاولت إندونيسيا الحفاظ على تقاليد سياستها الخارجية المتمثلة في عدم الانحياز. وعلى الرغم من أنَّها ترتبط ارتباطًا اقتصاديًّا وثيقًا بالصين، فإنَّ صناع السياسات يعتقدون أنَّ السياسة الصينية لتوسيع البريكس قد تعني بناء كتلة في عصر الحرب الباردة الجديدة، وسوف ينظر إلى الانضمام إلى البريكس في الغرب باعتباره إشارة للتأرجح نحو المعسكر الصيني. وبما أنَّه من المقرر أن يحل وزير الدفاع برابوو سوبيانتو محل جوكو ويدودو كرئيس جديد لإندونيسيا، فهناك طمأنينة بأنَّ الإدارة الجديدة ستواصل نفس سياسات عدم الانحياز، باعتبارها تتماشى مع رؤية إندونيسيا 2045 .