استراتيجيتحليلاتدوليسياسي

الاغتيالات السياسية الغامضة في باكستان

يتسم تاريخ باكستان بسلسلة من الاغتيالات السياسية الغامضة التي تركت البلاد في مواجهة أسئلة حول الدوافع والنوايا ومدى تورط مختلف الجهات الفاعلة فيها. وتثير هذه الحوادث مخاوف بشأن استقرار المشهد السياسي في البلاد والقدرة على الحفاظ على الحياة الديمقراطية فيها.  فقد شهدت باكستان منذ السنوات الأولى لاستقلالها حتى الآونة الأخيرة بروز العديد من الشخصيات السياسية التي واجهت نهايات مأساوية وغامضة في كثير من الأحيان.

تعود إحدى أقدم حوادث الاغتيال إلى عام 1951 الذي شهد مقتل لياقت علي خان أول رئيس وزراء باكستاني، إثر إصابته بالرصاص خلال حضوره تجمعا سياسا في روالبندي. كان هذا الحدث بمثابة بداية قاتمة لنمط الاغتيالات السياسية في تاريخ البلاد. وإذا تقدمنا بالتاريخ سريعاً إلى عام 1979، نجد أن ذو الفقار علي بوتو، رئيس الوزراء المخلوع والزعيم السياسي البارز ووالد بينظير بوتو، قد أُعدم في ظروف مثيرة للجدل بعد إدانته بالتآمر لارتكاب جريمة قتل سياسية. وأشار هذا الحدث إلى التقاطعات المعقدة والمظلمة في كثير من الأحيان بين السياسة والسلطة في باكستان.

شهد عام 1988 تطوراً آخر غير متوقع في ظل الوفاة الغامضة للرئيس محمد ضياء الحق الذي جاء للحكم من الجيش. فقد حدثت وفاته عندما تحطمت الطائرة التي تقله في ظروف غير واضحة. وأشارت نظريات المؤامرة إلى احتمالات حدوث جريمة قتل تنطوي على تخريب متعمد. وزادت هذا الاغتيال من الشكوك حول وجود أجندات خفية وصراع على السلطة خلف الكواليس.

وفي عام 2007، صُدم العالم باغتيال بينظير بوتو التي تولت منصب رئيسة الوزراء في البلاد لفترتين. وقد قُتلت بوتو في هجوم بالأسلحة النارية والقنابل بعد إلقاءها كلمة أمام تجمع انتخابي في روالبندي. وسلط هذا الحادث الضوء على التحديات الأمنية الخطيرة التي يواجهها القادة السياسيون في البلاد، فضلا عن المخاطر المحتملة المرتبطة بظهورهم العلني أمام الجمهور. وسبق لبوتو أن نجت قبل أشهر قليلة من محاولة اغتيال بواسطة هجوم انتحاري بالقنابل في كراتشي مما أودى بحياة 139 شخصاً فضلا عن إصابة آخرين.

مازالت هذه السلسلة من الاغتيالات السياسية الغامضة متواصلة، لكن تظل العديد من الحالات غير ملحوظة بسبب انتشار أحداث بارزة تجذب الاهتمام العالمي. ولم يؤد النمط المتكرر لعمليات القتل، والتحقيقات المشكوك فيها في تلك الحوادث إلا إلى تعميق الشبهات والشكوك بشأن الدوافع الحقيقية والعقول المدبرة وراء هذه الأعمال.

على مر السنين، تكررت الإشارة إلى تورط أقوى مؤسسة في البلاد، الجيش الباكستاني، في هذه الاغتيالات. وقد تأكدت هذه الشكوك بشكل أكبر في الأحداث الأخيرة مثل محاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الوزراء السابق عمران خان التي وقعت في 3 نوفمبر 2022 خلال مسيرة سياسية مناهضة للحكومة في منطقة وزيريباد بمقاطعة البنجاب. وقد اتسمت طبيعة الهجوم بعدم الكفاءة، فيما ساهم التعامل السيء مع المعلومات والأدلة الحساسة في تعميق الشكوك المحيطة بالقضية برمتها، وأثار تساؤلات حول صحة الرواية الرسمية وشفافيتها.

لقد كشف حديث خان عن تورط ضابط في الخدمة بالجيش الباكستاني في التخطيط وتنفيذ المحاولة عن مجموعة من المزاعم والاتهامات التاريخية بخصوص دور الجيش في الاغتيالات السياسية. ويشير قرار عمران خان بتسجيل رسالة فيديو مصورة يُحمل فيها بعض الأفراد المسؤولية عن أي ضرر قد يلحق به إلى مستوى الخوف وانعدام الثقة الذي يسود المناخ السياسي في باكستان.

زعم عمران خان أنه لم ينزل من سيارته خلال زيارة للمجمع القضائي في إسلام آباد بسبب مخاوف بشأن سلامته، مشيراً إلى وجود مجهولين يعتزمون قتله. وهو ما جاء في سياق الإجراءات القانونية المتعلقة بقضية توشاخانة (بيت الخزانة).

وفي وقت لاحق، واجه عمران خان تحديات قانونية متعددة. فقد ألقي القبض عليه في 9 مايو 2023، وبالرغم من الإفراج عنه بكفالة فقد أعيد اعتقاله في 29 أغسطس في قضية أخرى تتعلق بقانون الأسرار الرسمية. خلال هذه الفترة، أثار حزبه السياسي، تحريك الإنصاف الباكستاني، وزوجته بشرى بيبي، وأنصاره مخاوف بشأن سلامته أثناء احتجازه في سجن أتوك. وقد وردت أنباء عن حرمانه من حقه في الحصول على الطعام والماء من المنزل، مما أدى إلى مخاوف بشأن احتمال تعرضه لتهديدات بالتسمم أثناء وجوده في السجن. وتسلط هذه الأحداث الضوء على المشهد السياسي المعقد والمثير للجدل في بعض الأحيان في باكستان، فضلاً عن التحديات القانونية والأمنية المختلفة التي تواجهها شخصيات سياسية بارزة مثل عمران خان.

لقد أثبت جنرالات الجيش الباكستاني، على مر السنين، براعتهم في إعادة تشكيل صورتهم في أعقاب المنعطفات الحاسمة في تاريخ البلاد. وتجلت هذه القدرة بشكل أكثر لفتاً للانتباه بعد الهزيمة المذلة أمام الخصم اللدود الهند في حرب عام 1971، والتي انتهت بتقسيم باكستان وولادة بنجلاديش. واليوم، لا تزال المخاطر كبيرة بالنسبة لجنرالات الجيش وهم يشددون قبضتهم على المشهد السياسي المعقد في البلاد. فبينما تواجه باكستان أصعب معاركها السياسية، يبدو أن الجنرالات قد حسبوا أن تكلفة القضاء على عمران خان ستكون مرتفعة للغاية بعد محاولات الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها. وبدلاً من ذلك، فقد اختاروا جعل خان غير ذي أهمية سياسياً من خلال استغلال ثغرات قانونية مشكوك فيها وبمساعدة من القضاء الضعيف. وينطوي هذا النهج على استخدام قضايا قانونية وتشويه صورة خان باستخدام كل الوسائل الممكنة بما في ذلك القضاء الخاضع لنفوذ الجيش.

رُفعت العديد من القضايا القانونية وأًجريت العديد من التحقيقات ضد خان وأعضاء حزبه السياسي. وتتراوح هذه القضايا بين مزاعم بارتكاب مخالفات مالية وتهم بخرق القوانين السرية الرسمية. وقد اتخذ الجيش قراراً بإبقاء عمران خان في السجن لأطول فترة ممكنة، وتقليص أهمية حزبه السياسي، وتشويه سمعته لجعله يبدوا كسياسي فاسد مثل السياسيين المدانين الآخرين في البلاد. ويبقى أن نرى ما إذا كان الجيش سينجح في الحفاظ على قبضته المحكمة على باكستان من خلال هذه الاستراتيجية في حال إذا ما تمكن عمران خان المحاصر بالمشاكل من التخلص من القبضة الخانقة للجيش ومنح باكستان ما يسميه بالاستقلال الحقيقي أم أن التبعية القديمة للجيش ستعود بموجب ترتيب جديد يقوم على حل وسط.

لقد شهدت الدولة الواقعة في جنوب آسيا بالفعل انقلابات عسكرية متعددة وفترات من الحكم العسكري منذ نشاتها. وقد أدت هذه الأحداث إلى عرقلة بروز قيادة مدنية، مما أدى إلى تحديات فيما يتعلق بالحفاظ على استقرار الحكم واستكمال الولايات الكاملة لرؤساء الوزراء.

وقد أثارت مشاركة الجيش الباكستاني في مناصب خدمة مدنية رئيسية وعمليات صنع القرار، حتى خلال فترات الحكم المدني، مخاوف بشأن المساءلة والشفافية. وتستمر التطورات الأخيرة، مثل إقالة عمران خان من منصبه بدعم من الجيش في أبريل 2022، في تسليط الضوء على الديناميكيات المعقدة بين الجيش والسلطات المدنية في المشهد السياسي الباكستاني.

وفي الختام، فمنذ الأيام الأولى لاستقلال باكستان، شهدت البلاد نهايات مأساوية لشخصيات سياسية بارزة في ظروف غامضة. وقد ساهمت تلك الأنماط المتكررة، إلى جانب التحقيقات والادعاءات المشكوك فيها، في خلق أجواء من عدم الثقة. وجاءت محاولة الاغتيال الفاشلة لعمران خان لتكون بمثابة تذكير صارخ بالتحديات المستمرة التي تواجهها باكستان في جهودها للحفاظ على الاستقرار السياسي وضمان سلامة قادتها. ولن يكون لباكستان أي أمل في تجاوز ظلال ماضيها والمضي قدماً نحو مستقبل أكثر أمناً واستقراراً إلا من خلال تحقيقات تتسم بالشفافية والالتزام بالقيم الديمقراطية والرغبة في مواجهة الجوانب المظلمة من تاريخها.

Mohammad Pervez Bilgrami

political analyst and consultant. Middle East geopolitics expert

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى