تمائم النضال
أهمية الرمزيات الدينية والسياسية عند الأمم وارتباطها باعتقادات أو أحداث عميقة في وجدان تلك الأمم، مثل الشمعدان (الحانوكا) كرمزية للشجرة التي كانت تشتعل نارًا وكلم الله موسى ﷺ عندها في الوادي المقدس، وكالصليب لأمة النصارى لاعتقادهم بالصلب والفداء، وكالهلال لارتباطه بالتقويم، وبالتالي بحدث الهجرة النبوية المشرفة وبعض أهم الشعائر والعبادات الإسلامية.
وبينما تتحفظ أمة اليهود في مسألة الصور والتماثيل؛ ربما لنشأتها في بيئة تقدسها وتعبدها كرموز لآلهتها المعبودة، تكاد تكون تلك التصاوير من ركائز الطقوس والعبادات المسيحية لأيقونات السيد المسيح ﷺ والسيدة مريم العذراء والقديسين.
وتشابه الأمة الإسلامية اليهود في ذلك في غالبيتها العظمى، فلا توجد صورة واحدة تمثل النبي محمد ﷺ ولا أحدًا من السابقين الأوائل، وحتى في الأفلام والمسلسلات التأريخية فلا يستجيزون تصوير هذه الشخصيات العظيمة رغم توقيرها الشديد.
بينما يخالف المسلمون الشيعة في ذلك بالمبالغة في تصوير الأئمة من آل البيت، ولعل منشأ ذلك هو استمرار ذكرى هؤلاء الأئمة المظلومين، والذين قتلوا في ثوراتهم على الظالمين، وبما يمثلونه من بعد عاطفي شعوري من جهة، ومن بعد سياسي باعتباره محك الخلاف الأول في الفتنة الكبرى، وما ترتب عليها بعد ذلك.
وتختلف الأيقونات التي تمثل شخصيات سياسية عن ذلك؛ في اعتبارها امتدادًا لحركات سياسية أو تحررية أو تعبيرًا عن أيديولوجيات فكرية، ولعل من أشهر تلك الأيقونات هو جيفارا المناضل والسياسي والمفكر الأرجنتيني الأصل والشهير بالكوبي لدوره في النضال الكوبي.
وتميز أيقونة جيفارا كل شيء يلزم العمل الثوري والمناضل نضالًا مسلحًا تقريبًا، من هيئته الفوضوية بشعره الطويل المتناثر ولحيته غير المهذبة، وقبعته العسكرية ووجهه الصارم، وأفكاره وعباراته الفلسفية العميقة والتي أنضجها الواقع والمواجهات، بل وحتى ما يوصف به من صفات، كالسرية والتجهم والعنف وغيرها، وما يروى عنه من قصص ليس أقلها درامية مقتله رميًّا بالرصاص.
وأقل من هذا النموذج قليلًا تلك التميمة الكاريكاتورية العبقرية للفنان الفلسطيني ناجي العلي “حنظلة” التي أصبحت توقيعًا له، وهي لطفل يدير ظهره للعالم بينما يختفي وجهه بشكل متعمد، تعبيرًا عن الرفض والإصرار والمضي قدمًا، كما ينطق اسمه بالمرارة.
وقد بدا أحرار العالم في شغف وتعطش لأي أيقونة أو تميمة أو لوجو أو شعار يعبر عن النضال الفلسطيني الباسل من أجل التحرير ومواجهة الاحتلال والظلم، بدا هذا واضحًا في الاحتفاء بذلك الشاب الفلسطيني الذي يرقص رقصة التحرير أو “رقصة الموت” أمام الرصاص في مسيرة العودة، وهي تحرك فلسطيني مدني وسلمي أمام جدار الفصل العنصري العازل؛ قوبل بالقنص والقتل من جيش الاحتلال.
وكذلك الإعجاب الكاسح بالناطق باسم كتائب القسام “بأبي عبيدة” وهي كنية لذلك المقنع الذي لا يعرف له اسم ولا يظهر له وجه رغم كون الوجه أهم عناصر التواصل الإنساني الرمزي والمؤثر، وكذلك نموذج المقاتل الذي يكر راجلًا في العراء على قوات العدو بسلاح مضاد للدبابات وهو يرتدي ثيابًا مدنية مهندمة، والذي منحته الجماهير لقب “المقاتل الأنيق”، بل وتحليل وتركيز جمهور المتابعين على بساطة عتاد وملابس مقاتلين ومناضلين آخرين في مواجهة جيش هائل العتاد والإعداد بشكل مبالغ فيه!
كل هذه النماذج سرعان ما تلقفها الحس الشعبي حول العالم وأصبحت “تريندًا” على مواقع التواصل العربية وبعض الأجنبية، وهو ما يؤكد ما أذهب إليه من حيث تعطش جماهير الأحرار حول العالم لمثل هذه الشخصية الملهمة، وضرورة أو وجوب تصدير قوى المقاومة الفلسطينية “لأيقونة إنسانية” تمثلها وتثبت استمرارها وإظهارها لحقائق القضية وتجلياتها وتضحياتها وتفضح كذب خصومها.
عناصر الديمومة في الأيقونات النضالية
لكن هذه الرمزيات “الظواهر” إن جاز التعبير؛ لم تدم طويلًا أو تأخذ امتدادها المؤهل للبقاء الدائم -وهذا طبيعي بالمناسبة- ويرجع ذلك لغياب نفس الأسباب التي جعلت من رمزية كجيفارا مؤثرة وممتدة لعقود كرمز للثورة والنضال والتحرر حول العالم، وألخصها كالتالي:
•ظهور الوجه كأهم عناصر التعلق البصري والإلهام والاستدعاء لما تمثله من معانٍ.
•طرح عبارات أو شعارات لفظية فلسفية ومنمقة تعبر كل منها عن حقيقة مفردة عميقة ومعبرة وتلهب الشعور والضمير العالمي ويتناقلها الأحرار جيلًا بعد جيل.
•الصورة البصرية: وأعني بها الهيئة الشكلية “العفوية” التي تمثل نفس المعاني والعواطف الإنسانية، فالزي العسكري يبقى رسميًّا على أي حال، ولا يكفي لتحقيق الهدف.
•شمول تلك الرمزية لأهم تجارب وقضايا التحرر عمليًّا إن أمكن، أو فكريًّا وتنظيريًّا.
صناعة الرموز
لذا فربما كان هذا الوقت المناسب -لا غيره- لتشكيل مجموعة فكرية من أنضج العقول لدراسة هذه الفكرة وتنفيذها؛ بمعنى عدم الاكتفاء بجهد أو كفاءة أو موهبة منفردة مهما كانت، أو انتظارها لتخرج من العدم!
فالرمز هو تلك المرجعية التي تمثل الفئات والجماعات وتتجسد فيه مبادئها، وهو الترجمة الحية للعقل الجمعي لجميع أفرادها، فهو كالإطار الجامع لمركب الأفراد والأفكار والتكوينات الجماعية لهذه الفئة أو تلك الجماعة بحيث يشار به إليهم ويستدل به عليهم.
ومهما كانت صعوبات المرحلة، إلا أنَّها فرصة قد لا تعوض ولا ينبغي تفويتها لتقوم المقاومة بتكليف الشخص المناسب للظهور بحيث يكون كل شيء مجهزًا ومعدًا بعناية، من أول الملامح الشخصية، والمظهر الشكلي وهيئة الملابس الثابتة، ونغمة الصوت ولكنة الكلام، والتدريب على لغة الجسد الموحية بالمقصود، والخطاب المحلي والعالمي الذي سيعمل على ترسيخه، وكل هذا لتقديم تميمة أو أيقونة أو رمز يمتلك الكاريزما الأسطورية المطلوبة لتتحول إلى ميراث للأجيال، رغم ما يحتف بهذا الاقتراح من خطورة تحوط ذلك “الرمز الفدائي” مفهومة بلا شك، ولكن لكل شيء ثمن وعليه ضريبة.
وما يجعلنا نقول بحتمية صناعة هذا الرمز النجم أو الأيقونة، هو توفر كل عناصر وأدوات تلك الصناعة، فضلًا عن أهميتها وتأثيرها في استرداد أحقية أمتنا وأبطالها وقضيتها الأكثر عدالة في العالم اليوم.
أهم عناصر الرمز الأيقوني
أولًا: قوة الفئة الحاملة للرمز وهي هنا المقاومة الفلسطينية صانعة الحدث التاريخي الجلل في ٧ أكتوبر تحت عنوان طوفان الأقصى؛ الذي لا ينبغي تفويته بل يجب البناء عليه، وعدم الانسحاق أمام كل محاولات الإهدار القيمي لهذا الحدث بكل ما يحمله من مدلولات وآثار كمنعطف حاسم في مسار الصراع.
ثانيًا: الظرف التاريخي فكثير من الرموز العبقرية صنعتها أيضًا الظروف العبقرية، أو الحتمية التاريخية والتي لولاها ما ظهرت تلكم الرموز ولا بلغ ذكرها أسماع الناس مهما كان تميزها، فظرف كاحتلال القدس هو الذي صنع صلاح الدين قديمًا، وظرف كغزو التتار هو الذي أخرج سيف الدين قطز وظرف كاحتلال فلسطين هو الذي أظهر الشيخ أحمد ياسين رحمهم الله جميعًا.
ثالثًا: البيئة المواتية وأعني بها قابلية الوعاء المكاني ومناسبة التجمع السكاني أو ما يمكن أن نسميه بالبعد الديموجرافي وهو ما كان سببًا -بالإضافة إلى عوامل أخرى- في قيام دول وسقوطها ولهذا أمثلة تاريخية كثيرة ليس هنا محل ذكرها. والظرف التاريخي الحالي قد لا يتكرر بكل تداعياته وآثاره العسكرية والسياسية والشعبية حول العالم.
الطوفان أسقط التبعة، إلا واحدة
وقد كنا مطالبين -نحن جميعًا كأمة- أمام التاريخ والأجيال القادمة وبموجب الأمانة التي ينبغي أن نحملها والمسؤولية التاريخية التي تلقيها على أعناقنا تحديات الأقدار التي تمر بها أمتنا ومقدساتنا؛ كنا مطالبين أن نصنع هذا الظرف المواتي أو على الأقل أن نهيئ له الأجواء، حتى أسقط عنا تبعته حماة الأقصى بطوفان يعم السهل والوادي.
وما زلنا بعد الطوفان مطالبين باستحقاقاته، وهي تهييج الأمة لإحاطته ودعمه، ومن أهم متطلبات ذلك باكتشاف تلك الرموز العبقرية والتفتيش عنها بين كوادرنا؛ وما أكثرها لولا الركام الذي يغطيها والغبش الذي يخيم عليها بل والهزيمة النفسية التي عششت بداخلنا حتى غفلنا عنها وربما حاربناها ـويا للأسف عن قصد أو غير قصدـ حين فقدنا الأمل أن يوجد هذا الرمز المثالي من جديد.
ولا ينبغي هنا التعلل بالظروف القهرية والحصار العالمي والمحلي، الذي يهدف للحيلولة دون ظهور هذه الأيقونة لكونها “عربية” أو “إسلامية” فقد تجاوزت القضية هذه المرحلة، والعالم كله اليوم ينتظر كلمة المقاومة، وسيقبل منتجها الرمزي في حال أحسنت صناعته وتصديره، وما زال “حنظلة” ناجي العلي مؤثرة وباعثة على الثورة والصمود.
وإذا نجحت أمتنا في لم الشمل وتواصل المؤمنين فيها والعاملين من أجلها وعمل الجميع من أجل هذا الهدف، والترويج لهذا الرمز وإبرازه دون تحيز فئوي أو عصبيات ضيقة، عندها فقط ستحقق هذه الخطوة أثرًا بعيد المدى في التفاف العالم حول قضيتنا، بما يعطيها مكانتها الصحيحة والمستحقة حتى يعود الحق لأصحابه.