كيف توقف حملات الاسترداد؟
لكل فعل ردة فعل، في الحروب عادة ما يكون لعمليات التراجع والانسحاب حملات استرداد، وأحيانًا تكون هذه الحملات تدميرية. هكذا حصل في الأندلس عندنا تحصنت قوات من القوط الغربيين في شمال الأندلس وأسسوا مع الوقت ممالك قشتالة وأراغون وليون، ثم أعادوا الكَرَّة على المسلمين وطردوهم من الأندلس فيما يسمى بحملات الاسترداد الإسبانية، حتى أنَّ التاريخ لا يكاد يجد خطأً للفاتحين المسلمين أعظم من تجاهلهم لفلول النصارى الذين انسحبوا نحو جبال شمال إسبانيا وتحصونا فيها.
هذا لم يحصل في التاريخ القديم فحسب، بل إنَّ هذا الخطأ حاضرٌ في التاريخ المعاصر أيضًا، على سبيل المثال أطلق عبد الكريم الخطابي هجومًا عسكريًّا على الإسبان سنة 1921 اشتهر بمعركة “أنوال” قتل فيه أكثر من 25 ألف إسباني خلال أيام معدودات، في مشهد شبيه جدًّا بما نراه في حلب وحماة الآن، لكن بقايا الإسبان تحصنوا في مدينة مليلية الساحلية، وشن هجومًا مماثلًا لأنوال سنة 1924، لكنه هذه المرة ضد الفرنسين، فانهارت خطوطهم الدفاعية وتفكك جيشهم، وانسحبوا إلى مدينة فاس.
تورَّع الخطابي عن دخول مليلية وفاس حيث تحصنت فلول أعدائه خوفًا من الضغوط السياسية، وتجنبًا للدمار أو المجازر التي قد يسببها جيشه، لكن ذلك كان أعظم أخطاء من لُقب بعد ذلك بأسطورة حرب العصابات، إذ لم تكن إلا مسألة أشهر لتنطلق حملات الاسترداد التي سيطرت بعد فترة وجيزة على عاصمة الخطابي، وأسقطت دولته، وأَسَرَته مع أُسْرَته، ونفته إلى جزيرة لاريونيون الإفريقية.
وكان هذا أيضًا نفس خطأ عمر المختار ومحمد إدريس السنوسي في ليبيا، إذ اكتفيا سنة 1916 بتوقيع اتفاق سياسي مع الإيطاليين وتقاسم ليبيا معهم بعد أن انهارت قواتهم وتمركزوا في شمالها، ولم تكن إلا مسألة الوقت لتنطلق حملات الاسترداد الإيطالي وتنتهي بأسر المختار وإعدامه.
ولكيلا نذهب بعيدًا، لا ينسى ثوار سوريا كيف انسحب جيش الأسد من إدلب سريعًا سنة 2015، ثم تمركز في أطرافها الجنوبية وشرع في شن حملة استرداد سريعة، ولولا لطف الله وتوفيقه للمجاهدين الذي حافظوا على زمام المبادرة وهاجموا فلول الأسد في أريحا وجسر الشغور وسهل الغاب؛ لكانت إدلب الآن حمراء تحت سيطرة الأسد.
كيف يمكن تلافي سيناريو حملات الاسترداد؟
هناك عدة حلول تاريخية لتجنب حملات الاسترداد:
أولًا: الاستمرار في التوسع السريع والهجوم المتواصل والحفاظ على عامل المبادرة بما لا يسمح للعدو أن يلتقط أنفاسه ويعيد تنظيم قواته، وصولًا إلى مركز ثقله الأساس والسيطرة عليه، وبهذا نضمن القضاء على العدو نهائيًّا. كما فعل المسلمون في ملاحقة فلول الفرس والروم بعد كل معركة وصولًا إلى فتح عواصمهما: المدائن ودمشق، فكانت نهايتهم عند ذلك.
وفي سوريا لدينا عاصمتان لنظام الأسد: الأولى ديمغرافية وهي اللاذقية وطرطوس، والثانية سياسية وهي دمشق.
ثانيًا: تحول القدرة أحيانًا والظروف الدولية عن ملاحقة فلول العدو، ولعل هذا قد يحصل في سوريا، فقد تجعل الضغوط السياسة من فتح دمشق والساحل متعذرًا، وهنا أفضل نموذج يمكن الاستفادة من تجربته هو الكيان الصهيوني، فبالنظر إلى طريقته عندما يريد إغلاق حربٍ ما نستنتج:
- أنَّه يبحث عن حلفاء دوليين يعترفون له بما أخذه من الجغرافيا، كما حصل عندما احتل الجولان، فلولا الاعتراف الأمريكي لما استطاع المكوث فيه.
- أنَّه يسيطر على المواقع الاستراتيجية والحاكمة التي تمكنه من إغلاق خط دفاعي قوي وإطلاق حملة سريعة إذا تطلب الأمر ذلك، كما هو الحال في جنوب لبنان وشمال فلسطين، إذ يتمركز الجيش الإسرائيلي الآن فوق أهم المرتفعات والتضاريس الجغرافية.
- الحفاظ على التفوق الأمني والعسكري مقارنة بخصومه، وذلك على مستوى التقنيات والمعدات والأسلحة والتشكيلات العسكرية.
خلاصة الأمر، أفضل حلٍّ لمنع حملات الاسترداد هو مواصلة الهجوم حتى تحطيم مراكز ثقل العدو في دمشق والساحل، فإن لم يكن ذلك ممكنًا في ظل الضغوط الدولية، وإن كان ولا بُدَّ من إيقاف التوسع، تبرز الحاجة إلى التمركز في مراكز جغرافية حاكمة تُؤمن المكتسبات الجديدة، وخاصة حلب، مع تجهيز صيغة سياسية تضمن الاعتراف الدولي -أو الاعتراف الإقليمي على الأقل- بالأراضي التي فُتحت، إضافة إلى كل ذلك لا بُدَّ من الحفاظ على التفوق العسكري والأمني؛ تحسبًا ليوم في المستقبل مثل يوم ردع العدوان.