ترجمات

فورين أفيرز: فن التجسس وفن الحكم

تحويل وكالة المخابرات المركزية لعصر المنافسة

وليم بيرنز.. مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية

طالما احتفظت الدول بالأسرار عن بعضها الآخر، وحاولت سرقتها من بعضها البعض. لقد كان التجسس وسيظل جزءًا لا يتجزأ من فن الحكم، حتى مع تطور تقنياته باستمرار.

 لقد قضى جواسيس أمريكا الأوائل حرب الثورة الأمريكية باستخدام الشفرة، وشبكات البريد السرية، والحبر غير المرئي للمراسلة مع بعضهم البعض ومع حلفائهم الأجانب. وفي الحرب العالمية الثانية، ساعد مجال استخبارات الإشارة الناشئ في الكشف عن خُطط الحرب اليابانية.

وخلال أوائل الحرب الباردة، ارتفعت القدرات الاستخباراتية للولايات المتحدة حرفيًّا إلى طبقة الستراتوسفير في أعلى الغلاف الجوي، مع ظهور الطائرات طراز يو-2 وغيرها من طائرات التجسس التي حلقت على ارتفاعات عالية مع القدرة على تصوير المنشآت العسكرية السوفييتية بوضوح مذهل.

إنَّ النجوم البسيطة المحفورة على الجدار التذكاري في مقر وكالة المخابرات المركزية في لانغلي ب فيرجينيا، التي تخلد ذكرى 140 ضابطًا في الوكالة ضحوا بحياتهم في خدمة بلدهم، تقدم تذكيرًا دائمًا للأعمال الشجاعية التي قدموها، والتي لا تعد ولا تحصى. ومع ذلك فإنَّ هذه الأمثلة البطولية والنجاحات العديدة الهادئة التي حققتها وكالة المخابرات المركزية تظل أقل شهرة لدى الرأي العام الأمريكي من الأخطاء التي شوهت تاريخ الوكالة في بعض الأحيان.

لقد كان الاختبار الحاسم للاستخبارات دائمًا هو توقع ومساعدة صناع السياسات على اجتياز التحولات العميقة في المشهد الدولي – اللحظات المرنة التي لا تأتي إلا بضع مرات كل قرن. وكما أكد الرئيس بايدن، تواجه الولايات المتحدة اليوم واحدةً من هذه اللحظات النادرة، التي لا تقل أهمية عن فجر الحرب الباردة أو فترة ما بعد 11 سبتمبر.

 إنَّ صعود الصين والنزعة الانتقامية الروسية يفرضان تحديات جيوسياسية رهيبة في عالم يتسم بالمنافسة الاستراتيجية الشديدة، حيث لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بأولوية لا تقبل المنافسة وحيث تتصاعد التهديدات المناخية الوجودية.

 وما يزيد الأمور تعقيدًا حدوث ثورة في التكنولوجيا أكثر شمولًا من الثورة الصناعية أو بداية العصر النووي. فمن الرقائق الدقيقة إلى الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، تعمل التقنيات الناشئة على تغيير العالم، بما في ذلك مهنة الاستخبارات. وفي كثير من النواحي، تجعل هذه التطورات مهمة وكالة المخابرات المركزية أكثر صعوبة من أي وقت مضى، ما يمنح الخصوم أدوات جديدة قوية لإرباكنا، والتملص منا، والتجسس علينا.

ومع ذلك، بقدر ما يتغير العالم، يظل التجسس عبارة عن تفاعل بين البشر والتكنولوجيا. ستظل هناك أسرار لا يمكن إلا للبشر جمعها، وعمليات سرية لا يمكن إلا للبشر القيام بها. إنَّ التقدم التكنولوجي، خاصة في مجال استخبارات الإشارة، لم يجعل مثل هذه العمليات البشرية غير ذات أهمية، كما توقع البعض، بل أحدث ثورة في ممارساتها.

ولكي تكون وكالة الاستخبارات المركزية جهازًا استخباراتيًّا فعالًا في القرن الحادي والعشرين، يجب عليها أن تمزج بين التمكن من التكنولوجيات الناشئة ومهارات التعامل مع البشر والجرأة الفردية التي كانت دائمًا في قلب مهنتنا. وهذا يعني تزويد ضباط العمليات بالأدوات والحرف اللازمة لإجراء التجسس في عالم من المراقبة التكنولوجية المستمرة، وتزويد المحللين بنماذج ذكاء اصطناعي متطورة يمكنها استيعاب كميات هائلة من المعلومات مفتوحة المصدر والمعلومات المتحصل عليها سرًا حتى يتمكنوا من تحقيق أفضل ما لديهم من التقييمات البشرية.

