في السنوات الخمس المضطربة من 2018 إلى 2023، تغيرت الديناميكيات بين إريتريا وإثيوبيا من العداء إلى التعاون، لكنهما الآن على شفا الحرب.
تتشابك علاقات البلدين المتغيرة بشكل عميق مع السياسات الإقليمية والصراعات على السلطة، التي تدور في المقام الأول حول سعي إثيوبيا الطموح لاستعادة الوصول إلى البحر الأحمر، الذي فقدته في عام 1991 بعد استقلال إريتريا.
لقد دأب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على إلقاء اللوم، خلف الأبواب المغلقة على “جبهة تحرير شعب تيغراي” لقبولها استقلال إريتريا. كذلك ألقى آبي أحمد مؤخرًا باللوم على إريتريا في عرقلة اتفاق بريتوريا للسلام الموقع بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية الفيدرالية، الذي أنهى العام الماضي الحرب الأهلية في إثيوبيا، التي قاتلت فيها إريتريا إلى جانب الحكومة ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي
في 13 أكتوبر الماضي، بثت وسائل الإعلام الإثيوبية خطابًا مسجلًا ألقاه آبي أحمد أمام البرلمان، سلط فيه الضوء على أهمية البحر الأحمر لمستقبل إثيوبيا؛ إما لدفعها نحو العظمة أو إغراقها في غياهب النسيان، فضلًا عن إعلانه طموحه لإنشاء قاعدة بحرية، وذلك بعد أن شكل بالفعل قوة بحرية.
لقد أثارت هذه التصريحات قلق الدول المجاورة مثل جيبوتي والصومال وحتى الولايات المتحدة، حيث حث وزير الخارجية أنتوني بلينكن إثيوبيا وإريتريا مؤخرًا على الامتناع عن أي استفزازات واحترام استقلال وسيادة وسلامة أراضي جميع دول المنطقة.
لم تتمتع إثيوبيا المعاصرة بإمكانية الوصول المباشر إلى البحر الأحمر إلا في الفترة ما بين عامي 1952 و1991، وهي فترة شهدت حربًا شرسة انتهت بانفصال إريتريا. وبعد حصول إريتريا على الاستقلال، عادت إثيوبيا إلى حدودها السابقة دون ترسيم رسمي للحدود.
تصاعد النزاع الحدودي بين البلدين في عام 1998 ليتحول إلى حرب استمرت حتى عام 2000، وانتهت باتفاق الجزائر الذي دعا إلى إنشاء لجنة لترسيم الحدود. وقبلت إثيوبيا حكم اللجنة على مضض، ولم تنفذه بشكل فعال، مما أدى إلى مواجهة متوترة استمرت حتى صعود آبي إلى السلطة في عام 2018. وجدير بالذكر أنَّه خلال الفترة من 1998 إلى 2018، شهدت إثيوبيا نموًا اقتصاديًّا كبيرًا دون الاعتماد على الموانئ الإريترية.
عندما زار آبي أحمد إريتريا في يوليو 2018، أعلن مع الرئيس الإريتري أفورقي انتهاء حالة الحرب، واتفقا على استعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح الرحلات الجوية وتسهيل التجارة من خلال فتح الحدود المشتركة. وأدى اتفاق السلام المهم هذا إلى إعادة فتح السفارات واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين، الأمر الذي ولَّد في البداية تفاؤلًا كبيرًا. وقد حصل آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام عام 2019 تقديرًا لدوره في حل النزاع الحدودي مع إريتريا. لقد كان تقدير لجنة نوبل بمثابة مكافأة في المقام الأول لعملية السلام التي هدفت إلى إنهاء صراع واحد في حين جرى إرساء الأساس لعدة صراعات أخرى عن غير قصد.
لم تدم نشوة نوبل طويلًا، فبعد بضعة أشهر أغلقت الحدود مرة أخرى، وبقيت العديد من القضايا التي لم تُحل حيث بقيت الاتفاقيات التي وقعها الزعيمان محاطة بالسرية. وفي وقت لاحق، انطلقت في عام 2020 حملة عسكرية مشتركة مدمرة ضد إقليم تيغراي للقضاء على عدو مشترك هو “جبهة تحرير تيغراي”، مما أدى إلى أزمة إنسانية واسعة النطاق.
تشير مصادر عسكرية إريترية إلى أنَّ البلاد تستعد الآن لحرب محتملة حيث تحشد إثيوبيا قواتها بالقرب من الحدود الإريترية في زالمبيسا -التي تبعد 100 ميل عن العاصمة أسمرة- وجبهة عصب التي تضم ميناء عصب الذي يبعد 45 ميلًا عن الحدود الإريترية الإثيوبية، التي قد يكون من الصعب على إريتريا الدفاع عنها.
لقد شهدت هذه المناطق مؤخرًا نشاطًا متزايدًا للطيران وتحركات للقوات الإثيوبية. في ظل الانشغال العالمي بالانتخابات الأمريكية في عام 2020، دخل آبي أحمد في حرب مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهناك مخاوف من أنَّه قد يستهدف إريتريا الآن وسط انشغال العالم بحرب غزة.
ربما تمهد الخصائص التي يتمتع بها كلا الزعيمين الطريق لكارثة. يُعرف آبي أحمد بنهجه المتناقض في تعزيز السلام بينما يفكر في الحرب. لقد كان دائمًا حريصًا على حل المشكلات السياسية بالوسائل العسكرية. وهو يرى نفسه مبعوثًا إلهيًا في سعيه لتحقيق مجد إثيوبيا، وهو المجد الذي يلعب فيه البحر الأحمر وإريتريا دورًا محوريًّا. أما أسياسي أفورقي فهو دكتاتور لا يرحم ويحكم منذ فترة طويلة ويميل إلى تبني الحروب بالوكالة، وقد يلجأ إلى تعزيز الدعم لميليشيات أمهرة وجيش تحرير أورومو لإضعاف آبي أحمد. فوَفقًا لمصادر عسكرية محلية، يدعم أفورقي بالفعل الأمهرة بالتدريب والأسلحة.
وإذا نشبت حرب بين البلدين، فقد تركز إثيوبيا عملياتها العسكرية على جبهة عصب البعيدة عن وسط إرتيريا، حيث يسهل استهدافها بالغارات الجوية وضربات الطائرات دون طيار، ومن الممكن أن تواجه إريتريا تحديات لوجستية في تعزيز هذه المنطقة، مما قد يدفعها لسحب قواتها من 52 مقاطعة تحتلها في إقليم تيغراي. وتشير التقديرات إلى أنَّ القوات الإريترية قد نشرت في الوقت الحالي تسع فرق على المناطق الحدودية التي تحتلها في تيغراي، فيما يبلغ إجمالي عددها حوالي 40 ألف جندي. وتعزز هذه الفرق بقوات ميكانيكية تعتمد عليها إريتريا اعتمادًا كبيرًا.
تدعي إريتريا أنَّها منتشرة في المناطق التي منحتها لها لجنة ترسيم الحدود. ومن المحتمل أن تهاجم إريتريا إثيوبيا لتسيطر على المزيد من الأراضي كخطوة وقائية. وكما حدث في عام 1998، فإنَّ حادثة صغيرة أو خطأ في التقدير من قبل أحد الطرفين قد يؤدي إلى حرب واسعة النطاق.
إنَّ اندلاع الحرب قد يتيح لإثيوبيا فرصة لاستعادة المناطق الخاضعة للسيطرة الإريترية أو تلك التي تسيطر عليها ميليشيات الأمهرة. بالإضافة إلى ذلك، قد تحاول قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغري المتبقية، التي لم يتم نزع سلاح حوالي 200 ألف منها بعد، استعادة الأراضي التي تعتقد أنَّها من حقها تاريخيًّا ودستوريًّا.
كلا البلدين غير مستعدين لحرب شاملة بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدتاها خلال حرب تيغراي، التي ربما وصل عدد قتلاها إلى نحو 600 ألف شخص. وتشير التقديرات إلى أنَّ أكثر من مليون شخص ما زالوا نازحين داخليًّا بسبب الحرب. وتقدر تكلفة التعافي بعد الصراع في إثيوبيا بنحو 20 مليار دولار.
ينتشر الجيش الإثيوبي على الحدود بشكل ضئيل ويتعامل مع تحديات متعددة، خاصة في منطقتي أمهرة وأوروميا. لقد ظل الصراع في منطقة أوروميا في إثيوبيا يغلي منذ خمس سنوات دون الكثير من الاهتمام الدولي، وبينما يؤثر في المقام الأول داخل أوروميا فإنَّه يؤثر بعض الأحيان في المناطق المجاورة مثل بنيشانغول جوموز وغامبيلا وأمهرة.
تعود جذور الصراع المستمر في منطقة أمهرة بإثيوبيا إلى مظالم طويلة الأمد يعود تاريخها إلى عام 1991 عندما استولت “جبهة تحرير شعب تيغراي على السلطة في إثيوبيا”. فحينها واجه مجتمع أمهرة أعمال عنف ونزوح كبيرة، وهو ما ازداد خاصة مع وصول آبي أحمد إلى السلطة، حيث تركز الصراع في ولاية أوروميا وبينيشانغول جوموز.
لقد تصاعد القتال في منطقة أمهرة في أبريل من العام الجاري عندما حاولت الحكومة الفيدرالية نزع سلاح قوات الأمهرة الخاصة وميليشيا الأمهرة التي قاتلت إلى جانبها خلال حرب تيغراي. في البداية سيطرت ميليشيا الأمهرة المعروفة باسم “فانو” على المدن الكبرى في المنطقة واقتحمت عدة سجون وأطلقت سراح السجناء. ردت الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا بقسوة باستخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات دون طيار والقصف الجوي. وأدى ذلك إلى اعتقال المئات، بينهم أعضاء في البرلمان الوطني والإقليمي ممن تحوم حولهم شبهات بدعم المسلحين، ومن ثَمَّ غادرت ميليشيا أمهرة المدن الكبرى، وهي حاليًّا تشتبك مع الجيش من خلال نصب كمائن له على طول الطرق وفي الريف. وقد وقعت خسائر فادحة في صفوف الجانبين فضلًا عن السكان المدنيين.
تنظر الأمهرة إلى الأورومو باعتبارهم منافسيهم الرئيسيين على النفوذ السياسي والاقتصادي، ويرون أنَّ الحكومة الحاليَّة يهيمن عليها الأورومو على الرغم من تصرفاتها القمعية في أوروميا وعدم شعبيتها بشكل عام بين شعب الأورومو. فمنذ دستور عام 1995، الذي أضفى الطابع الرسمي على الفيدرالية العرقية، شعر الأمهرة بالتهميش، وعانوا فقدان هيمنتهم التاريخية في السياسة والاقتصاد والثقافة في إثيوبيا.
في الوقت نفسه، تواجه إريتريا عزلة دولية، حيث تحرص العديد من الدول على رحيل أسياسي أفورقي. لكن الشعب الإريتري لن يتنازل عن استقلاله، وقد يتحالف الإريتريون المعارضون للنظام مع الحكومة في أسمرة للدفاع عن بلادهم، وهو ما من شأنه أن يشجع أفورقي على القتال.
لقد بدأت التوترات بين البلدين في الظهور بالفعل، حتى وسط تحالفهما خلال صراع تيغراي. ففي يونيو 2021، عندما أُجبر آبي أحمد على سحب قواته من تيغراي، لم يخطر القوات الإريترية مسبقًا، مما كلفهم العديد من الأرواح وتسبب في احتكاك بينهما. وكان القادة العسكريون الإثيوبيون مستائين من سلوك القوات الإريترية، التي شددت على أسبقية وجودها في الأماكن التي سيطرت عليها، وهو ما تجلى في إنشاء نقاط تفتيش، حيث كان على القوات الإثيوبية أن تطلب إذنًا من القادة الإريتريين للمرور عبرها.
لقد رفضت إريتريا استجابة آبي أحمد للضغوط الغربية، بما في ذلك التحقيقات في جرائم الحرب التي أجراها مجلس حقوق الإنسان الإثيوبي ومكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان. وقد أشارت هذه التحقيقات إلى تورط الأطراف المتحاربة، بما في ذلك القوات الإريترية في جرائم. وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على كيانات إريترية وشخصيات عسكرية ومسؤولين أمنيين. وفي الوقت نفسه، لم تخضع الكيانات الإثيوبية لعقوبات مماثلة.
تعمق الخلاف بين البلدين بعد توقيع اتفاق السلام بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية الفيدرالية في نوفمبر 2022، الذي لم تُمثل فيه إريتريا ولا زعماء منطقة أمهرة. فشعرت كل من إريتريا وميليشيات أمهرة بالخيانة من جانب آبي أحمد بعد توقيعه على اتفاق بريتوريا للسلام. فكليهما لم يكونا سعيدين، لأنَّه لم يتم الانتهاء من تيغراي مرة واحدة وإلى الأبد.
تسيطر مليشيات الأمهرة على ما كان يسمى بغرب تيغراي، وبالتالي تتمتع بإمكانية الوصول المباشر إلى إريتريا. وقد تستغل إريتريا موارد أمهرة لزعزعة استقرار إثيوبيا، بينما يتعين على إثيوبيا إغلاق حدودها مع إريتريا لقطع الدعم الإريتري لميليشيا الأمهرة.
إنَّ ميليشيات الأمهرة حازمة في التمسك بالأراضي التي استعادتها خلال صراع تيغراي، والمعروفة باسم “ويلكيت-تسجيدي” لدى الأمهرة، وغرب تيغراي لدى سكان تيغراي. ويُنظر إلى العودة المحتملة لهذه المناطق إلى جبهة تحرير تيغراي الشعبية على أنَّها تهديد، لأنَّها قد تمنح الأخيرة إمكانية الوصول إلى السودان، وهو تطور تنظر إليه إريتريا بقلق، وذلك لأنَّ تيغراي ستكون قادرة على الحصول على مساعدة مباشرة عبر السودان، أو حتى مهاجمة إريتريا عبر السودان إذا اندلعت الحرب بين البلدين.
في الأول من مايو 2023، أصدر آبي أحمد بيانًا بشأن اغتيال رئيس فرع أمهرة بحزب الازدهار التابع له على يد مسلحين أمهرة يُعتقد أنَّهم يتلقون دعمًا من إريتريا. وحذر آبي أحمد بشدة مما أسماه “القوات غير الإثيوبية”، في إشارة على الأرجح إلى إريتريا، وحثها على وقف تدخلها في الشؤون الداخلية لإثيوبيا والامتناع عن زعزعة استقرار البلاد. ونصحها بالتركيز على شؤونها الخاصة، مؤكدًا أنَّ لديها الكثير من التحديات التي يتعين عليهم معالجتها. وقد جاء هذا البيان في أعقاب مواجهة بين آبي أحمد ووفد من جنرالات الجيش الإريتري وكبار المسؤولين الذين زاروا إثيوبيا في أوائل أبريل 2023. ففي هذا الاجتماع، طالبهم آبي بالامتناع عن دعم قوات أمهرة.
في الوقت نفسه، صَعَّدَ آبي أحمد خطابه. ونُقل عنه قوله إنَّه لن يقتصر على استعادة ميناء عصب بل سيستعيد كامل أراضي إريتريا. وقد ذكر رئيس أركان الجيش الإثيوبي، في تقييمه للنزاع داخل منطقة أمهرة، أنَّه من الضروري تصنيف إريتريا كخصم. كما أنَّ تصريح رئيس إقليم أوروميا بأنَّ “مهرجان إيريتشا” وهو مهرجان للأورومو من العادة الاحتفال به قرب مسطح مائي، سيُحتفل به بعد ذلك على ضفاف البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو تصريح يضيف المزيد من الوقود إلى النار.
ويشير الوضع الحالي إلى مسار تصادمي محتمل يمكن أن يكون له آثار إقليمية مدمرة. إنَّ الوضع سائل، والدبلوماسية الحذرة من جانب الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي تشكل أهمية بالغة لمنع التوصل إلى نتيجة كارثية. إنَّ آخر ما يحتاجه القرن الإفريقي هو حرب أخرى.