
“الإنسان عدوُّ ما يجهل”
تلك حكمة من التراث العربي القديم، ينسبها البعض لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولا يُعلم قصد الإمام منها تحديدًا، هل هو إخبار منه بأنَّ عداوة الجاهل لغيره حتمية؟! أم هو إنشاء وتحذير من التكبر، وأمرٌ لنا بالتواضع والتعلم؟!
لا تنطبق هذه الحكمة على الأفراد فحسب، بل تشمل الدول أيضًا، فقد تبالغ الدول في سياساتها العدائية تجاه دولٍ أخرى، وما ذلك إلا لأنَّها تجهلها، وقد تبالغ الحكومات في توقع التهديدات، وما ذلك إلا لأنَّها لا تعلم القدرات والنيات الحقيقية لخصومها.
هذا ما يحصل مع إسرائيل الآن، فقد تغيرت قواعد اللعبة بعد سقوط الأسد.
كان نظام الأسد حديقة خلفية لإسرائيل، وشُرعت أبوابه أمامها، فعلمت قدراته العسكرية والأمنية، وانضبط بالسياسة التي رسمتها له في الجنوب، فلم يوزع نظام الأسد قواته جنوب سوريا إلا بموافقة إسرائيلية، وكان الاحتلال هو من يحدد أنواع القوات التي ينبغي أن تقترب من حدوده وأعدادها وتسليحها ومهامها.
أما الآن فقد تغير كل شيء، الإدارة الجديدة صندوق مغلق، نياتها مجهولة، وتحركاتها غامضة، وأهدافها مبهمة.
عدو إسرائيل في سوريا الآن هو المجهول
رغم أنَّ حكومة الشرع أكدت أكثر من مرة التزامها باتفاقية المنطقة العازلة 1974، فإنَّ ذلك لم يكف بالنسبة لإسرائيل، وكذلك بدا أنَّ مجرد فتح قنوات التواصل عبر الاستخبارات أو الخارجية لن يكون كافيًا لإزالة المخاوف الإسرائيلية. فما الذي تريده إسرائيل من القيادة السورية الجديدة؟
تستخدم إسرائيل العديد من وسائل الابتزاز والضغط، بداية من التصريحات الإعلامية التصعيدية، مرورًا بدعم الدروز في السويداء ودمشق، ودعم قسد شرق سوريا، وتحريض الولايات المتحدة سياسيًّا ضد الإدارة السورية الجديدة، وصولًا إلى العمليات العسكرية التي يمكن أن تصل في أي لحظة إلى استهداف مباشر لقوات الإدارة الجديدة.
ما يثير جنون إسرائيل أنَّ الرئيس أحمد الشرع بدأ يشكل فرقة عسكرية في درعا والقنيطرة وأخرى في السويداء، دون أن يتفق مع إسرائيل على حدود القوة المسموح بها، إضافة إلى ذلك بدأ الشرع بتعزيز وجود العناصر الأمنية في الجنوب، وإحكام قبضته على المؤسسات الحكومية والمنظمات المحلية، وإسرائيل تتفرج، ولا تعلم ما الذي يريده الشرع تحديدًا، وهذا ما جعلها تتوقع الأسوأ، وتعتقد أنَّ سوريا قد تصبح تهديدًا أشد من غزة ولبنان.
ما الخيارات المتاحة أمام إسرائيل؟
تصعّد إسرائيل من رسائلها الإعلامية وعملياتها العسكرية في الجنوب، وتحاول الضغط بمختلف الطرق على الإدارة الجديدة، وذلك تزامنًا مع فتح خطوط تواصل، وإن دل هذا على شيء، فإنَّه يدل أنَّ السياسة الإسرائيلية قائمة على مبدأ العصا والجزرة، لإجبار الشرع على قبول القيود والشروط التي قبلها النظام السوري سابقًا، والمتمثلة في إعطاء إسرائيل حق التحكم في تحركات ومواقع ومعدات وأعداد الجيش السوري في الجبهة الجنوبية، والأهم من هذا حق الوصول إلى المعلومات التي تحتاجها إسرائيل عن قدرات الجيش والدولة السورية. هذا إن لم نتحدث عن مطامع توسعية جديدة عبر ضم القنيطرة إلى الجولان.
لكن إن لم يقبل الشرع هذه المعادلة فإنَّ خيار تقسيم سوريا لدويلات مطروحٌ على الطاولة مع عدة شركاء دوليين، تقسيم يجعل الدولة السنية في سوريا محاطة بطوقٍ من الأقليات، بحيث يجعل جنوب سوريا تحت إدارة درزية مع بعض المكونات العربية لإضفاء الشرعية، كما هو الحال في الشرق، ويدعم الطائفة العلوية في الساحل ويشجعها على الانفصال.
ما الخيارات المتاحة أمام سوريا؟
إنَّ سوريا الآن في موقف لا يحسد عليه؛ تركةٌ ثقيلة من المؤسسات المترهلة والفاسدة، حالة أمنية مضطربة، وأقليات متمردة، واقتصاد منهار، إضافة إلى ذلك: موقف عربي مفكك، ودعم أمريكي مفتوح لإسرائيل.
وأمام هذا الواقع لا توجد الكثير من الخيارات المتاحة أمام الإدارة الجديدة، ولعل تنشيط العلاقات الدولية الضاغطة على إسرائيل عبر حلفاء سوريا هو الحل الأقرب للواقع، وفتح مسار تفاوضي عبر الدول الإقليمية (تركيا ومصر والأردن والسعودية) والمنظمات الدولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) لترتيب اتفاقية جديدة شبيهة باتفاقية 74.
لكن أهم ما يمكن أن يردع إسرائيل هو المواجهة، وإن كانت مكلفة على السياق التكتيكي، فتاريخ الاحتلال يدل على حقيقة أنَّه لا يمكن أن يتوقف عند حد ما، وسيطلب المزيد دائمًا، ونحن هنا لا نتحدث عن مواجهة عسكرية، بقدر ما تكون مواجهة أمنية ومدنية، من خلال تنظيم حراك شعبي شبيه بمسيرات العودة في غزة سنة 2018، يضغط على إسرائيل ويجعلها في مواجهة السكان، وقد يتطور الأمر إلى احتجاجات سكانية عنيفة تكلف القوات الإسرائيلية خسائر مادية محدودة.
إذا تمكنت القيادة الجديدة من إدارة مسار تفاوضي دولي ومسار احتجاجي شعبي في الجنوب، يمكن أن يخلق هذا شعورًا دوليًّا بضرورة التدخل قبل أن يتطور الأمر إلى حرب شعبية لا تُخمد عقباها، ويمكن أن يحد هذا من طموحات إسرائيل ويجبرها على إعادة تقدير موقفها في سوريا، قبل التورط في حرب جديدة شبيهة بحرب لبنان وغزة. لكن إن بقي الأمر على ما هو عليه، واستمر الجيش الإسرائيلي بالتقدم إلى عمق سوريا دون أي مواجهة أو عقبات، فمن الطبيعي أن تطمع إسرائيل بالمزيد.