تقديراتسياسي

العلاقات السعودية الإيرانية: قراءة في الأهداف الكامنة لزيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران

أثارت زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان للعاصمة الإيرانية طهران، في 17 أبريل 2025، موجة من التساؤلات حول توقيتها والأهداف المرتبطة بها. خلال زيارته، التقى وزير الدفاع السعودي بالمرشد الأعلى “علي خامنئي”، وسلمه رسالة خطية من الملك السعودي “سلمان بن عبد العزيز”، كما التقى بالرئيس بزشكيان، بالإضافة إلى رئيس هيئة الأركان في الجيش الإيراني، ومسؤولين سياسيين وعسكريين رفيعي المستوى.

جاءت التعليقات الرسمية للطرفين، السعودية وإيران، لتصف الزيارة بالمهمة، وتحصر مواضيعها في مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما يفضي إلى تعزيز التقارب بين البلدين. إلا أنَّ توقيتها، في خضم التوتر الإقليمي، والتصعيد الذي يقوده الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب” ضد إيران وحلفائها -الحوثيين في البحر الأحمر- تعطي انطباعات عن أهداف أخرى للقاءات عالية التمثيل، ولا سيما أنَّها تأتي أيضًا، قبل أيام من استئناف الجولة الثانية من المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، وحسابات المملكة في التوازنات القادمة.

قراءة الأسباب الكامنة لجولة الأمير خالد بن سلمان، تتطلب استيعاب العامل الإيراني في السياسة الخارجية السعودية، وانعكاسات توازن القوة بين اللاعبين الإقليميين على خيارات التصعيد والتهدئة للمملكة، بما في ذلك تأثيرات التبدلات الإقليمية ما بعد 7 أكتوبر2023، والمتغيرات الدولية بتتويج ترامب رئيسًا للولايات المتحدة 2024، وتبنيه نهجًا عنيفًا ضد إيران وحلفائها في المنطقة، وبالتالي الخروج بقراءة أوسع للتقارب الأخير بين الرياض وطهران في سياق يستوعب المستجدات، والخيارات السعودية للتعاطي معها.

مدخل: العامل الإيراني في السياسة الخارجية السعودية

تاريخيًّا، كانت المعضلة الأمنية مع إيران، في طليعة موجهات ومحركات السياسية الخارجية للملكة العربية السعودية، فجاء تأسيس مجلس التعاون الخليجي في مارس 1981 في خضم حرب الخليج الأولى، وبُعيد اندلاعها بحوالي سبعة أشهر، سبتمبر 1980. التوجس الحذر تحول إلى توتر متعدد الأصعدة، في أعقاب أحداث مكة 1987، وصدام الحجيج الإيرانيين مع قوات الأمن السعودية، واستمر في التصاعد ما بعد حرب الخليج الثانية 1990، التي غيرت المشهد الجوسياسي في المعادلة الخليجية – الإيرانية في تحول العراق من كيان حاجز إلى مصدر تهديد، ما دفع المملكة إلى الاتكاء بصورة غير مسبوقة على التحالفات مع القوى الدولية، تتقدمها الولايات المتحدة.

 المعضلة الجيوسياسية، تحولت إلى انهيار في البنية الإقليمية في أعقاب حرب الخليج الثالثة 2003، وإسقاط نظام صدّام حسين، الذي مهد الطريق نحو تمكين إيران من مضاعفة حضورها الإقليمي في مياه الخليج، وأراضي الهلال الخصيب، وحتى ضفة المتوسط، ووصولًا إلى بحر العرب وجنوب البحر الأحمر، وبلغ ذروته مطلع عام 2015 الذي شهد سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية “صنعاء”، وإعادة تثبيت نظام الأسد في سوريا، وهو ما علق عليه عضو البرلمان الإيراني في حينها “علي رضا زاكاني”، ومن بعده “حيدر مصلحي” وزير الاستخبارات الأسبق في حكومة “أحمدي نجاد”، بأنَّ إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، في إشارة إلى بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.

