استراتيجيترجمات

فورين بوليسي: كيف انتهت 30 عامًا من السياسة الأمريكية بكارثة؟

أمريكا هي المتسبب الرئيسي في الحرب الأخيرة في إسرائيل وفلسطين

بينما يحزن الإسرائيليون والفلسطينيون على القتلى وينتظرون حاليا، بخوف، أخباراً عن المفقودين، فإن الميل للبحث عن شخص يمكن إلقاء اللوم عليه هو أمر تستحيل مقاومته بالنسبة للكثيرين.

يريد الإسرائيليون ومؤيدوهم إلقاء اللوم كله على حماس، التي أصبحت مسؤوليتها المباشرة عن الهجوم الواسع على الإسرائيليين أمراً لا جدال فيه. ويرى أولئك الأكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية أن المأساة هي نتيجة حتمية لعقود من الاحتلال والمعاملة القاسية والمطولة التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين. ويصر آخرون على أن هناك قدرا كبيرا من اللوم، وأن أي شخص يرى أن أحد الطرفين بريء بالكامل بينما الآخر مسؤولا بمفرده، فقد أي قدرة على الحكم العادل.

من المحتم أن يؤدي الجدال حول أي من الأطراف المباشرة الأكثر مسؤولية إلى حجب الأسباب المهمة الأخرى التي لا ترتبط إلا بشكل فضفاض بالصراع الطويل بين الإسرائيليين الصهاينة والعرب الفلسطينيين. ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل تلك العوامل الأخرى حتى أثناء الأزمة الحالية، لأن آثارها قد يستمر صداها لفترة طويلة بعد توقف القتال الحالي.

إن تتبع أسباب الصراع هو أمر تعسفي بطبيعته، فهل نبدأ بكتاب تيودور هرتزل “الدولة اليهودية” الصادر عام 1896؟  أم إعلان بلفور عام 1917؟ أم الثورة العربية عام 1936؟ أم خطة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1947؟ أم الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، أم حرب عام 1967؟

 إني سأبدأ من عام 1991، عندما برزت الولايات المتحدة باعتبارها القوة الدولية التي لا منازع لها في شؤون الشرق الأوسط، وبدأت تحاول بناء نظام إقليمي يخدم مصالحها. ففي هذا السياق الأوسع، هناك ما لا يقل عن خمس حلقات أو عناصر رئيسية ساعدت في إيصالنا إلى الأحداث المأساوية التي وقعت في الأسبوعين الماضيين.

أولا: حرب الخليج عام1991

كانت اللحظة الأولى هي حرب الخليج عام 1991 وتداعياتها المتمثلة في مؤتمر مدريد للسلام.

لقد كانت حرب الخليج عرضاً مذهلاً للقوة العسكرية الأميركية والبراعة الدبلوماسية التي أزالت التهديد الذي شكله صدام حسين على توازن القوى الإقليمي. ومع اقتراب الاتحاد السوفييتي من الانهيار، أصبحت الولايات المتحدة آنذاك في مقعد السائق للنظام الدولي بقوة. لقد اغتنم الرئيس جورج بوش الأب ووزير الخارجية جيمس بيكر وفريق من ذوي الخبرة في الشرق الأوسط هذه الفرصة لعقد مؤتمر للسلام في أكتوبر 1991، ضم المؤتمر ممثلين عن إسرائيل وسوريا ولبنان ومصر والجماعة الاقتصادية الأوروبية، ووفد أردني/ فلسطيني مشترك.

ورغم أن المؤتمر لم يسفر عن نتائج ملموسة ــ ناهيك عن التوصل إلى اتفاق سلام نهائي ــ فإنه وضع الأساس لجهد جاد لبناء نظام إقليمي سلمي. ومن المثير للاهتمام أن نتأمل ما كان من الممكن تحققه لو أعيد انتخاب بوش في عام 1992 وأتيحت لفريقه الفرصة لمواصلة عملهم.

ومع ذلك، احتوت مدريد أيضاً على خلل مشؤوم، وهو الخلل الذي زرع بذور الكثير من المتاعب في المستقبل. فلم تتم دعوة إيران للمشاركة في المؤتمر، وردت طهران على استبعادها بتنظيم اجتماع لقوى “الرفض” وبالتواصل مع الجماعات الفلسطينية – بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي – التي تجاهلتها في السابق. وكما لاحظ تريتا بارسي في كتابه “التحالف الغادر”، فإن “إيران اعتبرت نفسها قوة إقليمية كبرى وتوقعت الحصول على مقعد على الطاولة”، لأن مؤتمر مدريد “لم يكن يُنظر إليه على أنه مجرد مؤتمر حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل كلحظة حاسمة في تشكيل نظام الشرق الأوسط الجديد”. كان رد طهران على مدريد استراتيجياً في المقام الأول وليس إيديولوجياً: فقد سعت إلى أن تثبت للولايات المتحدة وغيرها أنها يمكن أن تعرقل جهودهم لإنشاء نظام إقليمي جديد إذا لم تؤخذ مصالحها في الاعتبار.

وهذا هو ما حدث على وجه التحديد، حيث أدت التفجيرات الاستشهادية وغيرها من أعمال العنف إلى تعطيل عملية اتفاقيات أوسلو وتقويض الدعم الإسرائيلي للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. وبمرور الوقت، ومع بقاء السلام بعيد المنال، وتدهور العلاقات بين إيران والغرب بشكل أكبر، أصبحت العلاقات بين حماس وإيران أقوى.

ثانيا: هجمات سبتمبر وغزو العراق

كان الحدث الحاسم الثاني هو المزيج المشؤوم من هجمات 11 سبتمبر 2001 والغزو الأمريكي اللاحق للعراق في عام 2003.

 لم يكن قرار غزو العراق مرتبطًا إلا بشكل عرضي بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على الرغم من أن النظام العراق البعثي دعم القضية الفلسطينية بعدة طرق. فقد اعتقدت إدارة جورج بوش الابن أن الإطاحة بصدام من شأنها القضاء على التهديد المفترض لأسلحة الدمار الشامل العراقية، وتذكير الخصوم بقوة الولايات المتحدة، وتوجيه ضربة ضد الإرهاب على نطاق أوسع، وتمهيد الطريق لتحول جذري في الشرق الأوسط بأكمله وفق مسارات ديمقراطية. لكن ما حصلوا عليه، للأسف، كان مستنقعاً مكلفاً في العراق، وتحسناً هائلاً في موقع إيران الاستراتيجي.

 أثار هذا التحول في ميزان القوى في الخليج قلق السعودية ودول الخليج الأخرى، وبدأت تصورات التهديد المشترك من إيران في إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية بطرق مهمة، بما في ذلك تغيير علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل. كما شجعت المخاوف من “تغيير النظام” بقيادة الولايات المتحدة إيران على السعي للحصول على قدرة كامنة في مجال الأسلحة النووية، مما أدى إلى زيادة مطردة في قدرتها على التخصيب وفي المقابل فرض عقوبات أكثر صرامة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة على طهران.

ثالثا: الانسحاب من الاتفاق النووي

بعد فوات الأوان، كان الحدث الرئيسي الثالث هو التخلي المشؤوم للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 مع إيران وتبنيه سياسة “الضغط الأقصى” بدلاً من ذلك. كانت لهذا القرار الأحمق العديد من الآثار المؤسفة: فقد سمح التخلي عن الاتفاق النووي لإيران بإعادة تشغيل برنامجها النووي والاقتراب أكثر من القدرة الفعلية على تصنيع الأسلحة، وأدت حملة الضغط الأقصى إلى قيام إيران بمهاجمة شحنات النفط والمنشآت في الخليج وفي السعودية، مما أدى إلى تفاقم المشكلة. وظهر للولايات المتحدة أن محاولتها إرغام إيران على الإذعان لم تكن خالية من التكاليف والمخاطر.

وكما هو متوقع، زادت هذه التطورات من مخاوف السعوديين وزادت اهتمامهم بالحصول على بنية تحتية نووية خاصة بهم. وكما تتنبأ النظرية الواقعية، فإن تصورات التهديد المتزايد من إيران شجعت أشكالاً هادئة ولكن مهمة من التعاون الأمني بين إسرائيل والعديد من دول الخليج.

رابعا: اتفاقيات إبراهام

التطور الرابع كان ما يسمى باتفاقات إبراهام، فهي في بعض النواحي امتداد منطقي لقرار ترامب بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة. كانت هذه الاتفاقيات، التي هي من بنات أفكار الاستراتيجي الهاوي (وصهر ترامب) جاريد كوشنر، عبارة عن سلسلة من الاتفاقيات الثنائية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمغرب والبحرين والإمارات والسودان. وأشار النقاد إلى أن الاتفاقيات لم تقدم سوى القليل نسبيا لتعزيز قضية السلام لأن أيا من الحكومات العربية المشاركة فيها لم تكن معادية أصلا لإسرائيل أو قادرة على إيذاءها. وحذر آخرون من أن السلام الإقليمي سيظل بعيد المنال طالما ظل مصير سبعة ملايين فلسطيني يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية دون حل.

واصلت إدارة بايدن السير على نفس المسار تقريبًا. ولم تتخذ أي خطوات ذات معنى لمنع حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة من دعم أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون المتطرفون بشكل متزايد، والتي أدت إلى ارتفاع عدد القتلى والمشردين بين الفلسطينيين على مدى العامين الماضيين. وبعد الفشل في الوفاء بوعد حملته الانتخابية بالانضمام مرة أخرى على الفور إلى الاتفاق النووي مع إيران، ركز بايدن ورفاقه جهودهم الرئيسية على إقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل نوع من الضمانات الأمنية الأمريكية، وربما الوصول إلى التكنولوجيا النووية المتقدمة.

ومع ذلك، فإن الدافع وراء هذا الجهد لم يكن له علاقة تذكر بإسرائيل وفلسطين، وهدف في الغالب إلى منع السعودية من الاقتراب من الصين. لقد كان سعى ربط الالتزام الأمني تجاه السعودية بالتطبيع في المقام الأول إلى التغلب على إحجام الكونجرس الأمريكي عن التوصل إلى صفقة جيدة مع الرياض. ومثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته، يبدو أن كبار المسؤولين الأمريكيين افترضوا أنه لا يوجد شيء يمكن لأي جماعة فلسطينية القيام به لعرقلة هذه العملية أو إبطائها أو لفت الانتباه مرة أخرى إلى محنتهم.

ولسوء الحظ، فإن صفقة التطبيع السعودي الإسرائيلي التي ترددت شائعات بخصوصها، أعطت حماس حافزاً قوياً لإظهار مدى خطأ هذا الافتراض. إن الاعتراف بهذه الحقيقة لا يبرر بأي حال من الأحوال ما فعلته حماس، وخاصة القسوة المتعمدة للهجمات؛ لكنه يشرح ببساطة أن قرار حماس بالقيام بشيء ما – وخاصة من جهة التوقيت – كان استجابة للتطورات الإقليمية المدفوعة إلى حد كبير بمخاوف أخرى.

خامسا: فشل عملية السلام

كما أشرت في مقالي السابق، فإن العامل الخامس لا يتمثل في حدث واحد، بل في فشل الولايات المتحدة المستمر في إنهاء ما يسمى بعملية السلام. لقد احتكرت واشنطن إدارة عملية السلام منذ اتفاقيات أوسلو- التي حدثت، كما يوحي اسمها، بسبب الوساطة النرويجية-، ولم تؤد جهودها المختلفة على مر السنين إلى أي نتيجة في نهاية المطاف. لقد أعلن الرؤساء الأمريكيون السابقون بيل كلينتون، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما مرارا وتكرارا أن الولايات المتحدة – أقوى دولة في العالم في ذروة ما يسمى بلحظة الأحادية القطبية – ملتزمة بتحقيق حل الدولتين، ولكن هذا النتيجة الآن أبعد من أي وقت مضى وربما مستحيلة.

تعتبر هذه العناصر الأساسية مهمة لأن النظام العالمي المستقبلي يمكن لأطراف أخرى الاستيلاء عليه، فالعديد من الدول المؤثرة تتحدى النظام القائم على القواعد الليبرالية الذي دافعت عنه الولايات المتحدة لعقود من الزمن، والذي يُتبع بشكل غير متسق. فالصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وإيران ودول أخرى تدعو علناً إلى نظام متعدد الأقطاب تُتقاسم فيه السلطة بشكل أكثر توازناً. إنهم يريدون أن يروا عالماً لم تعد الولايات المتحدة تتصرف فيه باعتبارها القوة التي لا غنى عنها، عالماً يتوقع من الآخرين أن يتبعوا قواعده مع الاحتفاظ بالحق في تجاهلها كلما ثبت أنها غير ملائمة. ولسوء الحظ بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الأحداث الخمسة التي وصفتها للتو وتأثيرها على المنطقة توفر ذخيرة قوية لموقف تلك الدول، وهو ما سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإشارة إليه في الأسبوع الماضي.

ربما يقولون “انظر فقط إلى الشرق الأوسط، إن الولايات المتحدة تدير المنطقة بنفسها منذ أكثر من ثلاثة عقود، فماذا أنتجت قيادتها؟ نرى حروبًا مدمرة في العراق وسوريا والسودان واليمن. ولبنان على أجهزة الإنعاش، وهناك فوضى في ليبيا، ومصر تتجه نحو الانهيار. لقد تحولت الجماعات المسلحة وتحورت وزرعت الخوف في عدة قارات، ولا تزال إيران تقترب من القنبلة النووية. لا يوجد أمن لإسرائيل ولا أمن ولا عدالة للفلسطينيين. هذا ما ستحصلون عليه عندما تتركون واشنطن تدير كل شيء يا أصدقائي. ومهما كانت نواياهم، فقد أظهر لنا قادة الولايات المتحدة مرارا وتكرارا أنهم يفتقرون إلى الحكمة والموضوعية لتحقيق نتائج إيجابية، ولو حتى لأنفسهم”.

بوسع المرء أن يتخيل بسهولة مسؤولاً صينياً يضيف: “هل لي أن أشير إلى أننا نتمتع بعلاقات جيدة مع الجميع في المنطقة، وأن مصلحتنا الحيوية الوحيدة هناك تتلخص في القدرة على الوصول إلى الطاقة بشكل موثوق. ولذلك، نحن ملتزمون بالحفاظ على المنطقة هادئة وسلمية، ولهذا السبب ساعدنا إيران والسعودية على إعادة العلاقات بينهما في العام الماضي. أليس من الواضح أن العالم سيستفيد إذا تراجع دور الولايات المتحدة هناك وتزايد دورنا؟”

إذا كنت لا تعتقد أن رسالة كهذه قد يتردد صداها خارج الحدود المريحة للمجتمع الغربي عبر الأطلسي، فأنت لم تنتبه لذلك. وإذا كنت أيضًا شخصًا يعتقد أن مواجهة التحدي المتمثل في الصين الصاعدة يمثل أولوية قصوى، فقد ترغب في التفكير في كيفية مساهمة تصرفات الولايات المتحدة السابقة في اندلاع الأزمة الحالية، وكيف ستستمر ظلال الماضي في تقويض مكانة الولايات المتحدة بالعالم في المستقبل.

يُحسب لبايدن وفريقه للسياسة الخارجية أنهم يفعلون على مدار الأسبوع الماضي ما يجيدون القيام به، وهو على وجه التحديد إدارة أزمة كانت على الأقل جزئيًا من صنعهم. إنهم يعملون وقتًا إضافيًا للحد من الأضرار، ومنع انتشار الصراع، واحتواء التداعيات السياسية الداخلية، ووضع حد للعنف. وينبغي لنا جميعا أن نأمل أن تنجح جهودهم.

ولكن كما أشرت قبل أكثر من عام، فمن الأفضل أن يُنظَر إلى فريق السياسة الخارجية التابع للإدارة الأمريكية باعتباره ميكانيكياً ماهراً وليس مهندساً، ففي حيث أصبحت البنية المؤسسية للسياسة العالمية تشكل قضية متزايدة الأهمية، أصبحت هناك حاجة إلى مخططات جديدة. إنهم بارعون في استخدام أدوات القوة الأمريكية لمعالجة المشاكل قصيرة المدى، لكنهم عالقون في رؤية عفا عليها الزمن لدور أمريكا العالمي، بما في ذلك كيفية تعاملها مع مختلف زبائنها في الشرق الأوسط. ومن الواضح أنهم أخطأوا بشدة في قراءة الاتجاه الذي يتجه إليه الشرق الأوسط، وأن استخدام الضمادات اليوم ــ حتى لو تم ذلك بجهد ومهارة ــ سوف يترك الجروح الكامنة دون علاج.

إذا كانت النتيجة النهائية لجهود بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن الحالية هي مجرد العودة إلى وضع ما قبل 7 أكتوبر.  فأخشى أن ينظر بقية العالم، ويهز رأسه في فزع واستنكار، ويخلص إلى أن الوقت قد حان لاتباع نهج مختلف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى