
تموج الساحة العالمية بتيارات سياسية ديناميكية تتسارع حينًا وتتباطأ أخرى، بحيث لا تبقى القوى المؤثرة فيه على ما هي عليه بشكل دائم، فحتمًا ستتغير خريطة العالم جغرافيًّا بحسب تغير خريطته سياسيًّا وخلخلة النظام القديم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
كيف نفهم السياقات السياسية؟
يلاحظ بالتتبع أنَّ الدورات الزمنية السياسية في العصر الحديث تتراوح حول ما يقارب العقد من الزمان، وبالتالي يمكننا استشراف المستقبل وتحديد ملامح العلاقات الدولية فيه، بناءً على تحليل منحنيات التغيير في العقد الماضي ووجهتها؛ بمعنى تحديد المستفيد منها واتجاه المصلحة فيها!
وبالتالي تحديد أحجام القوى الفاعلة كمًا وكيفًا، وكذلك القوى الناشئة والمستجدة على الساحة الدولية، وموقعها الجغرافي وتأثيراتها أو امتداداتها، والأوزان الحقيقية لتلك القوى جميعًا من حيث تأثيرها وسرعة استجابتها، وتحديد الكتل البشرية وانتماءاتها الإثنية والطائفية، وولاءاتها الدولية، ورؤاها السياسية ومرتكزاتها ومسارات تحقيقها. ومن ثم ترسيم حدود مناطق النفوذ ومساحاتها النسبية، وآليات فض النزاعات بين تلك القوى المتصارعة، وكيفية إدارة النقاط الملتهبة، ووضع الخطوط الحمراء، كل ذلك انطلاقًا من حسابات وتوصيفات الواقع الصحيحة. وأخيرًا تعيين الفرص السياسية والمهددات الأمنية والعسكرية في الحالات الثلاث: التحالف مع أو المواجهة ضد أو الوقوف على الحياد.
كما ينبغي التفريق بين الموضوعي أو الجوهري، والمصنوع أو العرضي من الأحداث، وعدم الانجرار إلى التماهي مع أو قبول ما هو مفتعل ومصطنع من باب الخداع والتضليل!
وكذلك ما تقوم به قوى الاستكبار من تلغيم الواقع والأحداث من أجل تعطيل القوى المؤثرة في مناطق الصراع عن محاولة الاحتفاظ لنفسها بمكان في المستقبل أو تشكيله، أو المساومة على حقوقها والمقايضة بها في سياق التغيير الحتمي، والذي سيجتاح العالم في إطار التحول خلال العقد القادم والذي بدت تباشيره.
وما لم يُراعَ هذا في توصيف الواقع وتدقيقه فهو نوع استجابة له وتكريس لوجوده بالانشغال بالدفاع عنه أو نفيه، وبالتالي الغيبة عن الهدف الأصيل.
السياسة الأمريكية تحت رئاسة ترامب
ترامب على العكس من أكثر القادة السياسيين في العالم فهو مع وضوح الرؤية وجاهزيتها يمتاز بالجدية في تنفيذها بحذافيرها، حتى ولو لم يستطع إنجازها بشكل كامل كما حدث في ولايته الأولى. وقد أعلن الخطوط العريضة لفترته الرئاسية الجديدة متمثلة في:
– ضم كندا وإزالة خط الحدود الوهمي بين كندا وأمريكا، الذي يعتبره مشوهًا لخريطة أمريكا، بحيث سيسعى -كما يبدو من كلامه- للضغط عليها اقتصاديًّا من أجل تحقيق ذلك الهدف.
كما أصدر أوامره بتغيير اسم خليج المكسيك إلى الخليج الأمريكي في الإصدارات الرسمية، وإعادة الاستحواذ على قناة بنما وجرينلاند؛ بل هدد بالخيار العسكري!
وبينما تعاني أوروبا مشاكلها المتكاثرة، إذ تعاني فرنسا عجزًا اقتصاديًّا وتراجعًا ملحوظًا لدورها وبالتالي مواردها في إفريقيا بعد طردها من تشاد والسنغال وغيرها، كما تنشغل ألمانيا بانهيار ائتلافها الحكومي ومشاكلها الاقتصادية، كما تتغير الحكومات في بريطانيا بشكل مستمر في حالة من عدم الاستقرار.
وبشكل عام فتوجهات ترامب أبعد عن أوروبا إلى حد ما، وقد يقدم حلولًا أكثر إرضاءً لروسيا، كما قد يعيد فكرة انسحاب أمريكا من حلف الناتو، إذ صارت أمريكا بشكل عام؛ تفضل عدم توريط قواتها بعيدًا في الشرق الأوسط منذ حربها على العراق، كما تتجه استراتيجيًّا إلى ملفات أخرى أكثر أهمية من الشرق الأوسط، كروسيا في إطار الصراع على القطب الشمالي بثرواته المكتشفة من النفط والغاز، والصين وتهديداتها بضم تايوان والسيطرة على بحر الجنوب.
وما لم تحسم نزاعات الأفيال هذه فستبقى جغرافيا الصراعات في الشرق الأوسط مضطربة، باعتبارها مناطق نفوذ للقوى الدولية، ومصدر التمويل للإنفاق على تكلفة تلك النزاعات، كما أنَّها ورقة للمقايضة بينهم، وتنفيذ المناورات السياسية والاقتصادية كذلك.
موقف دول الخليج
التوجه الأمريكي السابق كان يعني وبوضوح في حقيقته ترك دول الخليج لمواجهة مصيرها في مقابل تهديد المحور الإيراني والذي تراجعت خطورته بعد معارك غزة الأخيرة، وإسقاط النظام السوري الموالي له.
ومع ذلك فقد عملت أمريكا وما زالت على استنزاف ما يمكن من الوفورات المالية والاقتصادية لهذه المنطقة، التي تحولت اقتصاداتها إلى تمويل حروب لا تخصها، وشراء الولاءات الجيوسياسية، وقد صار فرض الإتاوات الأمريكية على دول الخليج أمرًا معلنًا وليس مضمرًا، منذ فترة ولاية ترامب الأولى، وكذلك ما استهل به ولايته الحالية.
وفي ظل تزايد المخزونات العالمية للطاقة واحتياطات القطب الشمالي المتوقعة من الغاز؛ فإنَّ ذلك ينبئ عن احتمالات عجز قريبة في الميزانيات الخليجية، والذي ستؤدي بالضرورة لتراجع سياسي وتهديد للأنظمة الحاكمة فيها، مما يقتضي سرعة تغيير الهيكليات السياسية وحجم المشاركة، وكذلك الآليات الاقتصادية، وإلا ستكون الفوضى محتملة في تلك المنطقة!
ورغم ذلك فلقد استمرت السعودية والعديد من الدول الخليجية في ضخ كميات كبيرة في الأسواق بدلًا من ادخارها استجابة للضغوط الأمريكية خاصة في فترة حكم ترامب، بينما تخوض صراعات سياسية بينية ذات مضمون اقتصادي؛ مع أو ضد الثورات العربية وما يتلازم مع ذلك من محاولة اقتناص فرص واستثمارات في تلك البلدان، وقد بلغ ذلك الصراع ذروته بين الإمارات والسعودية والبحرين من جهة، وقطر منفردة من جهة أخرى، وربما أضيفت إليها تركيا كمنافس سياسي نجح أخيرًا في فرض وجوده على حساب إيران كما سنوضح لاحقًا. بينما كانت مصر هي ساحة الصراع كبلد وفير ومتعدد الموارد والفرص الاقتصادية؛ ربما لتنويع الأداء الاقتصادي واستثمار عوائد النفط فيها وعلى حساب مقدراتها واستغلالًا لأزماتها، قبل انهيار أسعار أسواق النفط في القريب العاجل.
الدور الخليجي طائفيًّا
تقمصت بعض دول الخليج وممالك النفط دور “الفرسان تحت راية السنة” خوفًا من تصدير الثورة الإيرانية بحجة مواجهة “المد الشيعي” لأكثر من أربعين عامًا، وذلك لتثبيت دعائم الحكم فيها، والذي قام على الإسناد والتوجيه الأمريكي والبريطاني في هذه الدول بالأساس، والعجيب أنَّ العداء لإيران الشيعية كان بعد خروجها من تلك العباءة الغربية نفسها بانتهاء حكم الشاه!
بينما تتهافت نفس تلك الدول اليوم للتطبيع مع العدو الصهيوني رغم أنَّه لا علاقة له “بالراية السنية” المزعومة، ورغم دأب الأنظمة العربية كافة على تجريم أي محاولة للتغيير داخليًّا لعقود طويلة؛ باعتبارها تنفيذًا لمخططات صهيونية، والمحصلة النهائية اليوم هي العداء للإسلام السني والشيعي جميعًا!
الدور التركي الفاعل في تحجيم إيران
نجحت تركيا عمليًّا في تحجيم إيران بهدوء وتدرج بطيء استمر لأكثر من عقدين من الزمان، توجت بتحالف قوي مع أذربيجان واستعادة إقليم قرة باغ بهزيمة أرمينيا حليفة إيران، ثم دعمها لقوى الثورة السورية المنتصرة، مما يعني حلولها مكانها في سوريا، كما تعمق امتدادها شمالًا في وسط آسيا وجنوبًا في باكستان وأفغانستان الجديدة.
وبهذا يتضح أنَّ عداد التدمير في الواقع السني العربي كان ذاتيًّا أكثر منه إيرانيًّا ولا شيعيًّا، وذلك بالفساد السياسي والطيش المالي والاقتصادي، والتفتيت الاجتماعي المتعمد! كما كانت خلخلة المحور الشيعي ذاتية أيضًا، ببذل المال الإيراني بسخاء في بناء أحلاف طائفية، ثم المجازفة بإقحام أقواها -وهو حزب الله- في سوريا، والتي انتهت بكارثة للمحور كله وربما تستمر تداعياتها حتى تطال إيران نفسها لاحقًا!
سوريا: نظرية المؤامرة والحرب على الإنسان
مثَّلت التطورات السريعة في مسار الثورة السورية حدثًا فريدًا جاء كأثر مباشر لما أنتجه طوفان الأقصى من تفاعلات مختلفة، وقد استغلت القوى الثورية المسلحة اللحظة الفارقة التي ضعف فيها “المحور” الإيراني المساند للمقاومة الفلسطينية في خضم معركته مع دولة الاحتلال والولايات المتحدة.
وليس صحيحًا ما تروجه القوى المعادية للثورة بأصنافها؛ أنَّ الدعم التركي وحده هو المسؤول عن ذلك، وإلا لتمت السيطرة على عموم سوريا وفتح دمشق منذ سنوات، كما أنَّه من العبث الطائفي ما تروجه بعض الأصوات والمنابر الشيعية، أنَّ الأمر هو محض مؤامرة صهيونية موجهة ضد إيران وحلفائها، فقد استغلت إيران نفسها ظروف الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان للتمدد ضمن تفاعلات حالة المواجهة ضد القوى الجهادية السنية، والتي اعتبرها الغرب وإيران “قوى تمرد” ومجموعات من الإرهابيين.
فالتحولات في الساحة السياسية الدولية -خاصة ذات البعد التاريخي منها؛ تتيح فرصًا بالضرورة كما تفرز مهددات، وينبغي أن تحاكم بقانون واحد ما تشابهت المعطيات، فاستغلال إيران وإفادتها من اللحظة التاريخية التي أتاحتها الأحداث ساعتئذٍ، والنافذة الجيوسياسية التي فتحتها؛ هو نفس ما جرى اليوم في سوريا.
وينبغي الانتباه إلى أنَّ أحد أهم أهداف العدو الصهيوني وظهيره الغربي على دول الطوق -مصر والشام- منذ هزيمته في حرب ١٩٧٣م؛ هو تعديل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بتعديل التشكيل الديموغرافي الذي يكتسحه العنصر السني أولًا، وذلك استكمالًا للدور الذي من أجله نصبت الأنظمة المستبدة الموالية للغرب، والتي عملت على تجريف المجتمعات من جميع الكفاءات العلمية والفكرية والسياسية، وهو نفس السبب في تهجير الفلسطينيين من جنوب لبنان بعد اتفاقية السلام.
واليوم لن يكتمل نصر الثورة السورية إلا بعودة كل النازحين والمهجرين إليها كعناصر وطنية أصلية لبناء سوريا جديدة، لن تقوم بغير سواعد وعقول وخبرات أبنائها. ولا أتحدث عن هذا الجيل فقط، وإنما الجيل القادم وهم أطفالهم الذين ولدوا ونشأوا في الغرب، وهؤلاء هم من يمكنه بناء دولة حديثة مستقلة ومستقرة، كما يمكنهم ردم الفجوة الحضارية بيننا وبين الغرب.
وضع مصر في هذا السياق
تقع مصر في مرتكز التيارات السياسية العالمية، ورغم خفوت بريقها السياسي وتضاؤل تأثيرها الإقليمي بدرجة مؤسفة، فإنَّها تبقى بجبرية الجغرافيا السياسية مركزًا مهمًا للغاية في سياق كل هذه التطورات والأحداث، رغم انكسار ثورة يناير وغلبة التيار الانقلابي -الداخلي والخليجي- عليها.
هل تنشب حرب جديدة بين مصر وإسرائيل؟
لا يفتأ العديد من الكتاب والمحللين السياسيين والخبراء العسكريين الإسرائيليين يدندنون حول الحرب الكبرى القادمة لإسرائيل والتي تشمل بوصلتها مصر، ومن أمثال هؤلاء إيهود إيلام الباحث في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية الإسرائيلية والخبير في العقيدة القتالية بالجيش الإسرائيلي لأكثر من عشرين عامًا، وهو صاحب كتاب: “الحرب القادمة بين مصر وإسرائيل”.
ورغم أنَّه لم يصدر تصريح رسمي بهذا المحتوى من أي مسؤول إسرائيلي أو رئيس وزراء في موقع المسؤولية؛ فإنَّ الأمر يبدو هاجسًا يراود أكثر المجتمع الصهيوني، باعتبار الجيش المصري هو العدو الأبرز المرشح لخوض حرب كبيرة وعالية الكثافة ضد إسرائيل، وبالأخص بعد تساقط الجيوش العربية القوية الأخرى سابقًا كالعراق وسوريا.
وبينما غيبت العقيدة القتالية للجيش المصري لعقود كما غاب الحلفاء العرب، فسيدعم إسرائيل حلفاؤها القدامى كأمريكا وأوروبا، والجدد كإثيوبيا وبعض دول إفريقيا وربما دول أخرى.
تاريخ الحرب وجغرافيتها
تنقسم الحروب الإسرائيلية العربية إلى شاملة أو كثيفة: 1948، 1956، 1967، 1973، وأخرى قليلة الكثافة مع حزب الله وحماس وغيرها. أما جغرافية الحروب القديمة فهي الأراضي الفلسطينية والعربية المجاورة، بيد أنَّ سيناء هي الساحة الرئيسية لها بحسب أكثر المحللين الإسرائيليين، فقد كانت تحت سيطرة مصر حتى عام 1967، إلا أنَّها في 1973 أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية، وربما تكون هي ساحة معركة قادمة يسعى فيها كل طرف للسيطرة لإيجاد عمق إستراتيجي لقواته. وبينما لا تتواجد في سيناء إلا قوات محدودة للجيش المصري وبنية عسكرية تحتية ضعيفة لا تكفي لشن حرب شاملة وعالية الكثافة؛ تحشد إسرائيل قواتها في صحراء النقب المتاخمة لسيناء استعدادًا لهذه الحرب المقبلة، كما قد تنضم قناة السويس في أي حرب محتملة قادمة، لما تمثِّله من أهمية استراتيجية.
انقلاب الأدوار والحرب دول
قصفت القوات المصرية المدن والمواقع الإسرائيلية في حرب 1948، بينما انقلبت الأدوار في عام 1967 حيث قصفت إسرائيل المدن والبنى المصرية جويًّا.
تمثل القوة الجوية عنصرًا حاسمًا في أي صراع قادم، حيث تتفوق قوات العدو الجوية إلى حد بعيد على نظيرتها المصرية، كما حدّثت دولة الكيان طائراتها بوسائل الحرب الإلكترونية، التي اختبرتها بالفعل في معارك جنوب لبنان وغزة، ولكنها لم تختبرها في حروب شاملة أو كثيفة منذ خروج مصر من دائرة الصراع.
التركيز على الطائفية، وموقف واشنطن
يؤكد الخبراء الإسرائيليون ضرورة اللعب على الوتر الطائفي “السنة والشيعة”، كعنصر أساسي في التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي، ولذلك تؤكد أغلب توقعاتهم حتى اليوم عدم مشاركة إيران أو أي من حلفائها في أي صراع قادم بين مصر ودولة الاحتلال الصهيوني.
وقد تلجأ الولايات المتحدة في حال نشوب الحرب لأي سبب من الأسباب إلى فرض حظر شامل على تصدير الأسلحة الأمريكية لمصر فورًا؛ دون أن تشارك مشاركة عسكرية مباشرة إلا إذا تعرضت دولة الكيان لخطر وجودي حقيقي، ولعل هذه النقطة تحديدًا هي إحدى أسباب محاولة مصر تنويع سلاحها من روسيا والصين وغيرها.
وفي النهاية تنبغي الإشارة إلى أنَّ السياسة لو كان لها من تعريف أدق من الشائع التقليدي “فن الممكن”؛ فلعله أن يكون “فن المتغير”، خاصة إذا كنا نتحدث عن تطورات السياسة الدولية واحتمالاتها، وتأثيراتها المتوقعة على إقليم كالشرق الأوسط، أو ما يمكننا تسميته كذلك: “جغرافيا الصراعات” أو “الجغرافيا الساخنة”، والذي ما زال محور أحداث العالم وأهم المؤثرات فيها حتى اليوم. ولذلك يسعنا انتقاد الظاهرة الخفيفة التي شاعت مؤخرًا فيما يمكن وسمه “بالعرافة أو الكهانة السياسية” تلك التي يتسابق إليها بعض المحللين بغية تحقيق مجد سياسي زائف.