تذكر المصادر التاريخية أنَّ التحدي الأكبر أمام الثورة الفرنسية لم يكن الملك أو الكنيسة، فقد سقط كلاهما سريعًا بعد اقتحام سجن الباستيل، لكن أكبر تهديد واجهه الثوار هو الثورة المضادة.
يعرّف الباحثون الثورة المضادة بأنَّها أي نشاط سياسي أو عسكري يهدف إلى إبقاء أو إرجاع القيم القديمة أو الطبقة الحاكمة السابقة أو مؤسسات النظام البائد وعلى رأسها الجيش والأمن.
خطوات الثورة المضادة:
أولًا: بالنظر إلى الثورات المضادة في مصر وتونس بعد الربيع العربي؛ نجد أنَّ أول خطوة قامت بها الثورة المضادة هي: “تبني الثورة”، ففي نفس اللحظة التي تفكك فيها النظام السابق أعلن رموزه المظلومية، وادعوا أنَّهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وبدؤوا بإظهار الثورية أكثر حتى من الثوار أنفسهم، وهذا ما شهدنا وقوعه في سوريا عشية هروب الأسد، فقد أعلن كثير من السياسيين والإعلاميين وضباط الجيش والأمن والقضاة تبرؤهم من علَم النظام ورفعوا راية الثورة، وتغير اللون الأحمر في الشعارات وخلفيات وسائل التواصل إلى الأخضر، بل قال بعضهم في قمة الانتماء: الله أكبر، لقد انتصرنا اليوم على الطاغية!! وكأنه نسي أنَّه قبل ساعات قليلة كان ذراع ذلك الطاغية ويده الباطشة.
ثانيًا: المرحلة الثانية بعد “تبني الثورة” هي “إثبات الولاء”، فتجد أنَّ رموز النظام السابق -منذ اليوم الأول- يُظهرون حرصًا عجيبًا على مؤسسات الثورة وأموالها ومكتسباتها، بل قد يشارك بعضهم في ملاحقة عائلة الرئيس البائد، وإعادة تسليم الأموال المنهوبة، والدفاع عن الثورة في المحافل الدولية ووسائل الإعلام، ولأنَّهم أكثر دراية بأسرار الدولة وخفاياها فقد يُستعان بهم في الكثير من المهام الحساسة، ولأنَّ رموز الثورة الحقيقيين قد يدخلهم اختلاف وجهات النظر في نوع من التنافس البيني؛ يمكن أن يصبح هؤلاء المطاوِعون الخيار الأمثل لاعتلاء المناصب باعتبارهم أشد انقيادًا.
ثالثًا: الخطوة التالية التي سيعمل عليها رموز النظام السابق هي “إعادة التنظيم”، إذ ستكون الحاجة شديدة إلى إعادة تشكيل القاعدة التنظيمية الصلبة بعد حل الحزب الحاكم، فيشرعون في استغلال الفجوات التي يتيحها القانون لإنشاء كيان جديد يجمع شتاتهم، قد يكون هذا الكيان حزبًا أو نقابة أو منظمة أو فصيلًا عسكريًّا في الحالة السورية، ثم سيبدأ هذا الكيان بلمِّ شمل الهاربين والخائفين من أزلام النظام البائد، وربط العلاقات الخارجية مع الجهات الدولية واستجلاب الدعم المادي والسياسي، وتوجد دول قد تكون داعمة مثل الإمارات التي تأتي على رأس القائمة.
رابعًا: سيبدأ مع هذه المرحلة شن “هجوم منظم” على السلطة الجديدة، لكنه لن يكون هذه المرة بالأسلحة والطائرات وإنما بأدوات الثورة نفسها، المظاهرات والبيانات والاعتصامات والإضرابات، سيشرع الإعلام بتشويه الحكم الجديد واتهامه بخيانة الثورة، واعتدائه على حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والوقوف خلف أزمات الفقر والبطالة، وعجزه عن تحقيق التنمية الاقتصادية، إلى غير ذلك من المطالب الخيالية التي لا يمكن تحقيقها في دولة في طور التأسيس، وستكون هناك حملات إعلامية منظمة في الداخل والخارج، بل قد تُلفق بعض عمليات التفجير والاغتيال للغلاة كما حصل في تونس… كل ذلك لتصل الطبقة الحاكمة الجديدة إلى مرحلة من الاهتراء السياسي في أعين الناس، بل قد ينفر الشعب من العملية السياسية كلها ويكره السياسيين جملة واحدة، ويعتبر السلطة الحالية لا تختلف كثيرًا عن البائدة.
خامسًا: إذا وصلت الحالة الشعبية إلى مستوى متقدم من اليأس والإحباط بعد المراحل السابقة؛ تأتي المرحلة الحاسمة “الانقلاب”، وقد يكون هذا الانقلاب عسكريًّا كما حصل في مصر، أو ليِّنًا كما حصل في تونس، قد يُعلن قائد الجيش عزمه على إنقاذ الثورة فيسيطر على الحكم كما فعل السِّيسي، أو قد توصل الدولة العميقة للحكم رجلًا جديدًا بالطرق الانتخابية، ثم ينقلب على الدستور والانتخابات والديمقراطية كما فعل قيس سعيد.
وهذه أهم الخطوات التي يمكن استقراؤها من أحداث الربيع العربي، وهذا لا يعني أبدًا أنَّ هذه الخطوات ستحصل في سوريا وفق هذا السيناريو تمامًا، فلكل بلد خصوصيته، لكن وجود نفس اللاعبين الدوليين والإقليمين وتشابه الأنظمة العربية قد يجعل الثورة المضادة في سوريا قريبة من شقيقاتها.
ما الإجراءات التي يمكن اتخذها للوقاية من الثورة المضادة؟
أول ما ينبغي حسمه في الثورة هو قِيمُها. هل ستُبنى الدولة الجديدة على قيم النظام البائد وفلسفته نفسها؟
لا يمكن للثورة أن تكون ثورةً حقيقية إلا بالتغيير الجذري للقيم والتبديل الكلي للمنطلقات، لأنَّها إن لم تكن كذلك فهي مجرد إصلاح في النظام، فإن لم تأتِ الثورة الفرنسية بمنظومة جديدة بدلًا عن الملكية والإقطاعية والكنسيَّة لكانت مجرد تمرد عادي ككل التمردات التي حصلت في أوروبا.
لذا فأول وقوع في فخ الثورة المضادة هو الإبقاء على قيم النظام السابق، وفي الحال السورية إن لم تكن ثوابت الإسلام وفلسفته السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي الحاكمة والضابطة للدولة فلا يمكن الحديث عن نصر حقيقي.
ثم إذا تحقق إبدال القيم، فالخطوة الثانية هي إبدال الطبقة الحاكمة، ويحصل ذلك بمجموعة من القوانين من بينها حل الحزب الحاكم والمؤسسات ذات الثقل مثل الجيش والأمن والإعلام والقضاء، وقد حصل هذا فعلًا في الثورة السورية، لأنَّ البديل كان حاضرًا حتى قبل انهيار النظام، وهو حكومة الإنقاذ. لكن لا بُدَّ من اتخاذ مجموعة من القرارات والقوانين لتأمين الثورة، وضمان عدم عودة الطبقة الحاكمة وتنظيم نفسها، مثل:
- إحداث جهاز أمني ومحاكم ثورية مخصصة لملاحقة رموز وقادة النظام السابق وإحالتهم للمحاكم الثورية، ومحاسبتهم على جرائمهم وانتهاكاتهم واسترداد المال المنهوب والأصول المسلوبة.
- إصدار قرار يمنع أزلام النظام السابق من مزاولة السياسة أو تشكيل أي تنظيمات أو كيانات حقوقية، فحتى أولئك الذين لم تثبت في حقهم جرائمٌ ينبغي ألا يُقدموا للعمل العام وألا يُمكنوا من مؤسسات الدولة، وخاصة الجيش والأمن والقضاء والإعلام، وهذا يشمل الرموز ولا يشمل العناصر التنفيذية والرتب الدنيا، فهذه يمكن تفعيلها لملء الفراغ في أجهزة الدولة.
- ملاحقة مجرمي الحرب بكل الوسائل المتاحة، في المحاكم الدولية والمنظمات الحقوقية، والمطالبة بتسليمهم، وبذلك يحاصرون دوليًّا ويصعب عليهم الحصول على الحلفاء والملاذات الآمنة، وقد يكون هذا مُجديًّا مع بشار الأسد المنبوذ دوليًّا الآن.
- إصدار قوانين لتنظيم العمل الإعلامي والجماهيري، وضبط المجال النقابي والحقوقي، وترخيص المظاهرات والاحتجاجات، لكيلا تكون منفذًا ووسيلة وأداة لتشويه وإسقاط شرعية السلطة الجديدة.
وبمجموع هذه الخطوات يمكن كبت الثورة المضادة في مهدها، وهي ضربات استباقية تسهل الوقاية منها، لكن تنزيل هذه الأفكار العامة يعتمد على مرونة القيادة الجديدة للبلاد، ودراستها لمختلف الظروف والتغيرات الدولية والإقليمية المحيطة بها.