قبل أكثر من مئة عام وبالتحديد في يناير 1918 أفصح الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” في بيانه الشهير (المبادئ الأربع عشر) عن الرؤية الأمريكية للعالم بعد الحرب العالمية الأولى، والتي عملت كأساس نظري لمعاهدة فيرساي ومشروع عصبة الأمم، ثم الليبرالية العالمية التي شكلت النظام الدولي المعاصر في مراحل لاحقة. لكن وللمفارقة فإنَّ الولايات المتحدة لم تكن عضوا في المجلس التنفيذي لعصبة الأمم بعد اعتراض الحزب الجمهوري بمجلس الشيوخ على معاهدة فيرساي عام 1919.
ظهرت الخلافات بين ويلسون وكتلة الجمهوريين بقيادة السيناتور “هنري كابوت لودج” حول دور الولايات المتحدة على المسرح الدولي عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بدعم من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من تأييد الجمهوريين لتدخل بلادهم في الحرب فإنَّهم اصطدموا بويلسون فيما يخص حدود الدور والالتزام الأمريكي دوليًّا، وهو ما عبر عنه الحزب الجمهوري لاحقًا في بيان عام 1920 بجملة “إنَّ الحزب الجمهوري يؤيد الاتفاق بين الأمم للحفاظ على السلام في العالم.. وإنَّنا نعتقد أنَّ كل هذا يمكن القيام به دون المساس باستقلال وسيادة شعب الولايات المتحدة، ودون إقحام الولايات المتحدة كطرف مشارك -لا وسيط سلام- في نزاعات لا نستطيع الحكم على جدواها”، كما أبدى الجمهوريون توجسهم من المثالية التي طرحها ويلسون في رؤيته للعلاقات الدولية وصنع السلام في مرحلة ما بعد الحرب، وكان من ضمن مطالبهم استسلام ألمانيا غير المشروط ونزع سلاحها، وهو ما تعارض مع رؤية ويلسون الليبرالية.
ضمن الحجج التي ساقها لودج في رفضه للويلسونية برز تضارب “المصلحة الدولية” الملتزمة بفلسفة النظام الدولي الليبرالي مع المصلحة القومية الأمريكية، وضرب مثالًا بدور عصبة الأمم في قضايا مركزية مثل الهجرة، وتساءل السيناتور الممثل عن ولاية ماساشوستس “هل نحن مستعدون لمنح دول أخرى سلطة تحديد من يأتي إلى الولايات المتحدة ويصبح مواطنًا؟” وحذر قائلًا “إذا فعلنا هذا، فيجب أن نستعد للتخلي عن أغلى حقوق السيادة”.
وفي المجمل فإنَّ مواقف الحزب الجمهوري قامت على أساس الحد من الانفتاح على الخارج لحماية المصالح الأمريكية في الداخل، فكان لهم موقف حاد من سياسة خفض الضرائب الجمركية التي فرضها ويلسون، وعارض لاحقًا نظام التجارة المحرر الذي تبناه فرانكلين روزفلت حيث نص برنامجه لعام 1936 “سنلغي قانون اتفاقية التجارة المتبادلة الحالي، فهو قانون غير مجدي وخطير، وكان تأثيره مدمرًا على الزراعة والصناعة الأمريكية”.
اليوم يستمد خطاب ترامب كثيرًا من جاذبيته من ارتباطه بالنقاشات التاريخية للحزب واجتراره لذات المعاني والتساؤلات التي عبر عنها لودج ووثقها الحزب عبر تاريخه في مواثيقه، وهو خطاب يقوم في وجهه الأول على نقد دور الولايات المتحدة على الساحة الدولية كقوة مسؤولة عن قيادة وحماية الرأسمالية الليبرالية العالمية وما يجره ذلك من التزامات وتكاليف، في حين يقوم وجهه الآخر على التحذير من تداعيات هذا الدور على الداخل الأمريكي والهوية القومية والسيادة.
إنَّ النقاش السابق حول الدور الأمريكي العالمي يضرب بجذوره في التساؤلات غير المجابة حول الهوية الأمريكية، والتي طالما كانت محل تباين بين أيدولوجيا الحزبين، فهل تعبر الولايات المتحدة عن كيان اقتصادي وسياسي عالمي يستوعب كل ما دخل مجال نفوذه وتأثيره ضمن منظومة أيدولوجية واضحة المعالم، كيان ينظر للعالم كامتداد لفكرته ونظامه وبالتالي هو مسؤول عن تنظيمه وتشكيله، أم أنَّها تعبير عن كيان قومي وعرقي محدد بارتباط هوياتي وتاريخي، ينظر للعالم كساحة تأثير لا تعنيه قيادته والمشاركة في صياغته بقدر ما يعنيه تأكيد سطوته وضمان مصالحه القومية وقدرته على الردع، إنَّ هذا السؤال يمثل -على الأقل خلال القرن الأخير- مستوى الخلاف الأعمق بين الحزبين، وهو الأرضية التي تنطلق منها التباينات في المقاربات السياسية في مختلف المجالات والقضايا.
اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية
تتراوح أيدولوجيا السياسة الخارجية ومواقف الإدارات الأمريكية المختلفة في المجال الدولي بين تصنيفين أساسيين -لغرض التبسيط- هما الانعزالية Isolationism والعالمية Internationalism مع وجود مصطلحات وتوصيفات أخرى تحمل معاني مشابهة مثل: الصقور والحمائم، المحافظين الجدد والليبراليين، وذلك في سياق فهم تصورات السياسة الخارجية للنخب الأمريكية.
لتفكيك المصطلحات المذكورة آنفًا يمكن القول إنَّ الاتجاهات الأمريكية الخارجية تنقسم بين مدرستين:
- الأولى (الانعزالية) تؤمن بالمقاربة الأحادية التي تقوم على تحقيق المصلحة الأمريكية الاستراتيجية على أساس اعتبارات قومية محضة، وهو نهج يرى أصحابه الساحة الدولية كبيئة عمليات غرضها الأساسي خدمة الرفاه الأمريكي الداخلي، وترتبط هذه الرؤية بفهم الهوية الأمريكية على أساس قومي وتاريخي.
- أما الثانية (العالمية) فتؤمن بمقاربة شاملة تبني سياساتها ومواقفها على أساس العلاقة مع الحلفاء الدوليين، وضرورة صياغة بيئة دولية متناغمة أيدولوجيًّا، وهو نهج يعتبر المجال الدولي امتدادًا لفلسفة المركز (أمريكا) الذي يدير هذا النظام ويوظفه لخدمة مصالحه.
إذا ما اعتبرنا أنَّ العالمية والانعزالية على طرفي نقيض، فإنَّ هناك طيفًا من المواقف بين هذين الطرفين، وقد تراوحت مواقف قيادات الحزب الجمهوري تاريخيًّا بين درجات متقاربة من الانعزالية والعالمية ضمن هذا الطيف، فمن رؤية عالمية واقعية أصلت لضرورة الانخراط في المشهد الدولي على أساس براغماتي وفي نطاق ضيق، وهي مدرسة وزير الخارجية الأسبق “هنري كيسنجر” والرئيس الأسبق جورج بوش الأب، إلى رؤية انعزالية -محدودة- لا تتعاطى مع الخارج إلا في إطار تأكيد مصلحة الداخل الأمريكي، إما عبر تدخلات عسكرية محدودة بهدف الردع أو عبر صفقات فردية بعيدة عن القيم الليبرالية ومفهوم الاتفاقيات الدولية الشاملة والمؤسسات الدولية.
إنَّ الفارق بين الرؤيتين هو أنَّ الأولى تعترف بأهمية النظام الدولي لخدمة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة لكنها تتبنى مقاربة واقعية تسعى بشكل مستمر للحد من الالتزامات الأمريكية تجاه هذا النظام وعدم تعارضه مع المصلحة القومية، أما الثانية فلا تعترف بفاعلية النظام الدولي وتراه عبئًا على الولايات المتحدة، وهو الاتجاه الذي يمثله الرئيس الحالي دونالد ترامب، والاتجاهان يمثلان صورًا مختلفة للإمبريالية.
نظام عالمي مأزوم
يمكن القول إنَّ النظام الدولي المعاصر قام على ركيزتين أساسيتين: وحدات سياسية تجسدها الدولة الوطنية الحديثة، وترتيبات سياسية واقتصادية وأمنية وقانونية، تجسدها الاتفاقيات والمواثيق والمؤسسات الدولية. ورغم تماسك هذه الهياكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنَّ التحولات الكبرى التي شهدها المسرح الجيوسياسي الدولي على مر ثمانين عامًا تقريبًا، ساهمت في تفريغ هذا النظام من محتواه وانحسار شرعيته.
في المرحلة الممتدة منذ 1945 وحتى 1989 أطرت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي المسرح الجيوسياسي العالمي وساهمت بشكل محوري في تشكيل المواقف ونمط العلاقات الدولية، كما حددت الاتجاهات والنزعات السياسيـة، وقد شكل سباق التسلح والتنافس النووي بين القوتين تهديدًا جديًّا لركائز المنظومة الدولية، فواجهت مفاهيم السيادة الوطنية والسلام الشامل والتجارة الحرة خطر التقويض في ظل تصعيد مستمر بين قوتين عظمتين استخدمتا العالم كمسرح عمليات، كما حجّم هذا الصراع دور المؤسسات والاتفاقيات الدولية.
كان عام 1991 نقطة التحول أو ما اصطلح على تسميته لحظة “القطب الواحد” فمع تفكك الاتحاد السوفييتي خلت الساحة من أي منافس للولايات المتحدة على المستوى الجيوسياسي والأيديولوجي، واتسمت المرحلة اللاحقة لحرب الخليج الثانية بالهيمنة الأمريكية المطلقة، والتي عبر عنها بوش الأب في خطاب حالة الاتحاد يناير 1991 قائلًا “نحن نعرف جيدًا لماذا ننخرط في حرب في النصف الآخر من الكرة الأرضية، نحن أمريكيون، نحن جزء من شيء أكبر من أنفسنا، نحن لسنا هناك من أجل دولة صغيرة فقط؛ إنَّها فكرة عظيمة؛ نظام عالمي جديد، إنَّها حرب من أجل مسارات جديدة للعمل مع الدول الأخرى، والتسوية السلمية للنزاعات، والتضامن ضد العدوان، وتقليص ترسانات الأسلحة والسيطرة عليها، والمعاملة العادلة لجميع الشعوب”.
لكن النهج الأمريكي الذي تبع الحرب لم يلبِ وعود الخطاب السياسي، فتعرض النظام الدولي الذي تحدث عنه بوش لتقويض من نوع مختلف، حيث تحول التفوق العسكري والتقني الكبير للولايات المتحدة ليصبح الأداة الرئيسية لتشكيل البيئة الدولية، الأمر الذي شكل عبئًا على المنظومة الدولية، كما ساهم تجيير هذه المنظومة أو تجاوزها بالكلية لخدمة المصالح الأمريكية في تآكل شرعيتها ونشوء نظام مواز -بحكم الواقع- لا يخضع لذات المعايير.
مثلت القضية الفلسطينية خلال هذه الحقبة الصدع الأكبر في فلسفة النظام الدولي، وقد أدت الرعاية الأمريكية للمشروع الصهيوني والتماهي مع سياسات تحالفات اليمين التي هيمنت على الحكم 13 عامًا من أصل 19 عامًا خلال الفترة الممتدة من 1986-2005 (فترة الانتفاضة الأولى والثانية)، وتحول معاهدة أوسلو الموقعة في حديقة البيت الأبيض في سبتمبر 1993 إلى وثيقة ارتهان فلسطيني لدولة الاحتلال وغطاء لتمدد الاستيطان ومشروع التهويد، أدى كل ذلك إلى انحسار شرعية كل من المنظومة الدولية وقيادة الولايات المتحدة بعد أن نحت واشنطن مسارًا بعيدًا عن خطاب بوش عن “التسوية السلمية للنزاعات”.
وقد تُوج فشل المنظومة الدولية في تقديم نموذج إيجابي بقيادة الولايات المتحدة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تبعها من تطورات نوعية، حيث أفرزت الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب بأبعادها الأمنية والثقافية والسياسية انتهاكات على نطاق واسع للسيادة والحريات والحقوق الإنسانية، وقد مثّل غزو العراق وتحويله إلى دولة فاشلة أبرز تجليات السطوة الأمريكية، وجسدت الانتهاكات الفظيعة في سجن أبو غريب وجوانتانامو حالة انكماش النظام الدولي أمام النظام الأمريكي الجديد، وبدا كأن العالم تخلى عن فكرة نظام عالمي ليبرالي لصالح إمبريالية أمريكية غير مستترة.
بهذا النمط دفعت واشنطن البيئة الدولية إلى مزيد من الفوضى بدل الاستقرار، وعوضًا عن ردع أعدائها وخصومها، تعاظمت التحديات والتهديدات التي واجهت الولايات المتحدة عبر الشرق الأوسط وحول العالم، فبرزت مقاومة سنية في العراق أفرزت عدة تنظيمات جهادية مسلحة تبنى بعضها ردود فعل متطرفة كان آخرها تنظيم الدولة، في حين تحولت حرب أفغانستان إلى حرب استنزاف أدت لانسحاب مهين في 2021، وأدى تنامي الدور الإيراني في المنطقة عقب غزو العراق إلى بناء ما يعرف بمحور المقاومة وتعزيز قدرات أطرافه وجبهاته المختلفة (حماس، حزب الله، أنصار الله) التي تقود العمليات العسكرية ضد إسرائيل وفي البحر الأحمر اليوم، كما شجعت الظروف الدولية روسيا على غزو جورجيا في 2008 ثم شبه جزيرة القرم في 2014 وأخيرًا أوكرانيا في 2022.
مقابل المقاربات الأحادية التي هزت الثقة في واقعية فلسفة النظام الدولي، قادت الولايات المتحدة مسارات موازية هدفت لترميم شرعيته عبر التدخلات الجماعية تحت غطاء الشرعية الدولية في سياق حماية حقوق الإنسان وحق تقرير المصير والحد من تبعات الحروب على الشعوب، كما حدث في الصومال 1992، والبوسنة في 1993 وكوسوفو 1998، لكنها “فشلت” في تطبيق نفس المبادئ في مناطق أخرى والتي كان أبرزها الحالة الشيشانية رغم ما شهدته من فظائع إنسانية وجرائم حرب.
وقد أدى عدم الاتساق في الاستجابة الدولية للأزمات، إلى إعادة النظر في دوافع حالات التدخل “الناجحة” وقراءتها في السياق الجيوسياسي، فالتدخلات “الناجحة” وقعت في مناطق الاهتمام الأمريكي ومجالات حلفاء واشنطن الحيوية: القرن الإفريقي والبلقان بجنوب أوروبا.
“الترامبيزم”: فهم ظاهرة ترامب
يمثل “دونالد ترامب” حالة استثنائية في التاريخ السياسي الأمريكي وذلك على عدة مستويات؛ فعلى المستوى الشخصي يمثل خطاب ترامب الشعبوي، العدائي، والبعيد عن الدبلوماسية والطرح المعمق نمطًا غريبًا عن أنماط الخطاب السياسي التقليدي. جزء من هذا الخطاب تفسره شخصية ترامب الفظة، في حين تفسر “اللحظة السياسية” بقية أجزائه حيث أدرك ترامب مبكرًا مدى رواج هذا الخطاب الذي مس غضب كامن لدى شرائح واسعة من الأمريكيين.
على صعيد آخر مثّل سلوكه السياسي الارتجالي والمتهور حالة نادرة أخرى في مشهد الرئاسة الأمريكية، فإجراءاته غير المنضبطة بالأعراف والقوانين مثل الإقالات التعسفية لكبار المسؤولين والتعرض لهم بالشتم والإعلان عن مواقف مفاجئة في قضايا السياسية الخارجية والإفصاح عما يجري في كواليس العمل السياسي عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك أحدث هزات سياسية واجتماعية كبيرة.
“خطورة” ترامب كما يحب أن يصفها خصومه السياسيين تكمن في أثر سلوكياته المتجاوز للحظة السياسية فالطرح الذي يقدمه الملياردير الأمريكي القادم من عالم الأعمال والعقارات يمثل تهديدًا “للقيم الأمريكية” واستقرار النظام السياسي، وعلى سبيل الذكر لا الحصر فقد كان ترامب أول رئيس للولايات المتحدة يخل بالعرف الأمريكي القائم على تنازل المرشح الخاسر في سباق الرئاسة للرئيس المنتخب، بل لم يكتفِ ترامب بذلك فأقدم على سابقة خطيرة بالطعن في نتائج العملية الانتخابية واتهام الديمقراطيين واليسار بتزوير الانتخابات ثم تحريض أنصاره على التظاهر أمام مبنى الكونجرس، الأمر الذي قاد للهجوم على الكابيتول هيل في 6 يناير 2021.
أما على مستوى الظروف المحيطة بصعوده وولايته الأولى، فيعتبر أول رئيس أمريكي يتعرض لإجراءات العزل مرتين ويدان بارتكاب جريمة جنائية ويتهم بـ 91 جريمة أخرى، من ضمنها جريمة “التحفظ” على وثائق سرية من وزارة الدفاع. وقد أسست ولايته الأولى لحالة غير مسبوقة من الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي في الداخل الأمريكي، كما كان لتعيينه لثلاثة قضاة محافظين من -أصل تسعة- بالمحكمة العليا أثر كبير على البت في قضايا أساسية مثل الإجهاض والتسليح والهجرة، وفي المجمل فإنَّ مواقف ترامب وسياساته أحدثت هزات كبيرة على الصعيد الداخلي والخارجي سيكون لها أثر كبير على مسائل عميقة تتعلق بمفهوم الحريات والحقوق والديمقراطية وتداخل الدين مع السياسة.
وفي حملته الأخيرة تبنى ترامب مواقف أكثر حدة، فقد توعد بإعادة الحظر على الدول المسلمة بشكل أكبر مما كان عليه، كما توعد بشن حملة موسعة لاقتلاع المهاجرين غير النظاميين البالغ عددهم أكثر من 11 مليون مهاجر، وفي سابقة أخرى تضاف لرصيده توعد بإلغاء حق المواطنة بالولادة للأطفال المولودين في أميركا لوالدين أجنبيين وهو ما أثار جدلًا قانونيًّا وحقوقيًّا واسعًا لتعارضه مع البند الأول للتعديل الرابع عشر فضلًا عن القيم الأمريكية.
استثنائية ترامب لها وجه آخر يطل على السياسة الخارجية، حيث لا يتحرك الرجل البرتقالي -كما يصفه الإعلام الساخر- وفق منهجية منضبطة بقراءات أو توصيات مؤسسة السياسة الخارجية (إدارات ومستشاري وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، مراكز البحث والتفكير، خبراء الاستراتيجية والعلاقات الدولية)، ولكن وفق قناعات إجمالية مسبقة، فالمحرك الأساسي لمواقف ترامب هو التوجس من الخارج وازدراءه.
ورغم أنَّ النزعة الانعزالية التي يمثلها ترامب أخذت في التاريخ القريب مسار أكثر عقلانية ومنهجية، حيث تبنى الحزب الجمهوري منذ خمسينيات القرن الماضي مواقف أكثر انفتاحًا حول قضايا الهجرة والتجارة الحرة والتدخلات والتحالفات الخارجية، فإنَّ ترامب نجح في قراءة الاتجاهات الشعبية المختمرة والتقاط اللحظة ليقود الحزب لأقصى اليمين، وبمقارنة سريعة بين رؤية الحزب الجمهوري في عهد بوش الأب وحتى 2008، وبين رؤيته اليوم يظهر أثر “الترامبيزم” على أيدولوجيا الحزب وكيف انتقل الموقف العام من الحديث عن نظام عالمي ترعاه أمريكا والجدل حول حدود الانخراط الخارجي، إلى عقيدة “أميركا أولًا” غير المعنية بما يجري خارج أسوار الولايات المتحدة الأمريكية.
ساهم استمرار أوباما والديمقراطيين في البيت الأبيض لثماني سنوات متتالية في اختمار هذا الموقف وهي ظاهرة متكررة في تاريخ السياسة الأمريكية[1]، لكن عند تفسير هذا التحول لا يمكن إغفال المعطى الدولي، فولاية ترامب السابقة جاءت عقب تحولات دراماتيكية في المشهد الدولي، فرضتها الثورات العربية وما تبعها من تطورات أمنية من حروب أهلية، انقلابات، انتشار السلاح، تمدد القوى اللادولتية، وارتفاع معدلات الهجرة، بالإضافة لتمدد دور القوى الرسمية الإقليمية والدولية المنافسة إلى خارج حدودها، وأخيرًا وليس آخرًا تصاعد شعبية تيارات اليمين عبر أوروبا وما جلبه ذلك من اضطراب سياسي داخلي وتحولات في السياسة الخارجية.
هذا الظرف المتسم بالفوضى والتفلت الأمني كان دافعًا كافيًا لتعزيز فكرة الانعزالية لدى شرائح واسعة من النخب المترددة في تأييد هذا النهج، خصوصًا في ظل تركة إدارة أوباما التي شنت أوسع حملة اغتيالات بالطائرات دون طيار وتورطت في تدخلات خارجية جاءت بنتائج عكسية أثرت على اتجاهات الرأي العام في الداخل والتي كان أبرزها قضية مقتل السفير الأمريكي في ليبيا “كريس ستيفنز” في بنغازي في ذكرى أحداث 11 سبتمبر 2012، وهو حدث جاء عقب انخراط الولايات المتحدة في عملية عسكرية ساهمت في الإطاحة بنظام القذافي.
العالم في مهب الترامبيزم
تاريخيًّا كان لطبيعة شخصية رئيس الولايات المتحدة أثر على المقاربة الدولية أو الخارجية، لكن في جوهرها لم تتباين الاستراتيجيات الخارجية تجاه القضايا المركزية بشكل كبير، حيث كان حضور “المؤسسة” على المستوى الاستراتيجي ضابطًا دومًا للاختلافات بين تصورات الإدارات المتعاقبة. وقد مثّل الموقف من القضية الفلسطينية شاهدًا على ذلك، فمثلًا في قضية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها يعود تاريخ هذا القرار إلى أكتوبر 1995، حيث أقر مجلس الشيوخ مشروع هذا القانون مع وجود بند يسمح للرئيس بتأجيل توقيعه لستة أشهر من طرحه، وهو ما مارسه الرؤساء المتعاقبون[2] وفي حين تجسد خطوة توقيع ترامب على القرار أثر الاختلافات في الشخصية على مقاربة السياسة الخارجية، فإنَّ إعداد مشروع القرار قبل نحو ثلاثة عقود يجسد المستوى الأعمق لاتجاهات السياسة الخارجية.
عند الفحص القريب والدوري لسياسات وخطاب كل إدارة فإنَّ الفروقات تبدو كبيرة بين واحدة وأخرى، وذلك لوجود نزعة لتفسير السياسات الأمريكية على أساس الخطاب الحقوقي والأيدولوجيا الليبرالية، لكن عند النظر للسياق التاريخي الأعم والاتجاهات الاستراتيجية فإنَّ الفروقات تتضاءل بشكل كبير، وقد كان سلوك إدارة بايدن تجاه حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة منذ نحو 400 يوم أحدث شاهد على ذلك.
في محاولة قراءة أو استشراف السياسة الخارجية لترامب، قد يكون من المفيد تغليب تكوينه الشخصي وتاريخه المهني على أي اعتبارات موضوعية أخرى، فالبراغماتية العالية، الأطماع الشخصية، التشبع بالاستحقاق الأمريكي، وغياب الرؤية الأيدولوجية أو التاريخية لقضايا السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، هي المحدد الأساسي لمواقف ترامب، وقد لخص ذلك مستشاره الأسبق للأمن القومي “جون بولتون” عند سؤاله عن رؤية السياسة الخارجية لرئيسه بقوله “لا تتعب نفسك، ليس هناك رؤية ثابتة، فقط مزاجية، وضغائن، وهوس بصورته”.
استثنائية ترامب لا تقتصر على سلوكياته وظروف صعوده، وإنما تتجاوز ذلك لقضية تشغل النخب ودوائر التأثير الأمريكية على الطرفين وهي إرباك الاستراتيجية الأمريكية الخارجية، ففي ولايته السابقة اتخذ ترامب خطوات مربكة للساحة الدولية، فأطلق حربًا تجارية مع الصين، وهدد بالانسحاب من الناتو، وانسحب من اتفاقيات التجارة الحرة، والاتفاق النووي الإيراني، وتماهى مع حصار قطر، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس والجولان، وساهمت سياساته في تعزيز موقف روسيا على حساب أوروبا وتمدد النفوذ الروسي في مساحات أخرى[3]، ورغم أنَّ هذه السياسات لم ترتق لتشكيل تهديد استراتيجي على المصالح الأمريكية فإنَّ تراكمها واستمراره على هذا النمط لأربع سنوات أخرى قد يصنع ظرفًا دوليًّا غير قابل للضبط.
اليوم يعود ترامب للبيت الأبيض بعد غياب قصير بأعباء أقل، حيث لم تعد تشكل الاعتبارات الانتخابية ومصالح الداعمين قيدًا على سلوكه، كما أنَّه أكثر استعدادًا بعد تجربته السابقة، وهو ما يجعله أكثر جرأة وأعصى على التنبؤ مما سبق.
يمثل ملف التجارة والاقتصاد ركيزة أساسية في رؤية ترامب، ما يعني أنَّه سيكون معني بالمواجهة التجارية مع الصين ومعالجة قضايا التضخم وعجز الميزان التجاري وتقليل الالتزامات الأمريكية المالية وخفض أسعار النفط وإعادة تدوير عوائد نفط الخليج في الاقتصاد الأمريكي.
هذا الاتجاه سيكون له انعكاس على أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة الدولية، فتراجع الاهتمام الأمريكي بالانخراط على المستوى الجيوسياسي سيفتح المجال أمام الأطراف الدولية الأخرى مساحات تأثير أكبر، وهو ما شاهدناه في ولايته السابقة، وربما يلعب حلفاء واشنطن في الخليج هذه المرة دور أكبر في رسم ملامح المنطقة العربية مقابل مكاسب اقتصادية وتجارية تجنيها واشنطن، أما في المجال الأوروبي فترجح مقاربة ترامب الاتجاه نحو فتح المجال لروسيا لتحقيق مكاسب جيوسياسية مقابل إبعادها عن الصين التي كانت وما زالت تشكل الهاجس الأكبر لترامب.
تشكل هذه المقاربة البراغماتية بأهدافها المركزية الواضحة فرصة حتى للقوى الإقليمية المهددة بصعود ترامب، فطهران في نظره قد تكون ورقة رابحة لتعظيم المكاسب المحصلة من الخليج، ولو لعبت أوراقها بشكل صحيح فإنَّ الفرصة قد تتاح لها لتلعب دورًا أكبر في ظل العزوف الأمريكي عن التورط في الصراع الجاري، في المقابل تملك تل أبيب أفضلية على كل الأطراف السابقة بكونها الوتد المركزي للاستراتيجية الأمريكية، وفي حال لم تجلب سياسات نتنياهو واليمين الصهيوني أي تهديد أو ضرر للمصالح الأمريكية ومقاربة ترامب الخارجية فإنَّ التماهي مع تل أبيب سيمثل الخيار الأكثر نفعية.
على نطاق أوسع فإنَّ أثر الترامبيزم على استقرار النظام الدولي المعاصر لا شك ستكون سلبية وأنَّ دور الولايات المتحدة خلال ولايته سيتجه نحو الإمبريالية، في المقابل فإنَّ ما يكشفه النمط الذي يتبعه ترامب هو أنَّ رئاسته تمثل تهديدًا وفرصة في آن واحد، وأنَّ صعوده على علاته قد يدفع باتجاه ترسيخ حالة لامركزية، وبالتالي مساحة أكبر للفعل والتأثير.
[1] VERLAN LEWIS, The President and the Parties’ Ideologies: Party Ideas about Foreign Policy Since 1900
[2] congress.gov, S.1322 – Jerusalem Embassy Act of 1995
[3] By David D. Kirkpatrick, The White House Blessed a War in Libya, but Russia Won It, The New York Times