
أندرو إل. ستيجلر أستاذ مشارك في قسم شؤون الأمن القومي في كلية الحرب البحرية
وجيمس جيموند المدير السابق لبرنامج الحرب المستقبلية في كلية الحرب البحرية
بينما راقب العالم روسيا وهي تستعد لغزو أوكرانيا في أوائل عام 2022، كان التوقع الأكثر شيوعًا في مجتمع الأمن القومي الأمريكي هو أنَّ الجيش الروسي سيسحق القوات الأوكرانية في وقت قصير. فعدد أفراد الخدمة الفعلية في روسيا البالغ 900 ألف فرد، وقوات الاحتياط البالغ عددها مليوني فرد، وميزانية الدفاع البالغة 45 مليار دولار، يفوق بكثير ما لدى أوكرانيا، التي يبلغ جيشها نحو 196 ألف جندي في الخدمة الفعلية، و900 ألف جندي احتياطي، وإنفاق دفاعي يعادل عُشر إنفاق روسيا وقت اندلاع الحرب.
ووفقًا لإحدى الروايات، فقد تنبأ الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، بشكل خاص لأعضاء الكونجرس بأنَّ أوكرانيا ستسقط في غضون 72 ساعة . وبدا من المرجح أن يشهد العالم أول غزو لدولة أوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منذ أكثر من 75 عامًا.
لقد كلف سوء تقدير موسكو روسيا مليارات الدولارات، وأسفر عن مئات الآلاف من الضحايا الروس، وألحق أضرارًا بالغة بأجزاء من الاقتصاد الروسي. ربما لم يكن بوتين ليُقدم على الهجوم لو توقع بدقة الصراع الكبير الذي سينجم عنه. لكن سوء تقدير الغرب أدى على الأرجح إلى تأخير تقديم مساعدات عسكرية حيوية، وقلص من قدرة الدول الأعضاء في حلف الناتو على بذل المزيد من الجهود لتعزيز دفاع أوكرانيا منذ بداية الحرب.
لقد أُغفل عامل واحد في التقييمات الغربية والروسية، وقد أربك نتائج الصراعات العسكرية الأمريكية لفترة طويلة، إذ تشير مراجعة الحروب الأمريكية والاشتباكات القتالية الرئيسية منذ الحرب العالمية الثانية -من فيتنام إلى الحرب العالمية على الإرهاب- بقوة إلى أنَّ سوء تقدير إرادة الخصم على القتال كان مساهمًا رئيسيًّا في فشل تلك الجهود في تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية الأمريكية.
وعلى الرغم من عدم القدرة على قياسها ماديًا، يجب أن يؤدي تقييم إرادة الخصم على القتال دورًا أكبر في تخطيط الأمن القومي الأمريكي وصنع القرار. وينطبق هذا بشكل خاص على الصراع العسكري المحتمل حول تايوان، حيث يمكن أن تؤدي إرادة القتال لدى كل من الصين وتايوان دورًا حاسمًا في تحديد نتيجة أي جهد عسكري صيني لتغيير الوضع الحالي لتايوان.
في كوريا، أساءت الولايات المتحدة تقدير استعداد الصين للانضمام إلى الصراع عندما اقترب الجنرال دوغلاس ماك آرثر من نهر يالو في أكتوبر 1950. وتبع ذلك ما يقرب من ثلاث سنوات من الحرب الدموية.
صعّدت إدارة الرئيس ليندون جونسون بشكل كبير الجهد العسكري الأمريكي في فيتنام عام 1965، معتقدة أنَّ الولايات المتحدة يمكنها هزيمة” جيش الفلاحين “في فيتنام الشمالية، على الرغم من مشاهدة القوات الفرنسية تكافح في فيتنام لمدة عقد تقريبًا سابقًا. لقد كان هذا أول عدة أخطاء في تقييم استعداد فيتنام الشمالية للقتال، واستمر مع إدارات متعددة في البيت الأبيض، حتى انتصار فيتنام الشمالية عام 1975.
في كوسوفو عام 1999، توقع المخططون العسكريون لحلف الناتو أنَّ بضعة أيام من القصف ستعلم الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش درسًا. ولكن عندما صعّد الصرب بشكل كبير من طردهم القسري لألبان كوسوفو، وجد حلف الناتو نفسه ملتزمًا بحملة جوية غير متوقعة دون مسار واضح للحل. وبعد ثمانية وسبعين يومًا، حقَّق التحالف الغربي نصرًا.
في الآونة الأخيرة، أظهر الفشل الذريع للجهود الأمريكية لبناء في أفغانستان، والتي استمرت عشرين عامًا مدى سوء تقدير واشنطن لقدرة طالبان على التعافي واستئناف الهجمات. كما كشف الانهيار المذهل للجيش الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة عن مدى المبالغة التي بالغ بها المسؤولون الأمريكيون في تقدير نجاح جهودهم في بناء حكومة وطنية أفغانية وجيش وشرطة قادرة قوية. ووفقًا لقواعد بيانات مشروع “مرتبطات الحرب” تُمثل هذه الصراعات الأربعة وحدها أكثر من 95% من إجمالي الخسائر الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في جميع هذه الحالات، حاول صانعو السياسات تقييم إرادة القتال لدى الأصدقاء والأعداء، لكنهم إما قللوا بشكل كبير من شأن عزيمة العدو (في حالة فيتنام) أو بالغوا في تقدير استعداد الشريك للقتال (في حالة أفغانستان). وقد أقرت مديرة الاستخبارات الوطنية آنذاك، أفريل هاينز، بذلك في شهادتها أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ في مايو 2022، عندما أشارت إلى أنَّ التنبؤ بالإرادة والقدرة “يصعب تقديم تحليل فعال بشأنهما”. في نظر صحفية أوكرانية “قد يبدو إصرار كييف على مواصلة القتال… غير منطقي”، لكن العديد من مواطناتها ومواطنيها يعتقدون أنَّ “عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاق سيئ”.
ليست الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي أخطأت في تشخيص إرادة خصومها. فمن استخفاف اليابان بالمقاومة الصينية في الحرب الصينية اليابانية الثانية، إلى سوء تقدير صدام حسين في غزو إيران عام ١٩٨٠، إلى جهود الاتحاد السوفيتي الفاشلة في أفغانستان، قللت دول عديدة من شأن إرادة الخصم على القتال.
فقبل هجوم بيرل هاربور عام ١٩٤١ بفترة وجيزة، أقرّ الجيش الياباني بأنَّه “من شبه المستحيل توقع استسلام الولايات المتحدة”. ثم تهرب هؤلاء الضباط الكبار من مسألة تناول الإرادة الأمريكية تمامًا، مشيرين بتفاؤل إلى أنَّه “لا يمكننا استبعاد إمكانية… حدوث تغيير كبير في الرأي العام الأمريكي” من شأنه أن يؤدي إلى استسلام الولايات المتحدة”. بعد أربع سنوات ونصف، أصبحت اليابان دولة مجروحة ومهزومة بشدة.
إنَّ ملاحظة أنَّ إرادة الأمة في القتال -أي تصميمها- يمكن أن تكون عاملًا حاسمًا في النتائج العسكرية ليست ملاحظة جديدة. فقد أشار الجنرال البروسي والاستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز في كتابه الرائد ” عن الحرب” إلى أنَّ قوة مقاومة العدو كانت مزيجًا من “الوسائل الكلية المتاحة له وقوة إرادته”. وكتب جدعون روز في كتابه” كيف تنتهي الحروب “أنَّ استراتيجية جونسون في فيتنام، المتمثلة في القصف والقتال وبناء الأمة، “كانت ستقنع الشمال على ما يبدو بإنهاء الحرب، مما يسمح للولايات المتحدة بالعودة إلى ديارها”. وقد اعتمد نجاح هذه الاستراتيجية بشكل كبير على الثقة في قدرة الولايات المتحدة على كسر إرادة فيتنام الشمالية، وهي الثقة التي ثبت أنَّها لا أساس لها.
قد يكون جزء من المشكلة بيروقراطيًّا. فالتحيز التنظيمي يؤدي إلى تفضيل المقاييس الملموسة -مثل حجم القوة وتكوينها أو مخزونات الأسلحة والمعدات العسكرية- التي يسهل قياسها لتقدير النتائج المحتملة. وفي كثير من الأحيان، تُركز تقييمات النتيجة المحتملة للصراع على القدرات العسكرية المادية. من الأسهل بكثير قياس هذه القدرات، وهي الأهداف الرئيسية الطبيعية والمفهومة للجهود الاستخباراتية. مع تقييمات الاستخبارات لاستعداد الدولة لقبول تكاليف الصراع، لا توجد أبدًا أدلة ملموسة تكفل الدقة.
هناك منطقٌ ما في ربط انتكاسات الولايات المتحدة وهزائمها بسوء تقديرها لاستعداد الآخرين للقتال. فبصفتها القوة العسكرية المهيمنة في العالم، ودولةً تتمتع بأمن جيوستراتيجي يُمكّن واشنطن من اختيار صراعاتها، من المرجح أن يختار الرؤساء الأمريكيون المواجهات التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بتفوق عسكري. ومن المنطقي أن تكون انتكاسات الولايات المتحدة وتعادلاتها الباهظة وهزائمها -في كوريا وفيتنام وأفغانستان- نتيجةً لسوء تقدير الإرادة، وليس سوء تقدير التوازن العسكري. يجب على صانعي القرار مراعاة هذه الحقيقة عند توقع النتائج ودراسة الالتزامات العسكرية، وأن يُجروا نقدًا ذاتيًّا صارمًا لافتراضاتهم ونظرياتهم.
ولكن الآن، ومع مواجهة صراع محتمل مع الصين وتهديدات عبر النظام الدولي، أصبحت الولايات المتحدة معرضة مرة أخرى لخطر سوء تقدير استعداد الخصوم للقتال ــ مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب كارثية محتملة.
تشير التصريحات الأخيرة للأدميرال سام بابارو قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلى أنَّ أنشطة الصين الجارية حول تايوان ليست “تدريبات” بل “بروفات” لإعادة التوحيد القسري. وتميل السيناريوهات الافتراضية لنزاع محتمل بين الولايات المتحدة والصين حول مستقبل تايوان إلى افتراض أنَّ تايوان ستدافع بحزم -كيف لا، بالنظر إلى الدعم الذي قدمته واشنطن والشعور القوي بالهوية الوطنية؟- ولكن إلى أي مدى قد تقاوم تايوان غزوًا صينيًّا؟ هذا سؤال معقد، ويتطلب انخراطًا حاسمًا.
إنَّ عواقب سوء تقدير إرادة تايوان كبيرة. تشير التقارير الأخيرة إلى أنَّه بينما تستعد القوات المسلحة التايوانية بثبات لصدام لا مفر منه مع الصين، فإنَّ قوات الاحتياط التايوانية -التي من شبه المؤكد أنَّها ستصبح موردًا حاسمًا في صراع طويل الأمد- غير كافية تمامًا.
يجب أن تأخذ الاستراتيجية الأمريكية هذا في الاعتبار، إلى جانب مراعاة المشاعر العامة بعناية بشأن الأسئلة المتعلقة بإرادة تايوان لمقاومة التوغل الصيني. بدلًا من التركيز فقط على المعدات العسكرية التي يجب إرسالها إلى تايوان والتي يمكن أن تردع الصين أو تجعل الغزو مكلفًا، قد يتساءل الاستراتيجيون الأمريكيون عن كيفية دعم الإرادة الوطنية لشعب تايوان. وبصراحة، لا يمكن لواشنطن أن تزيد من إرادة حليف للقتال في أزمة، بغض النظر عن عدد الرصاص أو القنابل المضافة إلى ترسانة الحليف.
إنَّ الأخطاء في تقدير الإرادة الحالية والمستقبلية قد تؤدي إلى هزائم. ولعلّ المسؤولين لا يتورّعون عن وضع هاتين الحقيقتين في أذهانهم عند تقييم الأزمات، حتى مع المخاطرة بضبط النفس المفرط. كما أنَّ المخططين العسكريين الذين يتأثرون لا شعوريًّا بعوامل لا تُعدُّ مؤشرات على الإرادة -مثل فقر الدولة، أو ثقافتها غير الغربية، أو صغر حجمها وقلة عدد سكانها- قد يدفعون أنفسهم دون قصد إلى اتخاذ قرارات خاطئة. ولعلّ وصف وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت ماكنمارا لفيتنام الشمالية بأنَّها “دولة صغيرة متخلفة” يُمثّل مثالًا جليًّا، ويدل على عقلية اعتقدت أنَّه لا شكّ في أنَّ الجيش الأمريكي قادر على إجبار هؤلاء الفلاحين الفيتناميين على الرضوخ. وبالنظر إلى اعتقاد القادة العسكريين الأمريكيين اليوم بأنَّ الصين قد حددت عام 2027 كعامٍ قريبٍ من عام اتخاذ القرار بشأن تايوان، فإنَّ الفترة التي تسبق ذلك التاريخ قد تكون حاسمة لتذكر العقبات المستمرة والإخفاقات السابقة في جهود الولايات المتحدة لتقدير استعداد كلٍّ من الخصوم والحلفاء للقتال.