بعد خمس سنوات من الاستقرار النسبي، تشهد سوريا حاليًّا معارك طاحنة من جديد، عنوانها ردع العدوان، ومضمونها قادمون يا حلب. خمسُ سنواتٍ شهد فيها العالم تقلبات لم تحدث من قبل؛ حربٌ روسية أوكرانية ضروسٌ شرقَ أوروبا، وصراعٌ أمريكي صيني عالمي، وصدامٌ إسرائيلي إيراني في قلب الشرق الأوسط، ظروفٌ توشك أن تعيد رسم خريطة المنطقة، إن لم تكن مقدمةً لحرب عالمية ثالثة.
دوافع الحرب
بعد انهيارات 2019 وخضوع إدلب لاتفاق خفض التصعيد بين روسيا وتركيا شكَّك كثيرون في قدرتها على شن حملات عسكرية، وتحدث البعض عن انتهاء الثورة وانطواء آخر صفحاتها. لكن في الحقيقة جميع المؤشرات كانت تدل على الضدِّ من ذلك، فقد برزت علامات واضحة باقتراب الانفجار.
فلنبدأ أولًا بالحديث عن الدوافع الاقتصادية، فشمال غرب سوريا منطقة ضيقة يسكنها خمسة مليون إنسان معظمهم في المخيمات ينتظرون العودة إلى أوطانهم، خمسة ملايين يقطنون أرضًا لا تكفي مواردها الزراعية وبناها التحتية مليوني نسمة فكيف بخمسة!! هل يُستغرب أن يفكر هؤلاء في التوسع من أجل الحياة؟
ولا ننسى الدوافع العسكرية، فلا يمكن تجاهل نتائج حملة سنة 2019 التي جعلت التهديد يصل حدود مدينة إدلب ومناطقها الحيوية والتجارية مثل سرمدا والدانا وباب الهوى، مما جعل قوى الثورة تستشعر الخطر الدائم، وتفكر في ضرورة دفع العدو إلى الخلف وتأمين محيط إدلب ومناطقها الحيوية.
لكن الدوافع السياسية هي الأهم على الإطلاق، فإدلب تعيش فرصة يندر أن تتكرر بانشغال روسيا وإيران في معاركهما الخاصة، وقابلية الغرب لإنشاء تحالفات مع الثورة، وإنَّ إضاعة هذه الظروف قد يعني فوات الفرصة الوحيدة للعودة إلى مسرح التأثير في الأحداث.
إلى أين الوجهة؟
في ظل الغموض الذي يحيط بالبيانات الرسمية للمعركة؛ فإنَّه يصعب معرفة وجهة الحرب النهائية، لأنَّ الأهداف المعلنة رسميًّا هي تأمين إدلب وإعادة المهجرين، لكن أيُّ مهجرين؟ مهجري الأرياف؟ أم حلب؟ أم حماة؟ أم الشام؟
لا أحد يعلم تحديدًا وجهة قيادة إدارة العمليات العسكرية (غرفة العمليات التي أُعلن عنها عند بدأ المعركة)، وإذا أردنا التحليل وفق معطيات الواقع؛ فيمكن القول إنَّ قيادة إدلب لا تحمل هدفًا واحدًا، بل أهداف متفاوتة المراتب تطرح أحدها على الطاولة كلما سمح الواقع والتوازنات الدولية بذلك.
بدأت العملية بأهداف تكتيكية؛ السيطرة على الفوج 46 وبعض القرى في ريف حلب الغربي، ولعلها إن فشلت في التقدم كانت ستعلن أنَّها مجرد عمل نوعي مثل كافة العمليات التي حصلت طيلة السنوات الخمس السابقة.
لكن مع نجاحها يظهر أنَّ الهدف البعيد قد طُرح على الطاولة، وهو استرداد المناطق التي سقطت في حملة 2019 عندما سيطر الأسد وحلفاؤه على مناطق ريف حماة الجنوبي وريف حلب الغربي التي يقطعها الطريق الدولي M5، وإذا نجحوا في ذلك فإنَّ الهدف الاستراتيجي الأبعد (تحرير حلب) طُرح لاحقًا على الطاولة.
والخلاصة أنَّ قيادة إدلب ذاتُ طابع ديناميكي، وإنَّ العمليات التي تشنها ليست على بُعدٍ واحد أو هدف واحد، وإنَّها قابلة للتوسع أو التقلص حسب الضغوط الدولية وشدة مقاومة جيش الأسد ومدى وقوف حلفائه (روسيا وإيران) معه، فما دامت قوات الأسد بهذا الضعف وما دام وجود روسيا وإيران بهذا الحجم؛ فإنَّ الهدف الأبرز أصبح حلب (العاصمة الثانية لسوريا) وليس أبعد من ذلك.
ويتوقع أن يجلس الجولاني مع رفاقه في غرفة العمليات، يمسك بيده أهدافًا متنوعة، ويراقب الضغوط الدولية المسلطة عليه وردود أفعال روسيا وإيران، فيطرح الهدف المناسب حسب درجة الضغوط وتغيِّر الوقائع الميدانية، وإن دل هذا على شيء فهو يدل على أنَّه قائد فذٌّ ومتمرس يصعب توقع أفعاله.
تحديات المرحلة
أظهر مقاتلو إدارة العمليات العسكرية في هذه المعركة مهارات فائقة (ويظهر أنَّ هذا ثمرة خمس سنوات من الإعداد)، فاعتمدوا على القوات الخاصة المدربة بشكل جيد، والطيران المسير متنوع الاستخدامات للاستطلاع والقصف الانتحاري، وأظهروا قدرة عالية في السيطرة على القوات وإدارة النيران وشبكات الإمداد والقتال الليلي، وشن حربٍ نفسية بين جنود العدو وحثهم على الانشقاق، إضافة إلى توظيف المؤسسات المدنية الأخرى في الحرب مثل وزارة التنمية والداخلية والإعلام والصحة، إذ كان لكل مؤسسة دورها المعد مسبقًا في الحرب.
إذا أردنا أن نختصر المشهد في كلمة؛ لقد دخلت إدلب الحرب كدولة وليس كفصيل، وليست الحرب التي أعلنتها عسكرية فحسب؛ بل إنَّها حربٌ نفسية وإعلامية ومؤسسية في نفس الوقت، أعدت فيها مسبقًا الطرقات والمشافي والمخيمات ومؤسسات الرقابة على الخطاب الإعلامي وخُطط الإخلاء والإمداد والإسعاف إلى غير ذلك من التجهيزات الشاملة التي تعدها الدول للحروب.
أي أنَّنا انتقلنا الآن من الحديث عن تنظيمات وفصائل معارضة للأسد إلى الحديث عن دولة ناشئة متماسكة الأركان قادرة على استبدال نظام الأسد إن حظيت بحلفاء دوليين.
لكن رغم أنَّ جيش هذه الدولة الناشئة استطاع تحقيق نصر كبير على الأرض وأخضع ما يقرب من 40 قرية وسيطر على ريف حلب الغربي وقطع الطريق الدولي M5 ثم دخل أحياء في قلب حلب؛ يبقى هناك سؤال علينا طرحه: هل يمكن لهذا الجيش بقدراته البشرية والتقنية المحدودة أن يواجه قوى دولية في حال تدخلت روسيا وإيران بجدية؟
لا بُدَّ أنَّ ذلك بعيد، خاصة وأنَّه لا يملك حلفاء دوليين يوفرون له الدعم العسكري والسياسي اللازم، ثم إنَّ تركيا لا يظهر تبنيها موقفًا جديًّا في دعم المعارضة بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر، لذا فالتحدي الكبير الذي تواجهه إدلب الآن هو تدخل القوات الروسية والإيرانية كما حصل سنة 2016.
ختامًا، إنَّ التحدي الأبرز يتمثل في القدرة الحقيقة لروسيا وإيران على التدخل في سوريا رغم انشغالهما بصراعات إقليمية أخرى، هل هذا فعلًا هو كل ما يستطيعان تقديمه؟
إن كان الأمر كذلك فلا بُدَّ أنَّ المشهد في سوريا سيتغير جذريًّا، بل قد لا نجد نظام الأسد في المستقبل القريب، وإن كان الأمر مجرد تأخر تكتيكي في الدعم أو ضغط روسي على الأسد لتحصيل المزيد من المكاسب، فإنَّ أفضل نصرٍ يمكن أن نطلبه من عملية ردع العدوان هو تأمين محيط إدلب، والاحتفاظ بما سيطروا عليه من حلب.