وفي الوقت نفسه، فإنَّ ما تفعله وكالة المخابرات المركزية بالمعلومات الاستخبارية التي تجمعها يتغير أيضًا. لقد أصبح “رفع السرية الاستراتيجية”، أي الكشف العلني المتعمد عن بعض الأسرار لتقويض المنافسين وحشد الحلفاء، أداة أكثر قوة في أيدي صناع السياسات. إنَّ استخدامها لا يعني تعريض المصادر أو الأساليب المستخدمة لجمع المعلومات الاستخبارية للخطر بشكل متهور، لكنه يعني المقاومة بحكمة للرغبة الانعكاسية في إبقاء كل شيء سريًا. ويتعلم مجتمع الاستخبارات الأمريكي أيضًا القيمة المتزايدة للدبلوماسية الاستخباراتية، ويكتسب فهمًا جديدًا للكيفية التي يمكن بها لجهوده الرامية إلى دعم الحلفاء ومواجهة الأعداء أن تدعم صناع السياسات.

هذا هو وقت التحديات التاريخية لوكالة المخابرات المركزية ومهنة الاستخبارات بأكملها، حيث تشكل التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية اختبارًا كبيرًا لم نواجهه من قبل. وسيعتمد النجاح على مزج الاستخبارات البشرية التقليدية مع التكنولوجيات الناشئة بطرق إبداعية. بعبارة أخرى، سوف يتطلب الأمر التكيف مع عالم حيث التنبؤ الوحيد الآمن بشأن التغيير هو أنَّه سوف يتسارع.

بوتين يتجاوز الحدود

وصلت حقبة ما بعد الحرب الباردة إلى نهايتها الحاسمة لحظة غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022. ولقد أمضيت قسمًا كبيرًا من العقدين الماضيين في محاولة فهم المزيج القابل للاشتعال من الظلم والطموح وانعدام الأمن الذي يجسده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

شيء واحد تعلمته هو أنَّه من الخطأ دائمًا التقليل من اهتمامه بالسيطرة على أوكرانيا وخياراتها. ودون هذه السيطرة، يعتقد أنَّه من المستحيل أن تصبح روسيا قوة عظمى أو أن يكون زعيمًا روسيًّا عظيمًا. وهذا الولع المأساوي والفظ جلب فعلًا العار لروسيا وكشف نقاط ضعفها، من اقتصادها الأحادي البعد إلى انتفاخ قوتها العسكرية إلى نظامها السياسي الفاسد.

 وكان غزو بوتين أيضًا سببًا في تحفيز الشعب الأوكراني على الصمود والتصميم المذهلين. لقد رأيت شجاعتهم بشكل مباشر في رحلات متكررة في زمن الحرب إلى أوكرانيا، تخللتها الغارات الجوية الروسية والصور الحية للمثابرة والإبداع في ساحة المعركة الأوكرانية.

لقد كانت حرب بوتين فعلًا بمنزلة فشل لروسيا على العديد من المستويات. لقد أثبت هدفه الأصلي المتمثل في الاستيلاء على كييف وإخضاع أوكرانيا لحماقته ووهمه. وقد تعرض جيشه لأضرار جسيمة. فقد قُتل أو جُرح ما لا يقل عن 315 ألف جندي روسي، ودُمِّر ثلثا مخزون الدبابات الروسية قبل الحرب، وأُفرغ برنامج التحديث العسكري الذي تباهى به بوتين، الذي استمر لعقود من الزمن. وكل هذا نتيجة مباشرة لشجاعة الجنود الأوكرانيين ومهارتهم، بدعم من الغرب.

 ومن ناحية أخرى، يعاني الاقتصاد الروسي انتكاسات طويلة الأمد، وترسم البلاد مصيرها باعتبارها تابعة اقتصاديًّا للصين. وقد أدت طموحات بوتين المبالغ فيها إلى نتائج عكسية بطريقة أخرى أيضًا: فقد دفعت حلف الناتو إلى النمو بشكل أكبر وأقوى.

ورغم أنَّه من غير المرجح أن تضعف قبضة بوتين القمعية في أي وقت قريب، فإنَّ حربه في أوكرانيا تعمل بهدوء على تآكل سلطته في الداخل. كان التمرد الذي لم يدم طويلًا، الذي بدأه زعيم المرتزقة يفغيني بريجوزين في يونيو الماضي، بمثابة لمحة عن بعض الخلل الوظيفي الكامن وراء صورة بوتين المصقولة بعناية في السيطرة.

بالنسبة للزعيم الذي اكتسب سمعة حسنة باعتباره سيد الحكم، بدا بوتين منعزلًا وغير حاسم عندما شق متمردو بريجوزين طريقهم إلى موسكو. بالنسبة للكثيرين من النخبة الروسية، لم يكن السؤال هو ما إذا كان الإمبراطور بلا ملابس، بل لماذا استغرق وقتًا طويلًا لارتداء ملابسه.

وفي نهاية المطاف، سوَّى بوتين -الذي لعب دور رسول الانتقام- حساباته مع بريجوجين، الذي قُتل في حادث تحطم طائرة مشبوه بعد شهرين من اليوم الذي بدأ فيه تمرده. لكن انتقادات بريجوزين اللاذعة للأكاذيب وسوء التقدير العسكري في قلب حرب بوتين، والفساد الكامن في قلب النظام السياسي الروسي، لن تختفي قريبًا.

من المرجح أن يكون هذا العام عامًا صعبًا على ساحة المعركة في أوكرانيا، وهو اختبار للبقاء في وضع قوي، وسوف تتجاوز عواقبه النضال البطولي الذي تخوضه البلاد من أجل الحفاظ على حريتها واستقلالها.

 وبينما يعمل بوتين على تجديد الإنتاج الدفاعي الروسي ـ بمكونات بالغة الأهمية من الصين، فضلًا عن الأسلحة والذخائر من إيران وكوريا الشمالية ـ فإنَّه يواصل المراهنة على أنَّ الوقت في صفه، وأنَّه قادر على سحق أوكرانيا وإرهاق مؤيديها الغربيين.

ويتمثل التحدي الذي تواجهه أوكرانيا في تحطيم غطرسة بوتين وإظهار التكلفة الباهظة التي تتحملها روسيا نتيجة للصراع المستمر، ليس فقط من خلال إحراز تقدم على الخطوط الأمامية لكن أيضًا من خلال شن ضربات أعمق خلف الخطوط وتحقيق مكاسب مطردة في البحر الأسود. وفي هذه البيئة، قد ينخرط بوتين مرة أخرى في قرع جرس الأسلحة النووية، وسيكون من الحماقة استبعاد المخاطر التصعيدية بالكامل. ولكن سيكون من الحماقة بنفس القدر نشر الخوف دون داع.

يكمن مفتاح النجاح في الحفاظ على المساعدات الغربية لأوكرانيا. فهو يمثل أقل من خمسة بالمائة من ميزانية الدفاع الأمريكية، وهو استثمار متواضع نسبيًّا له عوائد جيوسياسية كبيرة للولايات المتحدة وعوائد ملحوظة للصناعة الأمريكية. إنَّ الحفاظ على تدفق الأسلحة من شأنه أن يضع أوكرانيا في موقف أقوى إذا أتيحت الفرصة لإجراء مفاوضات جادة. فهو يوفر فرصة لضمان فوز طويل الأمد لأوكرانيا وخسارة استراتيجية لروسيا؛ وبوسع أوكرانيا أن تحافظ على سيادتها وتعيد بناء نفسها، في حين تُترَك روسيا للتعامل مع التكاليف الدائمة المترتبة على حماقة بوتين. إنَّ انسحاب الولايات المتحدة من الصراع في هذه اللحظة الحاسمة وقطع الدعم عن أوكرانيا سيكون أمرًا ذا أبعاد تاريخية.

لعب شي للقوة

لا أحد يراقب الدعم الأمريكي لأوكرانيا عن كثب أكثر من زعماء الصين. وتظل الصين المنافس الوحيد للولايات المتحدة الذي لديه النية في إعادة تشكيل النظام الدولي، والقوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية اللازمة للقيام بذلك.

لقد كان التحول الاقتصادي الذي شهدته الصين على مدى العقود الخمسة الماضية استثنائيًّا. وهو أمر يستحق الشعب الصيني ثناءً عظيمًا بسببه، وقد دعمته بقية دول العالم على نطاق واسع اعتقادًا منها بأنَّ ازدهار الصين يشكل منفعة عالمية.

 إنَّ القضية لا تتعلق بصعود الصين في حد ذاته، بل بالتصرفات التهديدية التي تصاحبه على نحو متزايد. بدأ الزعيم الصيني شي جين بينج فترة ولايته الرئاسية الثالثة بسلطة أكبر من أي من أسلافه منذ ماو تسي تونج. وبدلًا من استخدام هذه القوة لتعزيز وتنشيط النظام الدولي الذي مكّن تحول الصين، يسعى شي إلى إعادة كتابته.

 في مهنة الاستخبارات، ندرس بعناية ما يقوله القادة. لكننا نولي المزيد من الاهتمام لما يفعلونه. ومن المستحيل أن نتجاهل القمع المتزايد الذي يمارسه شي في الداخل وعدوانيته في الخارج، بدءًا من شراكته “بلا حدود” مع بوتين إلى تهديداته للسلام والاستقرار في مضيق تايوان.

ولكن الأمر نفسه ينطبق أيضًا على تأثير التضامن الغربي على حسابات شي جين بينج بشأن مخاطر استخدام القوة ضد تايوان، التي انتخبت رئيسًا جديدًا، لاي تشينج تي، في يناير. بالنسبة لشي، الرجل الذي يميل إلى رؤية الولايات المتحدة كقوة تتلاشى، فإنَّ القيادة الأمريكية في أوكرانيا كانت مفاجأة بالتأكيد. إنَّ استعداد الولايات المتحدة لإلحاق واستيعاب الألم الاقتصادي لمواجهة عدوان بوتين -وقدرتها على حشد حلفائها لفعل الشيء نفسه- يتناقض بقوة مع اعتقاد بكين أنَّ أمريكا في حالة انحدار نهائي.

وبالقرب من الشواطئ الصينية، كان لمرونة الشبكة الأمريكية من الحلفاء والشركاء عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ تأثير مثير للقلق على تفكير بكين. إنَّ أحد أفضل الطرق لإشعال التصورات الصينية حول الضعف الأمريكي وتأجيج العدوانية الصينية هو التخلي عن دعم أوكرانيا. إنَّ الدعم المادي المستمر لأوكرانيا لا يأتي على حساب تايوان؛ فهو يبعث رسالة مهمة مفادها أنَّ الولايات المتحدة عازمة على مساعدة تايوان.

تجري المنافسة مع الصين على خلفية الترابط الاقتصادي الكثيف والعلاقات التجارية بينها وبين الولايات المتحدة. وقد خدمت مثل هذه الروابط البلدين وبقية العالم بشكل ملحوظ، لكنها خلقت أيضًا نقاط ضعف بالغة الأهمية ومخاطر جسيمة تهدد الأمن والرخاء الأمريكيين. لقد أوضحت جائحة مرض فيروس كورونا لكل حكومة خطر الاعتماد على دولة واحدة للحصول على الإمدادات الطبية المنقذة للحياة، تمامًا كما أوضحت حرب روسيا في أوكرانيا لأوروبا مخاطر الاعتماد على دولة واحدة للحصول على الطاقة.

 في عالم اليوم، لا تريد أي دولة أن تجد نفسها تحت رحمة مورد واحد للمعادن والتكنولوجيات الحيوية، خاصة إذا كان هذا المورد عازمًا على استخدام هذه التبعية كسلاح. وكما زعم صناع السياسات الأمريكيون فإنَّ أفضل إجابة تتلخص في “التخلص من المخاطر” والتنويع بشكل معقول عبر تأمين سلاسل التوريد في الولايات المتحدة، وحماية تفوقها التكنولوجي، والاستثمار في قدرتها الصناعية.

وفي هذا العالم المتقلب والمنقسم، يتزايد ثقل “التحوط الوسطي”. إنَّ الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، والاقتصادات المتقدمة والنامية، والبلدان في جميع أنحاء الجنوب العالمي عازمة بشكل متزايد على تنويع علاقاتها لتعظيم خياراتها. وهم لا يرون فائدة تذكر والكثير من المخاطر في التمسك بالعلاقات الجيوسياسية الأحادية مع الولايات المتحدة أو الصين. ومن المرجح أن تنجذب المزيد من الدول إلى وضع العلاقات الجيوسياسية المفتوحة (أو على الأقل العلاقة المعقدة)، وذلك على غرار خطى الولايات المتحدة في بعض القضايا في حين تعمل على تنمية العلاقات مع الصين. وإذا كان الماضي سابقة، فيجب على واشنطن أن تكون منتبهة للمنافسات بين العدد المتزايد من القوى المتوسطة، التي ساعدت تاريخيًّا في إثارة الصدامات بين القوى الكبرى.

صدام مألوف

إنَّ الأزمة التي عجل بها الهجوم الذي نفذته حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، هي بمثابة تذكير مؤلم بتعقيد الخيارات التي لا يزال الشرق الأوسط يفرضها على الولايات المتحدة. وستظل المنافسة مع الصين هي الأولوية القصوى لواشنطن، لكن هذا لا يعني أنَّها تستطيع تجنب التحديات الأخرى. وهذا يعني فقط أنَّه يتعين على الولايات المتحدة أن تبحر بحذر وانضباط، وأن تتجنب الإفراط في التوسع، وأن تستخدم نفوذها بحكمة.

لقد أمضيت معظم العقود الأربعة الماضية أعمل في الشرق الأوسط، ونادرًا ما رأيته أكثر تشابكًا أو انفجارًا من الوقت الحالي. إنَّ إنهاء العملية البرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة، وتلبية الاحتياجات الإنسانية العميقة للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون، وتحرير الرهائن، ومنع انتشار الصراع إلى جبهات أخرى في المنطقة، وتشكيل نهج عملي “لليوم التالي” في غزة كلها مشكلات صعبة بشكل لا يصدق. وكذلك الأمر بالنسبة لإحياء الأمل في سلام دائم يضمن أمن إسرائيل وكذلك إقامة الدولة الفلسطينية، ويستفيد من الفرص التاريخية للتطبيع مع السعودية ودول عربية أخرى. ورغم صعوبة تصور هذه الاحتمالات وسط الأزمة الحالية، فمن الأصعب تصور الخروج من الأزمة دون متابعة هذه الاحتمالات بجدية.

إنَّ مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران. لقد شجعت الأزمة النظام الإيراني، ويبدو أنَّه مستعد للقتال حتى آخر وكيل إقليمي له، كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي وتمكين العدوان الروسي. في الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر، بدأ الحوثيون، الجماعة المتمردة اليمنية المتحالفة مع إيران، بمهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر، ولا تزال مخاطر التصعيد على جبهات أخرى قائمة. إنَّ الولايات المتحدة ليست مسؤولة وحدها عن حل أي من المشكلات الشائكة في الشرق الأوسط. لكن لا يمكن إدارة أي منها، ناهيك بحلها، من دون قيادة أمريكية نشطة.

جواسيس مثلنا

إنَّ المنافسة الجيوسياسية وعدم اليقين ناهيك بالتحديات المشتركة مثل تغير المناخ والتقدم التكنولوجي غير المسبوق كما في الذكاء الاصطناعي، تعمل على صنع مشهد دولي بالغ التعقيد. إنَّ الأمر الحتمي بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية هو تحويل نهجها في التعامل مع الاستخبارات لمواكبة هذا العالم سريع التغير. إنَّ وكالة المخابرات المركزية وبقية مجتمع الاستخبارات الأمريكي – بقيادة أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية – تعمل بجد لتلبية هذه اللحظة بما تتطلبه من إلحاح وإبداع. 

يمثل هذا المشهد الجديد تحديات خاصة لمنظمة تركز على الاستخبارات البشرية. وفي عالم حيث يقود المنافسين الرئيسيين للولايات المتحدة -الصين وروسيا- مستبدون يعملون ضمن دوائر صغيرة ومعزولة من المستشارين، فإنَّ اكتساب نظرة ثاقبة لنوايا القادة أصبح أكثر أهمية وأكثر صعوبة من أي وقت مضى.

وكما بشرت أحداث 11 سبتمبر بعصر جديد لوكالة المخابرات المركزية، كذلك كان الغزو الروسي لأوكرانيا. أنا فخور للغاية بالعمل الذي قامت به وكالة المخابرات المركزية وشركاؤنا الاستخباراتيون لمساعدة الرئيس وكبار صناع السياسة الأمريكيين -خاصة الأوكرانيين أنفسهم- لإحباط مخطط بوتين. لقد قدمنا ​​معًا إنذارًا مبكرًا ودقيقًا للغزو القادم. كما مكنت هذه المعرفة الرئيس أيضًا من اتخاذ قرار بإرسالي إلى موسكو لتحذير بوتين ومستشاريه في نوفمبر 2021 من عواقب الهجوم الذي كنا نعلم أنَّهم يخططون له. واقتناعًا منهم بأنَّ نافذة الهيمنة على أوكرانيا بدأت تنغلق وأنَّ الشتاء القادم يمثل فرصة مواتية، فقد بالغوا بشدة في تقدير موقفهم، واستهانوا بالمقاومة الأوكرانية والتصميم الغربي.

ومنذ ذلك الحين، ساعدت الاستخبارات الجيدة الرئيس في تعبئة ودعم تحالف قوي من الدول لدعم أوكرانيا. كما ساعدت أوكرانيا في الدفاع عن نفسها بشجاعة ومثابرة غير عاديتين. كما استخدم الرئيس بشكل مبتكر سياسة رفع السرية الاستراتيجية. فقبل الغزو، كشفت الإدارة، جنبًا إلى جنب مع الحكومة البريطانية، عن الخُطط الروسية لعمليات التضليل التي صُممت لإلقاء اللوم على الأوكرانيين وتوفير ذريعة للعمل العسكري الروسي. لقد حرمت هذه الإفصاحات وما تلاها روايات بوتين الكاذبة التي شاهدته يستخدمها في كثير من الأحيان كسلاح في الماضي. لقد وضعته في وضع غير مريح وغير معتاد بينما هو في موقف متأخر. كما عززت أوكرانيا والتحالف الذي يدعمها.

ومن ناحية أخرى، يستمر السخط إزاء الحرب في نخر القيادة الروسية والشعب الروسي، تحت السطح السميك للدعاية والقمع الذي تمارسه الدولة. إنَّ تيار السخط هذا يخلق فرصة تجنيد مرة واحدة في كل جيل لوكالة المخابرات المركزية. نحن لا ندعها تذهب سدى.

وفي حين أنَّ روسيا قد تشكل التحدي الأكثر إلحاحًا، فإنَّ الصين هي التهديد الأكبر على المدى الطويل، وعلى مدى العامين الماضيين، أعادت وكالة المخابرات المركزية تنظيم نفسها لتعكس هذه الأولوية. لقد بدأنا بالاعتراف بحقيقة تنظيمية تعلمتها منذ فترة طويلة: الأولويات لا تكون حقيقية ما لم تعكسها الميزانيات. وبِناءً على ذلك، خصصت وكالة المخابرات المركزية المزيد من الموارد لجمع المعلومات الاستخباراتية والعمليات والتحليلات المتعلقة بالصين في جميع أنحاء العالم – أي أكثر من ضعف النسبة المئوية لميزانيتنا الإجمالية التي ركزت على الصين على مدى العامين الماضيين فقط. نحن نوظف وندرب المزيد من المتحدثين بلغة “الماندرين” الصينية بينما نكثف الجهود في جميع أنحاء العالم للتنافس مع الصين، من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

لدى وكالة المخابرات المركزية ما يقرب من اثني عشر “مركزًا للمهمات”، وهي مجموعات متخصصة في قضايا محددة تجمع ضباطًا من مختلف مديريات الوكالة. وفي عام 2021، أنشأنا مركزًا جديدًا للبعثات يركز حصريًّا على الصين. وهو مركز المهام الوحيد الذي يركز على دولة واحدة، ويوفر آلية مركزية لتنسيق العمل بشأن الصين، وهي وظيفة تمتد اليوم إلى كل ركن من أركان وكالة المخابرات المركزية. كما نعزز أيضًا القنوات الاستخباراتية بهدوء مع نظرائنا في بكين، وهي وسيلة مهمة لمساعدة صناع السياسات على تجنب سوء الفهم غير الضروري والصدامات غير المقصودة بين الولايات المتحدة والصين.

وحتى في حين تستحوذ الصين وروسيا على قدر كبير من اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية، فإنَّ الوكالة لا تستطيع أن تتجاهل تحديات أخرى، من مكافحة الإرهاب إلى عدم الاستقرار الإقليمي. أظهرت الضربة الأمريكية الناجحة في أفغانستان في يوليو2022 ضد أيمن الظواهري، المؤسس والزعيم السابق لتنظيم القاعدة، أنَّ وكالة المخابرات المركزية لا تزال تركز بشدة على التهديدات الإرهابية وتحتفظ بقدرات كبيرة لمكافحتها. كما تكرس وكالة المخابرات المركزية أيضًا موارد كبيرة للمساعدة في مكافحة غزو الفينتانيل، مادة الأفيون الاصطناعية التي تقتل عشرات الآلاف من الأمريكيين كل عام. وتلوح في الأفق تحديات إقليمية مألوفة، ليس فقط في الأماكن التي اعتبرت لفترة طويلة ذات أهمية استراتيجية، مثل كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي، لكن أيضًا في أجزاء من العالم لن تنمو أهميتها الجيوسياسية إلا في السنوات المقبلة، مثل أمريكا اللاتينية وإفريقيا. 

جواسيس أكثر ذكاءً

وفي الوقت نفسه، نحوّل نهجنا نحو التكنولوجيا الناشئة. تعمل وكالة المخابرات المركزية على مزج أدوات التكنولوجيا الفائقة مع التقنيات القديمة لجمع المعلومات الاستخبارية من الأفراد، والمتمثلة في الاستخبارات البشرية.

إنَّ التكنولوجيا بطبيعة الحال، تجعل العديد من جوانب التجسس أصعب من أي وقت مضى. في عصر المدن الذكية، مع وجود كاميرات الفيديو في كل شارع وانتشار تكنولوجيا التعرف على الوجه في كل مكان على نحو متزايد، أصبح التجسس أصعب بكثير. بالنسبة لضباط وكالة المخابرات المركزية الذي يعملون في الخارج في بلد معاد، ويلتقون بمصادر تخاطر بسلامتها لتقديم معلومات قيمة، فإنَّ المراقبة المستمرة تشكل تهديدًا حادًا. لكن التكنولوجيا نفسها التي تعمل أحيانًا ضد وكالة المخابرات المركزية -سواء كان ذلك يتعلق بالتنقيب في البيانات الضخمة لكشف أنماط أنشطة الوكالة أم شبكات الكاميرات الضخمة التي يمكنها تتبع كل حركة يقوم بها العميل- يمكن أيضًا جعلها تعمل لصالحها وضد الآخرين.

 تتسابق وكالة المخابرات المركزية مع منافسيها لاستخدام التقنيات الناشئة. وقد عينت الوكالة أول مدير تنفيذي للتكنولوجيا. كما أنشأت مركزًا جديدًا آخر يركز على بناء شراكات أفضل مع القطاع الخاص، حيث يقدم الإبداع الأمريكي ميزة تنافسية كبيرة.

وتظل المواهب العلمية والتكنولوجية الداخلية لدى وكالة المخابرات المركزية رائعة. لقد طورت الوكالة ما يعادل مستودعات من أدوات التجسس على مر السنين، والمفضل لديَّ هو كاميرا الحرب الباردة المصممة لتبدو وتحوم مثل اليعسوب “ذكر النحل”. إنَّ الثورة في الذكاء الاصطناعي، وتدفق المعلومات مفتوحة المصدر إلى جانب ما نجمعه سرًا، تخلق فرصًا تاريخية جديدة لمحللي وكالة المخابرات المركزية.

 نحن نعمل على تطوير أدوات جديدة للذكاء الاصطناعي للمساعدة في استيعاب كل هذه المواد بشكل أسرع وأكثر كفاءة، وتحرير الضباط للتركيز على ما يفعلونه بشكل أفضل: تقديم أحكام ورؤى منطقية حول ما يهم أكثر صناع السياسات، وما يعنيه ذلك للمصالح الأمريكية. لن يحل الذكاء الاصطناعي محل المحللين البشريين، لكنه يعمل بالفعل على تمكينهم.

ومن الأولويات الأخرى في هذا العصر الجديد تعميق شبكة الشراكات الاستخباراتية التي لا مثيل لها لوكالة المخابرات المركزية في جميع أنحاء العالم، وهو أحد الأصول التي يفتقر إليها منافسو الولايات المتحدة المنعزلون حاليًّا.

 إنَّ قدرة وكالة المخابرات المركزية على الاستفادة من شركائها -من مجموعتهم، وخبراتهم، ووجهات نظرهم، وقدرتهم على العمل بسهولة أكبر في العديد من الأماكن أكثر مما تستطيع الوكالة القيام به- أمر بالغ الأهمية لنجاحها. وكما تعتمد الدبلوماسية على تنشيط هذه الشراكات القديمة والجديدة، كذلك الأمر بالنسبة للاستخبارات.

 إنَّ مهنة الاستخبارات في جوهرها تدور حول التفاعلات البشرية، وليس هناك بديل عن الاتصال المباشر لتعزيز العلاقات مع أقرب حلفائنا، والتواصل مع ألد خصومنا، وصقل كل شيء بينهما. في أكثر من 50 رحلة خارجية خلال ما يقرب من ثلاث سنوات كمدير، أدرتُ سلسلة كاملة من هذه العلاقات.

في بعض الأحيان، يكون من الأفضل لضباط المخابرات التعامل مع الأعداء التاريخيين في المواقف التي قد يعني فيها الاتصال الدبلوماسي الاعتراف الرسمي. ولهذا السبب أرسلني الرئيس إلى كابول في أواخر أغسطس من عام 2021 للتواصل مع قيادة طالبان قبل الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية مباشرة.

في بعض الأحيان قد توفر علاقات وكالة الاستخبارات المركزية في أجزاء معقدة من العالم احتمالات عملية، كما هو الحال في المفاوضات الجارية مع مصر، وإسرائيل، وقطر، وحماس بشأن وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية وإطلاق سراح الرهائن من غزة.

 في بعض الأحيان، يمكن أن توفر مثل هذه العلاقات ثقلًا سريًا في العلاقات المليئة بالصعود والهبوط السياسي. وفي بعض الأحيان، يمكن للدبلوماسية الاستخباراتية أن تشجع على تقارب المصالح وتدعم بهدوء جهود الدبلوماسيين وصناع القرار الأمريكيين.

في الظلال

كل يوم، عندما أقرأ البرقيات الواردة من المحطات حول العالم، أو أسافر إلى عواصم أجنبية، أو أتحدث مع زملائي في المقر الرئيسي، أتذكر مهارة وشجاعة ضباط وكالة المخابرات المركزية، فضلًا عن التحديات التي لا هوادة فيها التي يواجهونها. إنَّهم يقومون بمهام صعبة في أماكن صعبة. خاصة منذ 11/9 يعملون بوتيرة سريعة بشكل لا يصدق.

 وفي الواقع، فإنَّ الاهتمام بمهمة وكالة المخابرات المركزية في هذا العصر الجديد والمرهق يعتمد على الاهتمام بشعبنا. ولهذا السبب عززت وكالة المخابرات المركزية مواردها الطبية في المقر الرئيسي وفي الميدان؛ وحسنت برامج رعاية أسر العاملين، والعاملين عن بعد، والأزواج الذين يعملون في مهنتين؛ واستكشفت مسارات وظيفية أكثر مرونة، خاصةً لمختصي التكنولوجيا، حتى يتمكن المسؤولون من الانتقال إلى القطاع الخاص والعودة لاحقًا إلى الوكالة.

لقد سهلنا عملية تعيين الضباط الجدد. ويستغرق الأمر الآن ربع الوقت الذي كان يستغرقه قبل عامين للانتقال من تقديم الطلب إلى العرض النهائي للعمل والحصول على التصريح الأمني. وقد ساهمت هذه التحسينات في زيادة الاهتمام بوكالة المخابرات المركزية.

 في عام 2023، كان لدينا عدد أكبر من المتقدمين مقارنة بأي عام منذ أعقاب أحداث 11 سبتمبر مباشرة. نحن نعمل أيضًا بجد لتنويع القوى العاملة لدينا، ووصلنا إلى أعلى مستوياتها التاريخية في عام 2023 من حيث عدد النساء والضباط المعينين من الأقليات، بالإضافة إلى العدد الذي ترقى إلى أعلى المناصب في الوكالة.

بحكم الضرورة، يعمل ضباط وكالة المخابرات المركزية في الظل، وعادة ما يكونون بعيدًا عن الأنظار وبعيدًا عن الذهن؛ ونادرًا ما تكون المخاطر التي يتحملونها والتضحيات التي يقدمونها مفهومة جيدًا. في الوقت الذي تكون فيه الثقة في المؤسسات العامة في الولايات المتحدة نادرة في كثير من الأحيان، تظل وكالة المخابرات المركزية مؤسسة غير سياسية على الإطلاق، ملزمة بالقسم الذي أقسمته أنا وكل شخص آخر في الوكالة للدفاع عن الدستور وبالتزاماتنا بموجب القانون.

يرتبط ضباط وكالة المخابرات المركزية أيضًا بشعور المجتمع، وبالتزام عميق ومشترك بالخدمة العامة في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الأمريكي. وهم يعرفون الحقيقة في النصيحة التي تلقيتها منذ سنوات طويلة من والدي الذي تمتع بمسيرة عسكرية متميزة. وبينما كنت أتصارع مع ما يجب أن أفعله في حياتي المهنية، أرسل لي رسالة مكتوبة بخط اليد “لا شيء يمكن أن يجعلك أكثر فخرًا من خدمة بلدك بشرف”. وقد ساعدني ذلك في إطلاق مسيرة مهنية طويلة ومحظوظة في الحكومة، أولًا في وزارة الخارجية، والآن في وكالة المخابرات المركزية. لم أندم أبدًا على الاختيار الذي قمت به. أنا فخور جدًّا بالخدمة مع الآلاف من ضباط وكالة المخابرات المركزية الآخرين الذين يشعرون بالشيء نفسه، وهم يرتقون إلى مستوى التحدي المتمثل في عصر جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى