مقالات

إدلب: فاعلية محمودة ورؤية مفقودة

أول ما يفعله الإنسان إذا أراد إعمار منشأة أو بناء؛ أن يطلب من المختصين والمهندسين وضع مخطط لهذا البنيان، وأول ما يفعله المهندسون قبل وضع المخطط هو سؤال صاحب البيت عن رؤيته؛ هل تريده لسكن عائلي، أم لحاجة تعليمية أم خدمية أم عسكرية؟ هل سيحوي عائلةً أم طلابًا أم متدربين أم مراجعين؟ ثُمَّ في الخطوة التالية يشرعون في تحليل بيئة الموقع والتربة والإضاءة والرطوبة وما إلى ذلك، وبعدها يضعون مخطط البناء، ثُمَّ يشرعون في التنفيذ.

هذه هي الخطوات الصحيحة، وإلا فإنَّ الطاقات والجهود والموارد ستُهدر فيما لا طائل له، وحتى لو كان العمال أثناء بنائه لا يستريحون الليل ولا النهار؛ فإنَّه سينتج عن عملية الإعمار هذه بناءٌ مشوه لا يصلح للاستخدام، فبذل الجهد الكبير والشاق لا يعني تحقيق النتائج المرجوة، وكم من عامل ليس له من عمله إلا الشقاء والتعب، وكما يقول بعض المختصين في علم الإدارة: 90% من النجاح يعود الفضل فيه للخطة الصحيحة، والباقي للتنفيذ.

صرحٌ عظيمٌ من الإعداد يفتقد للرؤية

هناك قاسم مشترك بين جميع الاختصاصات في إدلب؛ فجلها -تقريبًا- تفتقر للرؤية النهائية والأهداف البعيدة. هناك إنجازات ضخمة على المستوى التشغيلي، ومن زار شمال غرب سوريا بعد غياب طويل يعلم أنَّ البنية التحتية والطرقات والخدمات لم تعد تقارن بما كانت عليه قبل الحالة الفصائلية، بل إنَّ معظم هذه الإنجازات يعجز حتى النظام السوري عن تحقيقها؛ ففي إدلب الآن تعبَّد الطرق يوميًّا، ويعاد تهيئة الحدائق والمنتزهات بشكل دوري، وتخدم المستشفيات جميع المرضى مجانًا، وتصل الكهرباء والمياه والاتصالات إلى جميع المنشآت السكنية والصناعية تقريبًا، ويتخرج الطلاب من المدارس والجامعات بالآلاف سنويًّا، أما المشاريع التي تعتني بالزراعة والتنمية الاقتصادي والتجارة فهي أكثر من أن تعد.

إنَّ المؤسسات في إدلب أشبه بخلية النحل التي تعمل ليل نهار وتحقق المعجزات بالقليل من الموارد، لكن ما يُفقد هذه الإنجازات قيمتها ورونقها هو كونها لا تتجه نحو هدف نهائي واحد ورؤية مشتركة، فكل مؤسسة تعمل لتحقيق أهدافها الضيقة، بل إنَّ معظم المؤسسات لا تملك أهدافًا أصلًا، ومعظم أعمالها تركز على حل المشكلات والأزمات، لتبقى أسيرةَ دائرةٍ ضيقة من ردود الأفعال، في ظاهرة أشبه بالغرق، ولكن ليس في الماء وإنما في التفاصيل. ولأنَّه يصعب الحديث عن كل المؤسسات والاختصاصات يكفي أن نسلط الضوء على المؤسسة العسكرية (غرفة عمليات الفتح المبين).

غرفة الفتح المبين نموذجًا لتشوش الرؤية

في سنة 2023 وحدها؛ شنت فصائل الفتح المبين نحو 42 عملية نوعية توزعت على كافة جبهات المناطق المحررة، وأسفرت هذه العمليات عن خسائر تقرب من 400 قتيل ومئات الجرحى من قوات نظام الأسد وحلفائه، بالإضافة لخسائر مادية وعسكرية في النقاط والمواقع المستهدفة، هذا غير عمليات القنص المحققة التي تسببت فيما يقرب من 300 قتيل للعدو، وعمليات الاستهداف المدفعي والصاروخي المركزة، إضافة إلى عمليات التحصين العسكري مثل حفر الأنفاق وشق الخنادق ومد حقول الألغام وما إلى ذلك.

لكن من المهم أن نتساءل: ما الهدف من هذه العمليات، هل هو التقدم الجغرافي، أم استنزاف العدو؟

 لا يظهر من سياسة الفتح المبين أنَّها تسعى إلى شيء من ذلك، فهدف التقدم الجغرافي إن كان مطروحًا لرأينا مسارًا واضحًا في كسر الطوق الدفاعي للعدو، وخرق خطوطه الحصينة، وتوسيع ساحة العمليات وحدود الاشتباك نحو العمق، ودفع خط الانتشار إلى الأمام باستمرار، وإرغام العدو على تضييق منطقة تأمينه.

وإن كان الهدف هو استنزاف العدو ليصل لحالة الانهيار، فإنَّ حجم هذه الخسائر وكثافة العمليات لا يمكن أن تجعل جيش الأسد ينهار، فقدرة الأسد على إدامة الجهد وتعويض الخسائر أكبر من ذلك، وهل جيشٌ بحجم 200 ألف مقاتل وبتجنيدٍ إجباري تقف خلفه إيران وروسيا بمستودعاتها وخبرائها سينهار بمثل هذه الخسائر!!

يظهر أنَّ هدف الفتح المبين من هذه العمليات لا يعدُ أن يتجاوز محاولة اكتساب الشرعية لكيلا تظهر الفصائل أمام حاضنتها كمن ترك النضال، أو قد يكون الهدف هو تدريب المقاتلين والحفاظ على الروح المتَّقدة. وسواء كان الهدف هو الشرعية أو المعنويات أو التدريب، فإنَّه لا يصلح أن يكون هذا هو الهدف فقط من الحرب.

إنَّ المعارك لا بُدَّ لها من هدف سياسي يُحدَّد حسب طبيعتها وظروفها وخصائصها، وإنَّ غياب هذا الهدف أو الخلط فيه هو خسارة في الحرب حتى قبل خوضها.

وإذا أردنا الحديث عن الرؤية المنطقية التي ينبغي أن تحملها القوى الثورية في سوريا؛ فلا ينبغي أن نغفل الإجابة على مجموعة من الأسئلة الإجرائية:

  1. أولًا ما طبيعة الحرب التي تخوضها فصائل الفتح المبين، هل هي حرب نظامية أم غير نظامية؟
  2. ثُمَّ انطلاقًا من طبيعة هذه الحرب؛ ما الأهداف الاستراتيجية التي يجب تحقيقها؟
  3. ثُمَّ ما التكتيكات العسكرية المناسبة لتحقيق هذه الأهداف؟
  4. وأخيرًا ما التنظيمات والإجراءات اللوجستية المناسبة لهذه التكتيكات؟

إذًا لا بُدَّ قبل كل شيء من تحديد نوع الحرب لنعلم ما يناسبها من استراتيجيات، وعلى ضوء الاستراتيجيات توضع التكتيكات فالتنظيمات فاللوجستيات. وأي تفكير عكس هذا يعني خطأً عسكريًّا فادحًا.

طبيعة الحرب في سوريا وتكتيكاتها المناسبة

هناك عدة اعتبارات مؤثرة لاختيار النوع الصحيح من الحروب التي يجب الانضباط بأدبياتها، لعل أبرزها هو طبيعة الطرفين المشاركين في الحرب، فإن كان التفاوت بينهما شاسعًا على مستوى التسليح والموارد البشرية والمالية والقدرة على إدامة الإمداد والتذخير فإنَّ الطرف الضعيف لا يمكنه -والحال كذلك- أن يستخدم الأساليب النظامية، ولن يجد بُدًّا -إذا أراد تحقيق النصر- من تطبيق تكتيكات نوعية وأسلوب أشبه بحرب العصابات أو الحرب الثورية.

وهذا تحديدًا ما ينبغي لفصائل الفتح المبين معرفته في إدلب، إنَّ استخدام أدوات الحرب النظامية كما حدث سنة 2015 مع جيش الفتح في تحرير إدلب ومناطق جسر الشغور وسهل الغاب لم يعد يمكن تطبيقه الآن بعد التدخل الروسي والإيراني المباشر واختلال موازين القوى، فذلك كان مجديًا عندما كان العدو هو جيش الأسد المترهِّل، أما الآن فقد تغيرت المعادلة.

إن لم يدفعنا سقوط جبهات الغوطة الشرقية وريف حمص وجنوب سوريا، إلى مراجعة تكتيكاتنا وتقييم مسارنا فما الذي سيدفعنا لذلك؟! وإن لم يكن فشلنا في صد حملة استرداد حلب سنة 2016، وحملة شرق السكة سنة 2018، وحملة خان شيخون – سراقب سنة 2019؛ دليلًا على عدم جدوى التكتيكات النظامية المستخدمة فمتى سنفهم ذلك؟! حتى عندما نظَّمت هيئة تحرير الشام في أوج قوتها حملة كبرى على حماة عام 2017 لم تستطع تحريرها رغم وصولها إلى تخومها، بل لم تستطع صد الهجوم المضاد الذي حصل بعدها وتسبب في خسارة مناطق لم تكن الثورة قد خسرتها من قبل.

إنَّ الفارق الشاسع بين فصائل الفتح المبين وعدوهم وفشل التكتيكات النظامية طيلة التسع سنوات الماضية وفقدان الثورة للعمق الجغرافي، يحتم على قوى الثورة اختيار تكتيكات نوعية تعتمد على سرعة الحركة وخفة الإمداد والأسلحة الخفيفة والمجموعات الصغيرة، وذلك لتحقيق هدف استراتيجي يتمثل في إعادة التمدد في الأرياف والمناطق النائية.

فالهدف المنطقي لهذه المرحلة هو التمدد على الأطراف دون الدخول في معارك حاسمة أو تهديد عواصم مهمة للعدو، وهذا يتطلب إعادة هيكلة واسعة للتشكيلات المقاتلة لتكون:

  1. صغيرة الحجم وخفيفة التسليح لتكون قادرة على تحقيق سرعة الحركة واجتناب الوقوع في نيران العدو الدقيقة.
  2. أقرب للقيادة اللامركزية منها للمركزية، بحيث يمكن لقائد المجموعة تقدير الموقف والتخطيط للعمليات والاستمرار فيها؛ رغم بعده عن القيادة العامة.
  3.  خفيفة العدة لتكون قادرة على العمل دون عمليات إمداد وإخلاء يومية.
  4. احترافية التدريب وعقدية الأيديولوجيا، بحيث يستطيع المقاتل تحمل المشاق والصعاب.
  5. مستمرة الإغارة والتقدم الجزئي على محاور منتشرة، بحيث لا يستطيع العدو تجديد خطوطه الدفاعية الصلبة.

وفي الختام إنَّ الهجوم النظامي والدفاع النظامي في هذه الحرب هو الأسلوب الذي يتقنه الأسد وحلفاؤه لأنَّه يناسب جيوشهم ومواردهم، وهو الأسلوب الذي لا يمكن لقوى الثورة أن تفلح فيه لافتقادها لموارد الدولة، قد تستخدمه لشهر أو أشهر لكن الانهيار الشامل سيكون مصيرها كما حدث في آخر حملة عسكرية على الطريق الدولي (m-5).

والحقيقة أنَّ هذه المقالة لا تتسع لطرح رؤية مفصلة لتطوير العمل العسكري في إدلب بقدر ما تحاول تشجيع القيادة العسكرية على فتح مسار النقد والمراجعات، وإيجاد المؤسسات البحثية القادرة على طرح هذه الأفكار، وتهيئة البيئة المناسبة للحوار والنقد واستقبال النصائح المتعلقة بهذا الشأن. فنقد الذات الآن يعصمها من الهلاك مستقبلًا، والطرف الذي ينتصر في الحرب هو الذي يتكيَّف معها أسرع من خصمه.

أسامة عيسى

باحث في الدراسات العسكرية والشأن السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى