استراتيجيمقالات

حل الدولتين والمقاومة: الوهم الزائف والخيار الصعب

ظل مفهوم “حل الدولتين” محورًا رئيسيًّا في محاولات حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي منذ إبرام اتفاق أوسلو عام 1993 حتى اليوم، حيث بدا الحل حينها براقًا، وأعطى بصيصًا من الأمل للفلسطينيين في إمكانية حصولهم على حق تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم على حدود 1967، من خلال النضال السلمي التفاوضي، بعد عقود من النضال المسلح.

هذه الفكرة التي جرى تداولها على مر العقود الماضية، وبالرغم من تقديمها كحل سياسي جذاب، فإنَّها في جوهرها لم تتجاوز كونها تصورًا مثاليًّا بعيدًا عن الواقع ومعقدًا وصعب التطبيق.

فقد برهنت التحديات المتنامية على الأرض والتي تراكمت عامًا تلو الآخر، سواءً في الجانب الجغرافي أو الأمني أو الديموغرافي، على أنَّ حل الدولتين لم يكن فقط تصورًا مثاليًّا، بل إنَّه ومنذ اليوم الأول لطرحه لم يعدو كونه وهمًا زائفًا تداولته المحافل الدولية في إطار سياسة العصا والجزرة. حيث كان الهدف منه ذر الرماد في أعين الفلسطينيين، وإخماد شعلة مقاومتهم مؤقتًا، لحين يتمكن الاحتلال من تدجين الجيل المقاوم وسلبه إرادته ثم السيطرة عليه بمرور الوقت. وهدف المخطط إلى تهيئة الظروف لبناء جيل جديد لا يعتنق أفكار الآباء ولا يؤمن بمسارهم.

 سأتناول الأسباب الجوهرية التي تجعل من حل الدولتين تصورًا غير قابل للتنفيذ. وسأناقش الأبعاد الأمنية التي تهدد وجود الاحتلال، بالإضافة إلى التعقيدات الجغرافية والديموغرافية التي جعلت الضفة الغربية بؤرة نزاع دائمًا، بل وغير قابلة للتقسيم سواءً على الأرض أو حتى في إطار رسم الحدود على الخرائط. كما سأسلط الضوء على التحديات الأيديولوجية التي تجعل فكرة حل الدولتين غير مقبولة، ليس فقط من طرف الفلسطينيين، ولكن أيضًا من طرف الصهاينة أنفسهم الذين يعتبرون أنَّ هذه الأراضي تمثل جزءًا من هُويتهم التاريخية والدينية.

العقبات والمعوقات

أولًا: البعد الأمني والعسكري:

لن نبالغ إذا قلنا إنَّ تصور حل الدولتين يُمثل تهديدًا وجوديًّا للاحتلال، وهذا الرأي تتفق عليه العديد من التيارات السياسية الصهيونية، من أقصى اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار القومي. وتكمن خطورة هذه الفكرة في أنَّها تقوض العمق الدفاعي لدولة الاحتلال، وهو العمق الذي يُعد محدودًا حتى في الوضع الراهن، مما يهدد أمن الدولة العبرية. ففي الوقت الحالي، تحد دولة الاحتلال مباشرة من الجهة الشرقية دولة الأردن، والتي تجمعها بنظامها، علاقات استراتيجية حيوية يمكن وصفها بأنَّها علاقات “ارتباط سببية” تتعلق بالوجود والمصير دون أدنى مبالغة. ويسمح هذا الوضع للاحتلال الإسرائيلي باستخدام منطقة الأغوار غرب نهر الأردن، إلى جانب الضفة الغربية الممتدة غربها، كمنطقة عازلة وخط دفاع أول ضد أي تهديد محتمل على قلب ومركز دولة الاحتلال.

وتصور حل الدولتين سيغير هذا الواقع القائم، ليجعل على حدود الاحتلال، دولة فلسطينية يقدر عدد سكانها بحوالي 3 مليون نسمة. هؤلاء الفلسطينيون سيكونون متصلين ديموغرافيًّا وجغرافيًّا مع الأردن الذي يسكنه نحو 6 ملايين مواطن من أصول فلسطينية، أي أنَّه ستكون لدينا كتلة فلسطينية يقدر عددها بـ 9 ملايين شخص تجمع العديد منهم أواصر عائلية بفلسطينيين داخل الخط الأخضر (أراضي 48)، وعلى مقربة من تل أبيب.

فغزة التي تحدها مصر بشريط حدودي قصير، ولا يوجد لها امتداد ديموغرافي داخلها، استطاعت أن تسلح نفسها بالكامل من خلال عمليات التهريب عبر شريط حدودي متناهي الصغر يبلغ 14 كيلومترًا، لتصبح كابوسًا على العدو كما رأينا في السابع من أكتوبر، فهل يعقل أنَّ الاحتلال سيسلم الضفة بأكملها للفلسطينيين؟

ثانيًا: البعد الجغرافي والديموغرافي:

من الناحية الجغرافية والديموغرافية، أصبح حل الدولتين منذ فترة طويلة غير قابل للتطبيق عمليًّا، وتكمن المشكلة الكبرى في تسارع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية منذ اتفاق أوسلو حتى اليوم. هذا الاستيطان حوَّل الضفة الغربية إلى منطقة مقطعة الأوصال مليئة بعشرات المستوطنات الكبيرة والمتوسطة إلى جانب المئات من البؤر الاستيطانية الصغيرة. فالناظر إلى خريطة الضفة الغربية وانتشار المستوطنات فيها، يجدها أشبه ما تكون بقماشة بالية مليئة بالثقوب السوداء، مما يجعل أي تصور لحل الدولتين، حتى ولو من خلال التوجه نحو تقسيم أراضي الضفة بين الفلسطينيين والاحتلال، أمرًا مستحيلًا.

فضلًا عن ذلك، إذا نظرنا إلى الخرائط الموجودة على موقع “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة” المعروف بالـ “OCHA”، والتي تظهر الوضع القائم حاليًّا، سنكتشف أنَّ العديد من المستوطنات في الضفة قد تحولت إلى مدن كبيرة، مثل مستوطنات “كريات أربع” و”موديعين عيليت” و”بيتار عيليت” و”معاليه أدوميم” و”أريئيل”. فهي لم تعد مجرد كانتونات كما يظن البعض، بل أصبحت مدنًا استيطانية معقدة يصعب إعادة ترحيل سكانها بسهولة. فعلى سبيل المثال، مستوطنة “معاليه أدوميم”، تبلغ مساحتها ضعف مساحة مدينة بيروت، وهو ما يجعل من فكرة الترحيل الطوعي للمستوطنين أمرًا غير واقعي أو عملي. وهذه المستوطنات، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 700 ألف مستوطن، تمثل حوالي ربع عدد الفلسطينيين في الضفة، ما يؤكد أنَّه من المستحيل تصور حل الدولتين في ظل الوضع القائم.

هذه الحقائق يدركها الأمريكيون والاحتلال الإسرائيلي جيدًا ويفهمونها تمام الفهم. ولهذا السبب، يقدمون حلولًا نهائية غير عملية وشديدة التطرف والإجحاف مثل تلك التي يطرحها ترامب، لأنَّها بالنسبة لهم حلول سهلة التنفيذ، حتى وإن كانت تحمل طابعًا استعماريًّا يشبه ما كان سائدًا قبل الحرب العالمية الثانية.

مستوطنة كريات أربع

ثالثًا: البعد الأيديولوجي

تُعدُّ الضفة الغربية في الوجدان اليهودي أرضًا مقدسة وأرض الميعاد، ما يجعل من المستحيل لأي حل سلمي أن يمر دون أن يواجه مقاومة شديدة من طرف الإسرائيليين المتدينين والقوميين. فهؤلاء تمثل الضفة الغربية بالنسبة لهم “يهودا والسامرة”، وهو اسم تاريخي يعكس ارتباطهم الأيديولوجي العميق بالأرض. حتى أراضي 48 لا تمثل أهمية بالنسبة للكثير من اليهود المتدينين، الذين يعدون الضفة الغربية خطًا أحمر يجب الحفاظ عليها بأي ثمن.

بُعد آخر مهم، وهو أنَّ معظم المستوطنين الذين هاجروا إلى إسرائيل قادمون من دول مثل أمريكا وأوروبا، جاؤوا بالأساس للاستقرار في الضفة الغربية. هؤلاء كافتراض جدلي، في حال طُلِبَ منهم مغادرة الضفة، فإنَّ كثيرًا منهم من غير المرجح أن ينتقلوا للاستقرار داخل الخط الأخضر، بل الأكثر ترجيحًا أن يعودوا إلى بلدانهم الأصلية. وهذا يعني أنَّ الاحتلال سيفقد حينها حوالي 10% من تعداد سكانه.

أيضًا، فاليهود الحريديم الذين يقطن الغالبية العظمى منهم الضفة الغربية، يمثلون نحو 10% من سكان دولة الاحتلال، وهم الأكثر إنجابًا، وبالتالي يُعدون ذخرًا مستقبليًّا للوجود اليهودي في المنطقة. وفي حال استمر معدل الإنجاب بهذا الشكل، فمن المتوقع أن تصل نسبتهم إلى 30% من السكان في غضون 15 عامًا وفق تقديرات دولة الاحتلال.

النتيجة

فحل الدولتين لا يعدو كونه كما ذكرنا “تصور واهم زائف” لا علاقة له بالواقع من قريب أو بعيد، ومن يطرحه إما غارق في الجهل بحقيقة الواقع، أو مخادع يضلل الآخرين لمآرب أخرى لا علاقة لها بتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة أو إعلان دولة فلسطينية ذات سيادة، مآرب تحقق مصالح الاحتلال وحلفائه.

الخيار الصعب

وعليه، وبعيدًا عن المواقف الفكرية والأيديولوجية، ومن ناحية واقعية بحتة، فإنَّ أي إنسان عاقل يمتلك القدر الكافي من الخبرة والفهم لمعضلة القضية الفلسطينية وطبيعة المشهد على الأرض، لن يجد أمامه خيارًا آخر عمليًّا نتيجته النهائية قادرة على جعل التكلفة المدفوعة مقبولة، رغم قسوتها وصعوبتها، إلا خيار المقاومة بكل أشكالها، الشعبية والمسلحة.

فالمقاومة هي الوسيلة الوحيدة التي قد تجبر المستوطنين على مغادرة الأرض، بسبب استحالة مغادرتهم طواعية نتيجة العقبات الجغرافية والديموغرافية والأيديولوجية التي ذكرناها سابقًا. وفي هذه الحالة، قد يبقى الاحتلال العسكري قائمًا، لكنه سيخسر ثقله الديموغرافي في الضفة، وهو ما يعني فتح الباب أمام المقاومة للانتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع مع الاحتلال، قد تحظى فيها بمشروعية جديدة، وربما تجد لها فيها داعمين من الخارج.

هنا فقط، يمكن الادعاء أنَّ “حل الدولتين “من الممكن” أن يتحول إلى تصور واقعي قابل للتنفيذ من الناحية الجغرافية والديموغرافية، ولكن بالقوة ومن خلال فرض الإرادة على الاحتلال.

قد يبدو هذا المسار للبعض بمثابة ضرب من الجنون، ولكن كل مشاريع التحرر التي نجحت، بدت في بدايتها صعبة النجاح وحالمة، لأنَّ مجرد فكرة خوض صراع مع المحتل في معركة غير متكافئة، في حد ذاتها ليست إلا ضربًا من الجنون.

ولكن حفنة من البسطاء ذوي الإرادة والنفوس الأبية العزيزة، أبوا إلا أن يتقدموا ليناجزوا أعداءً يفوقونهم عدةً وعتادًا وقوةً ونفوذًا، فآلموهم وألموا، وأثخنوا فيهم وأوذوا، غنموا منهم وخسروا، حتى كانت لهم الغلبة عليهم بمجموع الجهد المتواصل والفعل المتراكم. فهذه هي طبيعة الحياة، لا تؤخذ إلا غلابًا.

حسام الدين عبد الكريم

مهندس وخبير في تحليل البيانات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى