أمنتقديرات

سحب سلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان: تحديات التنفيذ

لم تكن المخيمات الفلسطينية في لبنان يومًا تفصيلًا داخليًّا أو مسألة هامشية لمجموعة هنا أو هناك. فمنذ نكبة عام 1948، توسعت المخيمات الاثنا عشر الرسمية التي أُنشئت لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين، ليس جغرافيًّا واجتماعيًّا فحسب، بل حتى سياسيًّا ودوليًّا. وظهرت تجمعات فلسطينية أخرى حول المخيمات الأصلية أو بعيدًا عنها، فيما تحوّلت بعض هذه المواقع، بعد اتفاق القاهرة عام 1969، إلى معاقل استراتيجية للقضية الفلسطينية وسلاحها، حُشر فيها هذا السلاح في لبنان حصرًا بعيدًا عن ساحات المواجهة العربية مع إسرائيل، لتتشابك لاحقًا خطوط المقاومة مع تعقيدات الساحة اللبنانية.

لم تمضِ سنوات كثيرة حتى غدا السلاح الفلسطيني حاضرًا بقوة في الحرب الأهلية اللبنانية، وشريكًا في رسائل المنطقة، لا سيما خلال مرحلة منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات، حيث لعبت حركة “فتح” دورًا محوريًّا في صياغة تموضع الفلسطينيين والقوى الوطنية داخل لبنان. هذا الحضور أثار في المقابل، هواجس طائفية لبنانية تجلّت بعناوين ديمغرافية وسياسية، تُرجمت بتضييق اقتصادي واضح على الفلسطينيين، وحرمانهم من عشرات المهن، ومنع الأم اللبنانية من منح جنسيتها لأبنائها، خوفًا من التداخل الفلسطيني-اللبناني، وتحديدًا الإسلامي.

مع الوقت، أُهملت المخيمات وتحوّلت إلى رمز للجوء والصبر الفلسطيني، وسط ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، وتراجع مستمر في الدور السياسي والعسكري للفلسطينيين بعد تبدل المعادلات الإقليمية والدولية وحتى اللبنانية.

وفي عصر صعود “محور المقاومة”، عادت راية المواجهة في بعض المخيمات، لكن في حدود الإمكانات المتاحة، وسط فجوة تكنولوجية وميدانية هائلة مقارنة بإسرائيل. وعلى الرغم من الواقع الصعب، أنتجت المخيمات مؤثرين وقيادات، وأطلقت بعض الصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة، ما أبقى على حضور رمزي لسلاح المخيمات المقاوم لإسرائيل.

لكن هذا المشهد بدأ يتبدّل مؤخرًا، مع تبدّل الرياح الإقليمية والدولية. اليوم، العنوان بات بسط سلطة الدولة وسحب السلاح، لا سيما ذلك الذي قد يهدد إسرائيل. وتجاوز الموضوع الجانب الأمني، ليطال ملفات عالقة منذ عقود ومُقلقة إسرائيليًّا ودوليًّا، أبرزها المخيمات الفلسطينية وسلاحها.

لماذا الآن؟

ليس صدفة أن يُطرح ملف السلاح الفلسطيني بهذا الإلحاح في اللحظة الراهنة. بل هو نتاج سلسلة من التقاطعات المحلية والدولية التي جعلت من هذا الملف أولوية مستعجلة على الطاولة اللبنانية.

أول هذه العوامل هو الضغط الإسرائيلي-الأمريكي المتزايد لحصر السلاح داخل مؤسسات الدولة اللبنانية، وعلى رأسها الجيش. هذا المطلب لم يَعُد يُطرح كأمنية استراتيجية بل كأولوية أمن قومي غربي، ترتبط بملفات أوسع من لبنان.

ثانيًا، هناك الاندفاعة اللبنانية الرسمية، بدفع من ضغط دولي متفاعل، لتحقيق إنجاز ملموس يُظهِر الدولة في موقع المبادِر، لا المتلقّي. وسحب سلاح الفلسطينيين بدا في هذا السياق، الملف الأكثر قابلية للتطبيق من غيره كونه سلاحًا غير لبناني، لا يحظى بحاضنة طائفية داخلية، وتحيطه موافقة دولية ومحلية شبه تامة، ما يجعله ملفًا يمكن حسمه بأقل كلفة سياسية إذا ما قورن بملف سلاح حزب الله.

في المقابل، يرى حزب الله في هذا الانشغال فرصة لكسب الوقت. فكلما تعمّق النقاش في سلاح المخيمات، طالت المسافة الزمنية قبل أن يتفرغ لسلاحه شمال الليطاني. وربما يراهن على أن تغرق الدولة في تفاصيل المخيمات وتشابكاتها، فتُرهق أمنيًّا وسياسيًّا ويكون الواقع الإقليمي قد تغير ولو نسبيًّا خاصة العلاقة الأمريكية-الإيرانية.

من جانب آخر، الغطاء الرسمي الفلسطيني وفّره الرئيس محمود عباس، الذي قدّم دعمًا علنيًّا لخُطة الدولة اللبنانية، ما أزاح العائق السياسي الأبرز، وفتح الباب أمام التنفيذ الميداني. وتأتي الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية داخل المخيمات كعامل إضافي مسهّل؛ إذ لا قدرة حقيقية للفلسطينيين في المخيمات على رفض الطرح إذا ما أُرفق بحد أدنى من المكتسبات المعيشية والحقوقية.

لكن هناك بُعدًا أعمق، لا يُقال غالبًا، لكنه حاضر في حسابات الجميع: البعد الطائفي. فحزب الله، الذي اعتُبر لعقود المعادِل العسكري لإسرائيل في لبنان، تلقّى في السنتين الماضيتين ضربات مكثّفة، أضعفت قدراته الميدانية بشكل كبير وأثرت في أهدافه، فتبدّلت عقليته -بناء على الحجم والقدرة المستجدة- من عقلية مقارعة إسرائيل إلى عقلية حماية البيئة الشيعية الحاضنة. ومع الانقلاب التام في سوريا، وصعود قوى سنّية إلى الواجهة، وعودة الحديث عن دعم سوري محتمل لحلفاء في لبنان، يشعر الحزب أنَّه أمام مشهد إقليمي معادٍ يعيده إلى شعور الأقلية المُحاصَرة بعد سنوات من التمدد.

في هذا السياق، يرى الحزب في السلاح الفلسطيني بعدًا سنيًّا معاديًّا لا يُحبذ أن يُترَك على المسرح اللبناني إذا سحب سلاح حزب الله أي السلاح الشيعي. لذلك، يُفضّل أن يُفتَح ملف السلاح الفلسطيني أولًا، وأن يُعالَج حتى النهاية، قبل أن يُطرَق باب سلاحه شمال الليطاني.

عمليًّا: زيارة، خُطة، ومأزق التنفيذ

في 21 مايو 2025، وصل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى لبنان في زيارة لثلاثة أيام. ورغم غياب مؤتمر صحفي مشترك عقب اللقاء مع نظيره اللبناني، فيما بدا تجنبًا لأي تناقض علني في المواقف، فإنَّ الرسائل السياسية كانت واضحة: دعم فلسطيني رسمي لخُطة الدولة اللبنانية الرامية إلى إعادة تنظيم السلاح داخل المخيمات. وقد سُجّل بالفعل تسليم عدد من المواقع والأسلحة التابعة لفصائل تاريخية مثل “الجبهة الشعبية – القيادة العامة” خارج المخيمات -والتي تبعت فعليًّا للقيادة السورية- ما شكّل مؤشرًا عمليًّا على بدء تنفيذ الاتفاق.

في هذا السياق، جرى تشكيل لجنة تنفيذية مشتركة لبنانية-فلسطينية للإشراف على خُطة سحب السلاح، والتي يُفترض أن تبدأ فعليًّا بعد عيد الأضحى في يونيو 2025، عبر مراحل ثلاث متتالية. تبدأ المرحلة الأولى في مخيمات بيروت الكبرى: برج البراجنة، شاتيلا، ومار إلياس. ثم تنتقل المرحلة الثانية إلى مخيمات الشمال والبقاع، مثل مخيم البداوي. أما المرحلة الثالثة فتُركّز على المخيمات الجنوبية، وأبرزها الرشيدية، برج الشمالي، وعين الحلوة. وتعتمد الخُطة آلية لتسجيل الأسلحة وحصرها عبر مقارنة المعلومات المقدمة من الفصائل مع قاعدة بيانات الأجهزة اللبنانية، مع مراعاة الخصوصية الأمنية لكل مخيم. كما تتضمّن الخُطة خطوات لتسليم السلاح بشكل طوعي، إلى جانب تفعيل دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية (التابعة للسلطة) كمرحلة انتقالية تمهّد لتسلم الدولة اللبنانية المسؤولية الكاملة عن أمن المخيمات.

غير أنَّ تنفيذ خُطة سحب السلاح الفلسطيني من المخيمات لا يبدو مسارًا سهلاً أو مضمون النتائج، إذ يصطدم بعدد من العوائق التي تتجاوز مجرد مسألة جمع الأسلحة. أبرز هذه العقبات يتمثل في غياب سلطة مركزية موحّدة داخل المخيمات، وتعدد الفصائل، ما يجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق جامع يُلزم الجميع. كما أنَّ وجود مطلوبين في داخل المخيمات، بعضهم منخرط في شبكات تهريب أو في أنشطة إجرامية، يزيد من تعقيد أي تدخل أمني أو عملية تسليم منظم للسلاح.

العامل الإقليمي يفرض نفسه أيضًا كعائق رئيس. فصحيح أنَّه في حال وصل السيف إلى رقبة حزب الله يفضّل أن يكون الرأس الفلسطيني سابقًا عليه، فإنَّه يفضل بشكل أكبر أن تتعثر وتطول عملية سحب سلاح المخيمات فيطول من بعدها البحث في عملية سحب سلاحه أو تلجأ إليه الدولة كما لجأت إليه مختلف الأحزاب في بلدية بيروت، فيكون رابحًا في لعبة النقاط والتفاوض والوقت.

يضاف إلى ذلك العبء الأمني واللوجستي الهائل الذي ستتحمله الدولة اللبنانية في حال تسلّمت كامل المسؤولية الأمنية داخل المخيمات، وهو ما يتطلب موارد بشرية وتقنية لا تُستهان بها. وبين كل هذه الاعتبارات، يبقى هاجس المواجهة حاضرًا، خصوصًا مع الفصائل المسلحة المتصارعة التي قد ترفض الانصياع، ما يفتح الباب أمام اشتباكات وفوضى أمنية.

أما بالنسبة لمواقف الفصائل الفلسطينية، تُعبّر “فتح” عن تأييد واضح لخُطة الدولة اللبنانية في سحب السلاح، وتنسّق مع الأجهزة الأمنية اللبنانية على مختلف المستويات. فالرئيس محمود عباس شدد خلال زيارته إلى بيروت على أنّ “لا جيش في لبنان سوى الجيش اللبناني”، وأبدت “فتح” استعدادها لتسليم السلاح وتسليم الأمن للدولة تدريجيًّا. لكنها تُدرك محدودية قدرتها على فرض هذا المسار في مخيمات تضعف فيها سيطرتها، وتفضّل التدرج والحوار.

أما حركة “حماس”، فعلى الرغم من إعلانها احترام القانون اللبناني واستعدادها للحوار، فإنَّ موقفها العملي يبدو أكثر تحفظًا. فللحركة نفوذ واضح في معظم المخيمات الجنوبية، وقد ارتبط اسمها بحوادث إطلاق صواريخ من خارج هذه المخيمات، وإن نفت مرارًا مسؤوليتها المباشرة عنها. هذا التوازن الحذر الذي تمارسه “حماس” لا ينفصل عن تحالفها الوثيق مع “حزب الله”، وهو ما يضعها في موقع دقيق، تتحاشى فيه الاصطدام العلني بخُطة نزع السلاح، لكنها في الوقت نفسه تتوجس من فقدان أوراق نفوذها الميداني في محاولة استنساخ لموقف حزب الله من نزع سلاحه شمال الليطاني.

لكن موقفًا جديدًا لم يصدر عن الحركة بعد آخر تصريح للأستاذ أحمد عبد الهادي، ممثل حركة “حماس” في لبنان، لجريدة الأخبار مطلع هذا الشهر، والذي أكد أنَّ «حوارًا فلسطينيًّا- فلسطينيًّا» يجري في لبنان «من أجل التحضير لبناء رؤية فلسطينية موحّدة خاصّة بهذا الموضوع وبكل المواضيع الأخرى كالحقوق الإنسانية والاجتماعية وأمن مخيماتنا واستقرارها وقضايا أخرى».

مصادر الحركة تشير إلى أنَّها لم تُستشر، بل أُبلغت فقط، وهي تدعو إلى مقاربة هادئة وشاملة للملف تنطلق من رؤية سياسية-نضالية، لا أمنية ضيقة، مؤكدة أنَّ نزع السلاح قد يُمهّد للتوطين وإنهاء القضية الفلسطينية، من دون الإفصاح عن كيفية التصرف في حال فُرض سحب السلاح بالقوة.

أما حركة “الجهاد الإسلامي”، فقد عبّرت عن تحفظها عبر عضو مكتبها السياسي وممثلها في لبنان، إحسان عطايا، الذي حذر من الوقوع في فخ الضغوط الخارجية أو التفسيرات الملتبسة التي قد تُفضي إلى إضعاف رمزية المقاومة. وأكد عطايا احترام الحركة لقوانين الدولة اللبنانية، لكنه شدد على ضرورة وضوح الآليات والصيغ المطروحة، ورفض التعامل مع الملف خارج إطار التوافق الوطني الفلسطيني، محذّرًا من تغييب هيئة العمل الفلسطيني المشترك، وطرَح تساؤلات حول توقيت طرح الملف وأهدافه الخفية.

لقد صدر قرار سحب السلاح سريعًا من طرف الدولة اللبنانية ما دفع بالفصائل الفلسطينية إلى الاستنفار في اجتماعات مفتوحة دون تصريح عن موقف هذه الفصائل المستجد بانتظار خروج موقف موحد تعمل عليه الفصائل.

في موازاة ذلك، يطرح البعض مجموعة مطالب مقابلة لأي خطوة تُفضي إلى تسليم السلاح. في مقدمة هذه المطالب تأتي “المعالجة الجذرية” لملفات آلاف المطلوبين داخل المخيمات، بما يشمل تسويات قانونية تضمن إنهاء الملاحقات المزمنة. إلى جانب ذلك، تُطرح بقوة قضية الحقوق المدنية، وعلى رأسها الحق في العمل وتحسين الظروف المعيشية، وهي مطالب طالما نُظر إليها كجزء من الحد الأدنى للحياة الكريمة في المخيمات. وبين كل هذه المطالب، يبقى الثابت الفلسطيني غير القابل للتنازل بحسب مختلف القوى الفلسطينية هو رفض التوطين، والتشبث بحق العودة، كما نص عليه القرار الدولي 194، باعتباره جوهر القضية التي لم تُغلق بعد.

عمليًّا، اتخذت الدولة اللبنانية قرارًا جديًّا بسحب سلاح المخيمات وستبدأ به عمليًّا، في ظل اقتراب زيارة نائبة المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، إلى بيروت وجانب من زيارتها سيكون لمتابعة هذا الملف.

وتؤكد الأوساط الرسمية أنَّ العملية باتت مسألة “أسابيع وأيام”، لا “أشهر وسنوات”. ستتدرج الدولة بالتنفيذ ولذلك قررت البدء من بيروت حيث حضور السلطة الفلسطينية أكبر منه في مخيمات الجنوب حيث ثقل حركة “حماس”. أما ما بعد نزع السلاح، فلا تزال الصورة ضبابية إلى حد كبير، وإن كانت الدولة تحاول طمأنة الفصائل بأنَّ العملية ستتم بالحوار والتفاهم، وستقتصر على السلاح الثقيل والمتوسط. كما يُطرح خيار التنسيق مع السلطة الفلسطينية لتشكيل قوة شرطة فلسطينية خاصة داخل المخيمات، تتولى إدارة الأمن بشرط حصر السلاح بيدها فقط. وتهدف هذه الخطوة عمليًّا إلى تحقيق هدفين: أولًا، تجنيب الدولة اللبنانية الانخراط المباشر في تعقيدات المخيمات الأمنية والاجتماعية؛ وثانيًا، منح السلطة الفلسطينية مساحة أوسع من النفوذ داخل المخيمات. صحيح أنَّ الخطوات في هذا الملف تتسارع بوتيرة لافتة، إلا أنَّ تعقيداته لا تقلّ عمقًا وخطورة. فالمشهد محفوف بالتحديات، والنجاح فيه ليس حتميًّا، كما أنَّ تنفيذه بسلام ليس مضمونًا. فالمخيمات ليست مجرد جغرافيا مغلقة يمكن تنظيمها بقرار، بل هي تراكُم من التاريخ والسياسة والأمن والهوية، وأي خلل في المقاربة قد يحوّلها من ورقة تفاوض إلى ساحة انفجار.

محمد فواز

باحث في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى