سياسيمقالات

جدلية مصطلح الكيان السني

في عالم الحروب، “اللغم المغلَّف” و”السلاح المنفوخ” تكتيكان رائجان جدًّا.

 تستخدم الجيوش اللغم المغلف لإيقاع العدو من خلال تفخيخ الأدوات المنزلية أو المعدات التي لا تثير الريبة، ليقترب منها دون أن يشعر، فإذا حركها انفجرت في وجهه.  أما السلاح المنفوخ فهو سلاح مزيف، عبارة عن إطار منفوخ بالهواء يظهر على شكل دبابة أو عربة ليستدرج طائرات العدو ويستنزف صواريخها.

وفي عالم الإعلام، هناك ألغام مغلفة وأسلحة منفوخة أيضًا، لكنها من نوع آخر، إنَّها من المصطلحات والكلمات.

قد يكون المصطلح في ظاهره جميلًا لكنه مقترن بمعانٍ سلبية في أذهان الناس، بمجرد ذكرها تنفجر تلك المعاني في عقول الجماهير. وهناك مصطلحات مثل السلاح المنفوخ؛ قد تكون بلا معنى في ذاتها، فلا يهدف منها قائلها إلا حشدَ الجماهير واستدراجهم استغلالًا لعواطفهم.

انظر مثلًا كيف تستخدم إيران مصطلحي الإسلام والمقاومة، فلا تسمع من رموزها من يقول إنَّه يريد بناء كيان شيعي أو محاربة السنة، قد تجد ذلك في التصريحات ما دون الإعلام الرسمي، لكنك نادرًا ما تسمعه على لسان المسؤولين.

فلماذا تخوض إيران معركتها الإعلامية باسم الإسلام والمقاومة بينما تخفي هويتها الشيعية؟

إنَّها باختصار تَحذرُ المصطلحات الملغَّمة التي تثير عداء العالم الإسلامي، وتحرص على استخدام المصطلحات المنفوخة التي تستثير عواطفهم لصالحها.

يمكنك قول نفس الشيء على بشار الأسد، فمتى قال الأسد إنَّه يريد بناء كيان نصيري؟ ومتى قال إنَّه يعادي السنة؟ لم نسمع منه ذلك قط، لماذا؟ لأنَّه أيضًا يبتعد عن المصطلحات الملغمة التي قد تستفزُّ معظم الشعب السوري وتثير عليه عداوات من الخارج، إنَّ الأسد يقيم نظامًا طائفيًّا فجًا بيد من حديد، في الوقت نفسه يرفع في يده الأخرى أعلام الانتماء للإسلام لا للفِرقة، وللوطن لا للطائفة.

في صورة مقابلة، عادة ما تخسر العديد من الحركات الإسلامية جمهورها بسبب الإصرار على استخدام مصطلحات ملغَّمة في خطابها الإعلامي. ورغم أنَّ معركة الإعلام لا تخضع لنفس قواعد التأصيل الشرعي؛ فإنَّ بعضها يبالغ في مخاطبة الجماهير بالمصطلحات الدينية، وكثيرًا ما ينفِّر ذلك عنهم الناس ويستعدي عليهم الدول.

والقاعدة في الخطاب الإعلامي سهلة يسيرة: المصطلح المناسب للجمهور المناسب. 

فهل “الكيان السني” مصطلح مناسب؟ أو قبل ذلك يجب أن نسأل: من جمهوره المناسب؟

بادئ الأمر، إن كانت كلمة “الكيان السني” موجَّهة للجبهة الداخلية وجمهور الثورة، فلا شكَّ أنَّها مناسبة لتعزيز الهوية وحشد عواطف أغلبية الشعب السوري المتضرر من حكم الأسد. وكما قال ابن خلدون في مقدمته؛ فإنَّ وجود العصبية لا بُدَّ منه لبناء الدولة واستمرارها وبقائها.

إنَّ استحضار الانتماء للسنة في وسط مليء بالطائفية والعنصرية الدينية قد يكون عاملًا مهمًا لصناعة هذه العصبية التي ذكرها ابن خلدون، وهي عاملٌ ضروري لحشد طاقات جماهير الثورة حول هوية واحدة تُحرِّضهم على الصمود وإثبات الوجود.

من جهة أخرى، لا يُعقل أن يكون مصطلح “الكيان السني” حاضرًا في كل مناسبة إعلامية عامة، فقد تستقبله الأقليات بعين الريبة، وسيصعب وقتها دفعهم إلى دائرة الحياد، (حتى الأسد رغم أنَّ 80 % من مسؤولي نظامه نصيريُّيون فإنَّنا لا نسمع منه تصريحات طائفية).

قد يقول البعض إنَّ الأقليات في سوريا جزء أصيل من نظام الأسد. لكن هل ذلك صحيح فعلًا؟!

للإجابة عن ذلك؛ يكفي تذكُّر مشهد تمرد الدروز في السويداء، والمعارضة المسيحية في الخارج، بل إنَّ السخط بدأ ينتشر حتى بين الطائفة النصيرية، إذ تذهب عدة دراسات إلى أنَّ العلويين لا يدعمون الأسد لأنَّه الخيار الأفضل؛ بل لأنَّهم يخافون من البديل.

أضف على ذلك، قد لا يكون مصطلح “الكيان السني” لغمًا للأقليات فحسب، بل للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية أيضًا، فعادة ما تتوجس هذه الجهات خيفةً من الخطابات الشبيهة.

وحتى لا نذهب بعيدًا، لم تحرق نار هذا المصطلح المشتعل البعيدين فحسب، بل دخلت الساحة في دوامة من السِّجالات الإعلامية العقيمة، وهنا نعود ونتساءل: هل ساهم استخدام المصطلح في جمع الكلمة أم في تفريقها؟!

وإن كان هذا المصطلح يفجِّر معاني سلبية في عقول سامعيه، بداية من المجتمع الدولي مرورًا بالأقليات وصولًا للعديد من مكونات المعارضة السورية، فما الجدوى من تسويقه إعلاميًّا؟! قد يكون مفيدًا للخطاب الداخلي، لتعزيز الهوية، لتحقيق الحشد، لإيجاد الانتماء، لكن تسويقه في كافة الخطابات ضرره أكثر من نفعه.

 لماذا لا يسعنا في الخطاب الخارجي أن نستخدم الأسلحة المنفوخة كما يفعل الجميع؟ إنَّنا نحتاج لمصطلحات من قبيل: الكيان السوري والإنساني والوطني والمدني؛ نعم إنَّها مصطلحات هُلامية، لكنها تحقق أهدافها، إنَّها ناجعة في تحييد الخصوم وتخفيف العِداء.

لكن كما أنَّنا في ميدان الحرب لا يمكن أن نحقق النصر بالسلاح المنفوخ فقط، ولا بُدَّ من وجود قوة هجومية تحسم المعركة، كذلك فإنَّنا في ميدان السياسة لن نستطيع النجاح أيضًا بالمصطلحات المنفوخة لوحدها. فإن لم يكن لهذه السياسة قوة عسكرية حاضرة على الأرض تدعمها لطارت مصطلحاتنا أدراج الرياح.

وهنا تحديدًا يكمن ضعف المعارضة السورية المنفصلة عن واقعها، فهي بطريقة عملها الحالية كمن يريد قلع جبلٍ بفأس من هواء، إنَّها تريد إسقاط نظام الأسد المتجذر منذ عقود بأسلحة سياسية هزيلة لا قذائف فيها غير المصطلحات المنفوخة، إنَّ تلك المعارضة ما دامت منفصلة عن القوى العسكرية فإنَّ أنشطتها لا تَعدُ أن تكون نفخات في رماد.

من جهة أخرى لعل تمييع نخب الخارج لمسألة العصبية، واستغراقهم في الحرب السياسية التي أدواتها “المصطلحات المنفوخة” الهُلامية، وانشغالهم عن توجيه خطابات دينية تعزز الهوية وتحقق اللُّحمة مع القوى القتالية في الداخل؛ لعل ذلك كله كان سببًا في الردود الحادة من نخب الداخل وتمسُّكها بالهوية السُّنية لملء الفراغ.

ختامًا، كل ما نحتاجه هنا هو الموازنة الدقيقة، موازنة المعارضة في الخارج والقوى العسكرية في الداخل بين الخطابين السياسي والداخلي، وتخصيص المصطلحات المناسبة للميدان المناسب، وعدم الاستغراق في جانب على حساب الآخر.

 وأفضل من هذا كله أن يحصل التنسيق والتعاون والتوافق بين هذه الأطراف، فلا غنى لأحد منهما عن الآخر، وخطأ الواحد منهما، لا يعود أثره على نفسه بل على الثورة بأسرها، وأشد الناس شقاءً من لعن أخاه فأضرَّ بنسبه.

أسامة عيسى

باحث في الدراسات العسكرية والشأن السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى