
يقول المثل: “إذا أردت أن تفهم صمت العدو، فاسأل الأرض التي يمشي فوقها”
بينما تمتلئ سماء الجنوب السوري بطائرات الاستطلاع الإسرائيلية، وتشتعل أطراف القنيطرة بتوغلات خاطفة، تبقى التصريحات الرسمية متحفظة، والتقارير الدبلوماسية مبهمة.
في سوريا الجديدة، لا يبدو أنَّ الحرب مع إسرائيل انتهت، لكنها حتمًا تغيّرت. فما الذي يجري فعلًا بين دمشق وتل أبيب؟ وهل يمكن أن تتحول حدود الدم إلى حدود تفاهم، ولو بالهمس؟
الغارات بدل الرسائل
منذ بداية عام 2025، لم تمرّ عشرة أيام دون تسجيل توغل إسرائيلي في الجنوب السوري أو غارة على منشآت يُشتبه بارتباطها بتصنيع أو نقل أسلحة. وبحسب تقارير يومية، فإنَّ الجيش الإسرائيلي توغل أكثر من 7 مرات في محيط القنيطرة فقط بين مارس ومايو. واستُهدف مواقع في ريف جبلة وطرطوس واللاذقية، بحجج تتعلق بصواريخ بحرية تهدد أمن الملاحة.
لكن اللافت هذه المرة أنَّ دمشق لم تكتفِ بالاحتجاجات الدبلوماسية، بل دخلت في مفاوضات غير مباشرة عبر قنوات تركية وأوروبية، تمحورت حول تجديد اتفاق فض الاشتباك الموقع عام 1974. فهل يعني ذلك نهاية التصعيد؟ أم أنَّ إسرائيل تسعى إلى فرض معادلة ردع جديد تتناسب مع المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة؟
التهدئة المستترة
تؤكد التقارير أنَّ لقاءات أمنية عقدت فعليًّا بين ممثلين عن الحكومة السورية الجديدة وإسرائيل برعاية تركية، ناقشت قضايا تتعلق بالدروز، ومخاوف إسرائيل من الحضور الإيراني، وضبط قواعد الاشتباك جنوبًا. ووصف بعض المسؤولين الإسرائيليين هذه اللقاءات بأنَّها “إيجابية”، واعتبروا أنَّ إدارة الرئيس السوري أحمد الشرع “قدّمت بوادر حسن نية”.
في المقابل، يُصرّ الخطاب الرسمي السوري على أنَّ السيادة غير قابلة للمساومة، وأنَّ أي تفاهم لا يعني تخليًا عن الحقوق التاريخية. لكن واقع الحال يقول شيئًا آخر: لا سفارات ولا صواريخ… فقط صمت ثقيل وتوغلات دون رد عليها. فهل تتجه دمشق إلى نموذج “الردع السلبي”، كما فعلت حكومات عربية أخرى؟ أم أنَّ هذا الهدوء المؤقت يسبق عاصفة تعيد ترتيب أوراق القوة؟
ترامب يتدخل في المشهد
لم يكن لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأمريكي ترامب في أنقرة مجرد صورة عابرة في قاعة مغلقة، بل مثّل منعطفًا حاسمًا في هندسة التوازنات الإقليمية، وعلى رأسها العلاقة مع إسرائيل. فقد تسرّبت معلومات عن اتفاق أمريكي–سوري جديد تضمن بنودًا أمنية غير معلنة، من بينها “ضبط السلوك الجوي في الجنوب السوري” و”تنسيق استباقي للحوادث الحدودية”، وهي إشارات فُهم منها أنَّ واشنطن تسعى إلى تجميد الاشتباك بين دمشق وتل أبيب دون إعلان هدنة صريحة.
في ظل هذا الاتفاق، شهدت الجبهة الجنوبية انخفاضًا ملحوظًا في وتيرة الغارات الإسرائيلية، بينما غابت التصريحات النارية من الطرفين، وكأن المشهد عاد إلى سياسة “اللا حرب–واللا سِلم”، ولكن بصيغة أكثر تعقيدًا. لم تُفتح سفارات، ولم تُرفع رايات، لكن لغة الميدان تغيّرت، وتحوّلت إسرائيل من “العدو الأبدي” إلى “الجار الصامت” الذي يُراقب ويُهدد، ويهاجم أحيانًا، ولكن بوتيرة أقل. فهل نحن أمام تهدئة بإشراف أمريكي؟
مهما كانت الإجابة، فإنَّ الاتفاق مع واشنطن، ولقاء الشرع–ترامب، وضع العلاقة مع إسرائيل على سكة جديدة: سكة لا تمرّ بالمقاومة، ولا تنتهي عند السلام.
سيناريوهات المستقبل
في ضوء التوتر المزمن والمفاوضات المتقطعة، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل العلاقات السورية الإسرائيلية:
- المساكنة الأمنية دون اعتراف سياسي: فقد يستمر التنسيق الأمني غير المعلن، ويُجدد اتفاق فض الاشتباك، مع بقاء العلاقات في الظل. هذا النموذج يتيح لإسرائيل ضبط النفوذ الإيراني، ويمنح دمشق متنفسًا لإعادة الإعمار دون استفزاز محور المقاومة.
- التطبيع الرمزي تحت سقف تركي-أمريكي: مع تعمّق الشراكة الثلاثية (سوريا – تركيا – أمريكا)، وبدء مشاريع كبرى في الطاقة والبنية التحتية، قد يُدفع النظام الجديد إلى تقديم “إشارات” تطبيعية مقابل تدفق الاستثمارات. هذا السيناريو محفوف بالمخاطر السياسية داخل سوريا، لكنه وارد.
- الانفجار المحكوم: تصعيد محدود يعيد ترسيم قواعد الاشتباك، فإذا فشلت المفاوضات غير المعلنة أو وقع تصعيد ميداني في الجنوب، قد تتدهور الأمور إلى مواجهة محدودة، تُستخدم فيها القوة لا لتغيير النظام، بل لتثبيت الخطوط الحمراء من جديد.
شبح الجولان في قصر الشعب
ليس من السهل أن تبدأ سوريا الجديدة علاقتها الدولية من ملف بحجم إسرائيل. ولا من الحكمة أن تضع الحكومة الانتقالية ملفًا بهذا التعقيد على الطاولة قبل تثبيت أعمدتها داخليًّا.
لكن المؤكد أنَّ تل أبيب -وهي تسيطر عسكريًّا واستخباريًّا على جنوب سوريا- ليست في عجلة من أمرها… إنَّها تنتظر دمشق أن تحسم أمرها، ثم تسألها: أين تضعون الجولان في الرؤية الجديدة؟ وربما يكون السؤال… لا بالبرقيات، بل في عدد الغارات الشهرية.
لكن ما الذي يمكن للحكومة السورية أن تفعله في هذه الحال؟
أولًا: الخطاب ينبغي أن يحافظ على سيادة سوريا ورفض الاحتلال، دون التورط في مزايدة بالشعارات أو تصعيد غير محسوب. فالمعادلة المطلوبة اليوم ليست في إعلان العداء المطلق، ولا في الوقوع في فخ التطبيع العاطفي، بل في إنتاج خطاب سيادي عقلاني، يراعي التوازن بين الداخل والخارج، ويترك الباب مواربًا أمام خيارات متنوعة.
ثانيًا: إبقاء ملف العلاقة مع إسرائيل تحت السيادة الوطنية وحدها، وألا يُدار عبر تسويات جانبية مع أطراف ثالثة؛ لأنَّ ذلك يُضعف موقف سوريا التفاوضي، ويفتح المجال أمام صفقات تتجاوز إرادة الشعب.
ثالثًا: المبادرة إلى ضبط الجنوب السوري أمنيًّا بشكل مستقل، بما يُغني عن التدخل الإسرائيلي بحجة محاربة إيران أو التنظيمات المتطرفة، وذلك عبر تسوية واقعية مع الفواعل المحليين، ونشر قوات منضبطة قادرة على إدارة ملف الحدود دون استدعاء الغارات.
رابعًا: يمكن استخدام الزخم الدولي، خاصة من واشنطن وأوروبا، للضغط على إسرائيل بهدف تثبيت اتفاق جديد لفض الاشتباك، وتوسيع دور قوات الأمم المتحدة، بما يعيد شكلًا من الحماية القانونية لجنوب سوريا ويقلل من الهجمات.
خامسًا: يجب التمييز بدقة بين ضبط الاشتباك الميداني لأغراض السيادة، وبين التطبيع السياسي الذي يحتاج إلى حوار مجتمعي وشرعية داخلية راسخة، خصوصًا في ظل ذاكرة الحرب، وتاريخ الاحتلال، وملف الجولان المفتوح.
وأخيرًا؛ فإنَّ التهدئة مع إسرائيل ليست خيارًا ضعيفًا، لكنها تحتاج إلى قوة في التفاوض، وذكاء في التوقيت، وشفافية في الداخل. فبين شعار “المقاومة” وصيغة “السلام”، تقف سوريا اليوم على عتبة جديدة، حيث يجب أن تُعيد تعريف موقعها الإقليمي كشريك سيادي لا كطرف تابع، وكقوة عقلانية لا كجدار صامت.