التصعيد السعودي: عاصفة الحزم ومسوغاتها

تزامنت تحولات ميزان القوة الإقليمي لصالح الكفة الإيرانية، مع تبني الولايات المتحدة -إدراة الرئيس أوباما- نهجًا مغايرًا في التعاطي مع الملف الإيراني، اتسم بالتهدئة والعمل الدبلوماسي بالشراكة مع المجتمع الدولي، وذلك بانطلاق المفاوضات على الملف النووي الإيراني في نوفمبر 2013، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية خُطة العمل المشتركة الشاملة في أبريل 2015 (JCPOA)، ما يعني ضمنيًّا، للرياض، أنَّ الركون للمظلة الأمنية الأمريكية لم يعد خيارًا فعالًا.

بين تراجع الحلفاء الشرق أوسطيين، وتبدل أولويات الحلفاء الدوليين، شهد تتويج الملك سلمان بن عبد العزيز، تحولًا جذريًّا في السياسة الخارجية للرياض نحو العمل العسكري المباشر، ومحاولة صناعة تحالفات عسكرية بديلة، الأمر الذي تبلور في عمليات عاصفة الحزم في اليمن، مارس2015، بمشاركة ثمانِ دول، ومحاولة توليد دومينو إقليمي يعيد معادلة التوازن إلى التفضيلات السعودية.

إنَّ اختيار اليمن، دون سواها من ملاعب حرب الوكالة في الشرق الأوسط، لتكون مسرح التدخل المباشر، بُني على العديد من الفرضيات والتفضيلات السعودية على المستويات السياسية والعسكرية والقانونية. سياسيًّا، ظلت المملكة لاعبًا مفصليًّا في رسم المشهد اليمني، وصناعة تحولاته في مختلف المراحل، بداية من دورها المباشر إبان اندلاع ثورة الجمهوريين ضد الإمام “محمد البدر بن حميد الدين” في 26 سبتمبر 1962، ولجوء الأخير إلى المملكة لقيادة قواته حتى 1970، ووصولًا إلى رعاية توقيع المبادرة الخليجية في 2011. ولذلك، عولت المملكة على امتلاكها لليد العليا في الساحة اليمنية أمام إيران.

على ذات المنوال، وعلى عكس الهلال الخصيب، سوريا نموذجًا، والتي تتنافس فيها إلى جانب إيران والسعودية كل من تركيا وأمريكا وروسيا، كانت اليمن أقل ساحات الاشتعال في الشرق الأوسط تنازعًا بين القوى الدولية والإقليمية، وربما أكثر معادلة توازن خالصة بين السعودية وإيران. ما يجعل التدخل فيها أقل اجترارًا لمعضلات أمنية جانبية. وتعزز هذا الموقف بانتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة 2017-2021 ودعمه لعمليات المملكة في اليمن.

عسكريًّا، ومن ناحيتين، عولت السعودية على عدم وجود خطوط إمداد متصلة بين الحوثيين وإيران، على عكس المليشيات العراقية ونظام الأسد وحزب الله، كما وبمقارنتهم بحلفاء طهران في شمال المملكة، مثَّل الحوثيون -في حينها- الحليف الأقل عتادًا وقوة. وفي المقابل، يعد اليمن الجار الأكثر تشاركًا للحدود البريّة مع المملكة، وبالتالي، الجبهة الأكثر حرجًا وتهديدًا لأمنها.

 أما من الناحية القانونية، شكَّل التهديد المباشر للحوثيين، وقفزهم على التوافق المحلي والدولي للمرحلة الانتقالية اليمنية وخارطة الطريق السعودية، مسوغًا قانونيًّا للرياض لخوض “حرب وقائية” جاءت مشفوعة بطلب الرئيس اليمني “عبد ربه منصور هادي”.

التهدئة والتحول إلى الأدوات غير المباشرة

واجهت التفضيلات السعودية العديد من التعقيدات على أرض الواقع، ففي الساحة اليمنية، لم تستوعب استراتيجية الاعتماد على الضربات الجوية -المتأثرة بنجاح عملية عاصفة الصحراء 1990- طبوغرافية اليمن والتضاريس الجبلية، التي شكلت دفاعًا طبيعيًّا للحوثيين. كما استطاع الحوثيون، استحداث خطوط تهريب ودعم لوجستي، عبر شريط الساحل الغربي لليمن، والصحراء الشمالية الشرقية، بالإضافة إلى استيلائهم على مخازن الأسلحة الاستراتيجية للجيش اليمني، ما مكنهم من الذهاب أبعد من الصمود، إلى تهديد الأراضي السعودية بالقصف المباشر، على غرار القصف الصاروخي للرياض في مارس 2018، واستهداف المنشآت النفطية شرق المملكة في مايو 2019.

في ذات الوقت، أفرطت المملكة في إدارتها للمشهد السياسي في اليمن أثناء الحرب، ومحاولة الإلمام بكافة تفاصيله، بما أعاد صناعة قيادة سياسية يمنية كاملة التواكل، وأحال الحكومة المعترف بها دوليًّا، من حليف استراتيجي للرياض، إلى عبء وتحدٍ موازٍ للتهديد الحوثي.

إقليميًّا، كان صمود الحوثيين من جانب، واستمرار التوغل الإيراني في الهلال الخصيب، بالتزامن مع الدعم الروسي للأسد، تثبيتًا لامتياز طهران الجيوسياسي، واستمرارًا لرجحان كفتها في الميزان الإقليمي، ما يجعل التصعيد استراتيجية عديمة الجدوى. وازداد الطين بلة بالتبدل الدولي، ولا سيما في الولايات المتحدة، بانتخاب “جو بايدن” 2021 رئيسًا، خلفًا لترامب، وموقفه ضد العمليات السعودية في اليمن، وإيقاف صادرات الأسلحة الهجومية إليها، مع التلويح بالعقوبات، الأمر الذي نقل الخيار التصعيدي، من عدمية الجدوى إلى الاستحالة.

استجابة للتحولات، بدلت المملكة سياستها الخارجية في التعاطي من العمل العسكري المباشر إلى اللعب على موازين القوة بصور غير مباشرة، يمكن تلخيصها في خمسة محاور رئيسية.

أولًا، عمدت الرياض إلى التجسير بينها وبين حلفاء طهران الدوليين، روسيا والصين، وتكمن أهمية الخطوة في تحييد هذه القوى عن الميزان السعودي-الإيراني، وربما أبعد من ذلك، في تقديم المملكة لنفسها حليفًا بديلًا عن طهران، ولا سيما لبكين، التي تنظر إلى النفط الإيراني بمعيار مزدوج في كونه مصدرًا بعيدًا عن التأثير الأمريكي، ولكنه في المقابل معرض للانقطاع بسبب ديمومة العقوبات الاقتصادية على طهران.

ثانيًا، وبالاتصال بالنقطة الأولى، فتح التقارب بين المملكة وحلفاء إيران خاصة الصين، الأبواب لمفاوضات بين الرياض وطهران. وبالتالي، كان المحور الثاني في استراتيجية السعودية، تهدئة عجلة المعضلة الأمنية مع النظير الإيراني. ولم يكن من باب المصادفة أن يكون الإعلان عن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين قطبي الشرق الأوسط في مارس 2023 في العاصمة الصينية، بكين، تاليًا لقمة الرياض التي جمعت الصين بدول مجلس التعاون الخليجي، ما بين 7-9 ديسمبر 2022.

ثالثًا، تصفير المشكلات مع حلفاء طهران الإقليميين، بداية من تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد في سوريا 2021 بعد قطيعة دامت لأكثر من 10 سنوات، ثم فتح باب المفاوضات مع الحوثيين، وزيارة السفير السعودي محمد آل جابر لصنعاء في رمضان، الموافق أبريل 2023، والتي عبّر عنها الموقف الرسمي للمملكة، بأنها تأتي لتثبيت الهدنة بين طرفي النزاع اليمني، وذهبت مصادر يمنية إلى أنَّها تأتي ضمن خُطة سعودية أوسع لصناعة سلام دائم بين المملكة والجماعة، ووضع ترتيب سياسي جديد في المشهد اليمني يكون الحوثيون طرفًا فيه.

رابعًا، صناعة نموذج لنجاح سعودي يؤدي إلى فشل معياري للنموذج الإيراني وسقوطه، وهي محاكاة للسقوط المعياري للاتحاد السوفييتي في مواجهة النموذج الأمريكي في منتصف الثمانينيات، والذي حاول ميخائيل جورباتشوف استدراكه بلا طائل في “البروسترويكا” و”الجلاسنوست” قبل أن ينتهي الأمر بتفكك الاتحاد السوفييتي. على ذات المنوال، مشاريع مثل “رؤية الأمير محمد بن سلمان 2030” واستضافة كأس العالم وإكسبو الرياض في ذات العام، وغيرها من الفعاليات والتحولات الهيكلية على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتي تهدف إلى تحويل السعودية إلى مركز إقليمي مقابل للانغلاق الإيراني، ومشروع الهيمنة الإقليمية لطهران المبني على ديمومة الصراع، واكتساب الأعداء بصورة مستمرة، ما يفضي في نهاية المطاف إلى الانفصال بين النخب الإيرانية الحاكمة ونموذجها من جهة والجماهير في الجهة الأخرى.  

خامسًا، وبعكس الخطوات السابقة، تأتي سياسة الانفتاح على منافسي إيران، والتي تجلت في محاولات متأرجحة للتقارب مع تركيا، تكللت بزيارة الرئيس أردوغان للرياض في عام 2022، ولكن دون أن تعقبها تطورات جادة في علاقة الطرفين. بالإضافة إلى ذلك يأتي تحريك ملف العلاقات السعودية-الإسرائيلية، برعاية أمريكية، وبما يعيد تعريف توازن القوة الإقليمي، بين معسكرين، تكون إيران معزولة في كفته المقابلة، دون عداء مباشر مع المملكة. وبالمجمل العام، تجتمع هذه الاستراتيجيات في كونها، مع تنوعها، تصبو إلى تغليب كفة السعودية في ميزان القوة الإقليمي دون الحاجة إلى التصعيد، ولكن عبر اللعب على أوراق الدبلوماسية وخيارات القوة الناعمة.

المشهد اليوم: الخيارات والقرارات

جاءت أحداث “طوفان الأقصى” 7 أكتوبر 2023، مدوية وبأصداء إقليمية واسعة، تجلت عند السعودية، في إعادة إنتاج القطبية الإقليمية مع إيران وحلفائها، الحوثيين على وجه الخصوص، على حساب محاولات التهدئة. حيث تطورت المواجهات إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات، وتدير عجلة الإقليم في عكس اتجاهات المساعي السعودية السابقة. كما أسهم الضغط الأمريكي على دول المنطقة، ودعم البيت الأبيض غير المشروط لإسرائيل، في إنتاج حالة شبيهة بالاصطفاف الإقليمي تذهب بالمنطقة نحو الانقسام إلى معسكرين متصارعين، أحدهما في صف واشنطن وإسرائيل، والآخر في الجهة المقابلة.

الحوثيون، واليمن بشكل عام، الذي كان رقعة الشطرنج الأولى، والأكثر تفضيلًا للمملكة، باتت حساباته أيضًا تذهب في الاتجاه المعاكس لرغبة الرياض في التوصل إلى مخرج مناسب، لا سيما بانطلاق عمليات البحر الأحمر، وتعطيل الملاحة الإسرائيلية، والذي سرعان ما تطور إلى عسكرة الممر المائي مع تكوين تحالف “حرّاس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة.

من جانبها، كانت للرياض حساباتها الخالصة في المشهد، إذ إنَّ التطورات، من زاوية أخرى بدت تجليًّا للنفوذ الإيراني، يجعل حسابات ومسارات التهدئة في موضع التشكيك، ويقلل من الأوراق التفاوضية ويضيق فرص نجاحها. بالرغم من ذلك، تعاطت المملكة مع التطورات الإقليمية بالأدوات الدبلوماسية، وحاولت إمساك العصا من المنتصف، وتبني موقف ينسجم مع الطرح الدولي التقليدي، بما يسهم في خلق وحشد دعم دبلوماسي لموقفها، وذلك ضمن حرصها في الحفاظ على مكتسبات مرحلة التهدئة، وتجنب انفجار صدام إقليمي موسع، باعتبار ذلك السيناريو الأكثر كارثية.

 تصدرت السعودية الموقف العربي في الحرب على الغزة، والداعي إلى إيقاف القتال، وإحياء عملية السلام على أساس حل الدولتين، ففي 11 نوفمبر 2023 دعت الرياض لعقد قمة عربية-إسلامية لمناقشة سبل إيقاف التصعيد الإقليمي وحماية المدنيين، وفي يناير 2024 التقى ولي العهد “الأمير محمد بن سلمان” بوزير الخارجية الأمريكي آنذاك “أنتوني بلينكن” لمناقشة سبل السلام في غزة، وإعادة مفاوضات الاتفاق الإبراهيمي، بينما في سبتمبر من العام ذاته، أطلق وزير الخارجية السعودي الأمير “فيصل بن فرحان” من نيويورك تحالفًا دوليًّا لدعم حل الدولتين. 

في البحر الأحمر، كان للمشهد خصوصية حرجة، دفعت الرياض للتعاطي مع التداعيات بحذر وتوجس شديدين. فبشكل عام، تقيّم المملكة، البحر الأحمر بحساسية كونه الممر والبديل الآمن لتصدير نفطها في موازاة الخليج العربي الذي تسيطر فيه إيران على مضيق هرمز، ولذلك، تمثل أي عسكرة للممر المائي الغربي معضلة جيوسياسية، وتهديدًا بحصارها، بغض النظر عن طبيعة الأطراف المتحاربة وأغراضها.

ولذات المحددات الجيوسياسية الخاصة التي قادتها للتصعيد في اليمن في 2015، ثم التهدئة فيما بعد 2019، تدرك الرياض أنَّ أي تحرك من طرفها ضد الحوثيين، سيولد فعلًا مضادًا من الجماعة التي سبق وأن نفذت هجمات صاروخية على الأراضي السعودية. ويزداد التحدي جسامة بتطور القدرات الصاروخية وسلاح المسيرات لدى الحوثيين منذ المعارك السابقة مع المملكة، ما يجعل مهمة اعتراضها أكثر صعوبة من ذي قبل.

إنَّ العمليات الأمريكية ضد الحوثيين، التي وجه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بانطلاقها في 14 مارس الماضي، ولم تزل وتيرتها في تصاعد حتى اللحظة، تزيد من تعقيدات الحسابات السعودية، وتضيق الخناق على خياراتها. إلا أنَّ الرياض، على الرغم من ذلك، لم تزل تطمح في نجاح استراتيجية التهدئة وفق المحددات الخمسة التي تم التطرق إليها سلفًا، وتأمل في أن يمنحها ذلك فرصة لإنتاج مخرج للمعضلة الإقليمية، يحقق لها موقفًا جيوسياسيًّا واستراتيجيًّا أكثر تفضيلًا.

تعوّل القيادة السعودية على رغبة ترامب في استعادة الردع الاستراتيجي، والذي يحتم على الولايات المتحدة شن ضربات موجعة ضد المصالح الإيرانية في المنطقة، بما يُرغم طهران وحلفاؤها على الإذعان للرغبة الأمريكية، ليس على مستوى هجمات البحر الأحمر وحسب، ولكن على صعيد ملفات التوازن الإيراني-الإسرائيلي، وملف إيران النووي الذي تم استئناف مباحثاته من جديد. إلى جانب الشق العسكري، الذي تخوضه أمريكا حاليًّا بعملياتها في اليمن، تتضمن الاستراتيجية شقًا دبلوماسيًّا يستدعي وجود وسيط يدير المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين، وهو الدور الذي ترغب السعودية في لعبه، وقد ترحب به إدارة البيت الأبيض.

وفي هذا السياق العريض، يمكن قراءة زيارة وزير الدفاع السعودي، بالتزامن مع الغارات الأمريكية على الحوثيين والأراضي اليمنية، وقبل أسبوع من انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات بين واشنطن وطهران حول الملف النووي يوم السبت الموافق 19 أبريل الجاري.

إنَّ الوساطة السعودية، لن تكون بالضرورة حتمية النجاح، وذلك لتعقيدات المشهد، وكذا للارتياب المتبادل بين طهران والرياض. لكنها في كل الأحوال، تفضي إلى نتيجة إيجابية لصالح المملكة. حيث إنَّ فتح قنوات اتصال مع النظير الإيراني في هذا التوقيت الحرج، يسهم في تثبيت التفاهمات بين الطرفين، بما في ذلك مكتسبات المرحلة السابقة. وفي حالة باءت استراتيجية الإرغام الأمريكية بالفشل، وأسفر ذلك عن توسعة الصراع، وتبدل قواعد الاشتباك إلى المستويات الأشد، فإنَّ المملكة وبحكم دور الوسيط الذي لعبته، ستكون -إلى حد ما- قد أمنت من أي رد فعل من جانب طهران وحلفائها، خاصة الحوثيين في اليمن.

بالإضافة إلى ذلك، احتمالية لعب الرياض لدور الوسيط بين واشنطن وطهران، تمنح البيت الأبيض خيارات إضافية للتعامل مع الملف الإيراني، عوضًا عن الإصرار الإسرائيلي بشن هجمات مباشرة على إيران نفسها. ما يعني أنَّ السعودية، في الجانب الآخر، غدت لاعبًا مؤثرًا في الميزان الإيراني-الإسرائيلي، في كلا الاتجاهين (التصعيد والتهدئة)، ما يرفع من موقفها التفاوضي في مباحثات الاتفاق الإبراهيمي مع واشنطن وتل أبيب على حد سواء.

الخلاصة

ظل العامل الإيراني محوريًّا في السياسة الخارجية السعودية، ورسم محدداتها الاستراتيجية. تطورت حالة توازن القوة بين اللاعبين الإقليميين ما بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003، إلى معضلة أمنية ذات وتيرة متسارعة، في الوقت الذي مالت فيه كفة ميزان القوة لصالح طهران، وتنامي نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، وهو ما استجابت له الرياض بالتصعيد وخوض الحرب المباشرة في الساحة اليمنية في عام 2015.

إنَّ النتائج العكسية لاستراتيجية التصعيد، قادت المملكة إلى محاولة تبديل المعادلة الجيوسياسية من خلال اللعب على الأوراق الدبلوماسية، واستغلال القوة الناعمة ضمن خمس محددات رئيسية، تضمنت التقارب مع المنافس الإيراني، وحلفائه الدوليين والإقليميين، وحتى خصومه، بما يفضي إلى فشل النموذج المعياري الإيراني المبني على استدامة التوتر والفوضى. وعليه، كانت التهدئة السعودية-الإيرانية في 2022، جزءًا من استراتيجية المملكة في التوازن ضد طهران، وليست مصالحة تنهي حالة التنافس بين القوتين الإقليميتين.

إنَّ الحرب الإسرائيلية على غزة، وما نتج عنها من توترات وانقسامات إقليمية، تدفع بالتطورات في المنطقة بعكس اتجاهات التفضيلات السعودية، والموقف ازداد تعقيدًا بقيام الولايات المتحدة بشن هجمات على الحوثيين في اليمن منذ 14 مارس الماضي، ضمن حملة أوسع تهدف إلى تقويض النفوذ الإيراني. بالرغم من ذلك، لم تزل المملكة تعوّل على استراتيجية التهدئة، ونجاحها في إنتاج موقف استراتيجي يصب في مصلحتها.

في هذا السياق، تأتي زيارة الأمير خالد بن سلمان استمرارًا لاستراتيجية التهدئة، والبحث عن التفوق في ميزان القوة الإقليمي بأدوات القوة الناعمة، كما تأتي -وعلى عكس الآراء السائدة- وبالرغم من قلقها من التصعيد الأمريكي، متصلة بأولويات واشنطن في الملف الإيراني، ومساعي الرئيس ترامب إلى إعادة ضبط معادلة الردع الإقليمية، وذلك عبر رعاية الرياض للشق الدبلوماسي في الاستراتيجية الأمريكية، بما يمنح البيت الأبيض خيارات وبدائل أوسع من المطالبات الإسرائيلية في استمرار التصعيد وتوسعة رقعة الحرب وشدتها.

تصبو الرياض في هذا المسعى إلى المواءمة بين مثلث استراتيجيتها الناعمة وأولوية تجنب الصراع مع إيران وحلفائها، وأهداف الضربات الأمريكية في إعادة الردع بالمنطقة، ودعم مستقبل التحالفات في الشرق الأوسط، ولا سيما الاتفاق الإبراهيمي عبر التطبيع مع إسرائيل، سعيًا من المملكة للوصول إلى موقف استراتيجي أكثر تفضيلًا.

خلدون عبد الله

ماجيستير في الدراسات الاستراتيجية والدفاع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى