ترجمات

إيران وباكستان: حرب استخباراتية غير معلنة تخرج إلى العلن

المعهد الملكي البريطاني RUSI .. الكاتب كمال علم

أثارت الضربات الأخيرة التي شنتها إيران وباكستان على أراضي كل منهما في منطقة بلوشستان مخاوف من حدوث تصعيد أوسع نطاقًا. وفي حين يتمتع البلدان بعلاقة ثنائية وطيدة وعلاقات سياسية وثيقة، إلا أنَّه توجد حرب استخباراتية تدور بينهما منذ اندلاع الثورة الإسلامية في طهران.

لقد شهدت الأيام القليلة الماضية تركيز عناوين الأخبار العالمية على الضربات الجوية والصاروخية المتبادلة بين إيران وباكستان. وظهرت تكهنات حول تصعيد إيراني واتساع النزاع في الشرق الأوسط بما قد يجذب الجيش الباكستاني للانخراط فيه. ولكي نكون واضحين، إنَّ مثل هذا السيناريو غير مطروح على الطاولة.

سرعان ما بدأت إيران وباكستان في تهدئة التصعيد، وأعرب الجانبان عن اهتمامهما بعدم الإضرار بـ”علاقاتهما الأخوية”. ومع ذلك، فقد ارتكب كلا البلدين بمبادرة من إيران انتهاكًا واضحًا لسيادة الآخر، فيما توجد ضغينة تاريخية بينهما عندما يتعلق الأمر بالحدود البلوشية، حيث يدعم كل من الجانبين وكلاء الطرف الآخر.

 لقد تفاقم الخلاف بين البلدين بسبب المنافسة على السيطرة والنفوذ في أفغانستان، والدعم الباكستاني العلني لأذربيجان، وتجنيد إيران لمقاتلين شيعة من باكستان للقتال في الشرق الأوسط. ورغم أنَّ البلدين لم ينخرطا بشكل مباشر في صراع مفتوح في الشرق الأوسط، فقد اندلعت العديد من الحروب الصغيرة غير النظامية بين الحرس الثوري الإيراني وأجهزة الاستخبارات الباكستانية.

يد الشاه القوية لدعم الدولة الباكستانية الفتية

قبل فترة طويلة من عام 1979، كان شاه إيران أحد أبرز الداعمين لباكستان ضد الهند الأكبر حجمًا. بل إنَّ الشاه هدد بمهاجمة الهند في حال تجاوزت حدودها وهاجمت باكستان الشرقية (بنجلاديش) في عام 1971. وكانت إيران في عهد الشاه، إلى جانب الأردن وسوريا، الدول الوحيدة في العالم الإسلامي التي ساعدت باكستان بالمعدات العسكرية والاستخبارات والخدمات اللوجستية. وقد وَصَفَ كل هذا بشيء من التفصيل الوافي أسد الله علم كبير حاشية الشاه، في كتاب نشره بعنوان “الشاه وأنا”.

فضلًا عن ذلك فإنَّ بلوشستان، التي شهدت العديد من حركات التمرد التي رعتها الهند وأفغانستان، كانت دائمًا نقطة حساسة بالنسبة للشاه. وقد تمركزت الطائرات والمروحيات العسكرية الإيرانية في باكستان أثناء مطاردة المتمردين البلوش والأفغان على جانبي الحدود الإيرانية الباكستانية.

كما ناضل الشاه مرارًا وتكرارًا لصالح باكستان، وأقنع نيكسون وكيسنجر بالمضي قدمًا في دعم باكستان ضد الهند في حرب عام 1971. وفي الواقع، كانت رحلة كيسنجر الأولى إلى باكستان تهدف إلى دراسة التمرد البلوشي وتأثيره على العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والخليج العربي.

 وفي كتاب روهام ألفاندي “نيكسون وكيسنجر والشاه: الولايات المتحدة وإيران في الحرب الباردة”، وكتاب أليكس فاتانكا “إيران وباكستان: الأمن والدبلوماسية والتأثير الأمريكي“، فقد أشارا إلى بعض التفاصيل حول تأثير الولايات المتحدة على الاستراتيجية الباكستانية الإيرانية الأمنية المشتركة لحماية الخليج العربي وجنوب آسيا من المخططات السوفييتية.

كانت بلوشستان موقعًا مركزيًّا للشراكة الأمنية التي استمرت منذ عام 1947، وكان الشاه عازمًا على حماية الدولة الباكستانية الوليدة عديمة الخبرة من الانهيار، خاصة بعد خسارتها لباكستان الشرقية. ومع ذلك، بعد الإطاحة بالشاه على يد المتشددين الإسلاميين في عام 1979، بدأ المد والجزر بين إيران وباكستان يتغير نحو الأسوأ، مع تزايد العداء بين الاثنين، وتحول التقارب بشأن بلوشستان إلى تباعد.

تصدير طهران لثورتها والمد والجزر المتغير

خلال السنوات الأولى للثورة الإيرانية، واصل الجانبان الحفاظ على علاقات وثيقة والتعاون في القضايا الأمنية. لعبت باكستان دورًا محوريًّا في إنهاء الحرب الإيرانية العراقية، حيث ذكر الرئيس الإيراني السابق أكبر هاشمي رفسنجاني في مذكراته أنَّه إلى جانب سوريا، لعبت باكستان دورًا رئيسيًّا في الوساطة بين طهران والتحالف المدعوم من السعودية بقيادة صدام حسين.

ومع ذلك، بدأت العلاقات تتدهور بعد مغادرة السوفييت لأفغانستان في عام 1989، حيث بدأ مختلف الوكلاء في البلاد في توجيه أسلحتهم نحو بعضهم البعض. وفضلت إيران الأطراف المتحاربة التي يهيمن عليها الشيعة، في حين دعمت السعودية وباكستان السنة. وقبل ظهور طالبان، كان الإيرانيون قد بدأوا فعلًا في دعم الجماعات الشيعية في أفغانستان وباكستان لتحدي انتشار الأفكار السلفية والمدارس السعودية المتنامية التي نتجت عن الحرب الأفغانية.

شهدت التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أيضًا ذروة قوة الجماعات الممولة سعوديًّا في باكستان، وبلغت ذروتها في تفجيرات متعددة واستهداف للمساجد شيعية ولشخصيات شيعية بارزة. وتعرضت القنصلية الإيرانية في بيشاور لهجوم مرتين، كما اختُطف دبلوماسي كبير في المدينة نفسها عام 2009.

وبطبيعة الحال، كان استخدام الوكلاء طريقًا ذا اتجاهين، ويُزعم أنَّ طهران كان لها يد في مهاجمة القنصلية السعودية في كراتشي. ولم يكن الباكستانيون مرتاحين للتحالف الإيراني الهندي في أفغانستان، الذي كان يُنظر إليه على أنَّه محاولة مباشرة لتقويض بلوشستان وإقليم خيبر بختونخوا في باكستان. كما تنظر باكستان إلى تعاون إيران مع الهند بشأن ميناء تشابهار على أنَّه تهديد لميناء جوادر الخاص بها.

لقد كان استخدام المقاتلين الشيعة الباكستانيين في سوريا والعراق بمثابة خط أحمر آخر تجاوزته إيران. وقد أدى هذا إلى نقل المنافسة بقوة إلى الجانب الطائفي، مع المخاطرة بعودة الآلاف من الشيعة المتمرسين في القتال لإحداث الفوضى في باكستان، كما قد يؤدي إلى زعزعة الوضع الراهن في كل من أفغانستان وباكستان.

وفي عام 2020، قال جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني آنذاك، إنَّه يمكن استخدام المقاتلين الشيعة لتحقيق الاستقرار في أفغانستان وباكستان. وقد أثار ذلك غضبًا كبيرًا في كلا البلدين، لكنه أظهر رغبة إيران في الهيمنة باستخدام الوكلاء لخوض الحروب الأهلية المحلية وإثارة الصراعات العرقية والطائفية.

كذلك أظهر السعوديون شكوكًا متزايدة في التدخل الإيراني ونفوذ طهران في السياسة الباكستانية الداخلية التي تتقاطع مع خطوط طائفية بحتة. وظهر دليل آخر على ذلك عندما اعترف أحد المقربين من الرئيس السابق بالتجسس على الجيش الباكستاني نيابة عن الإيرانيين، بغطاء سياسي قدمه حزب كان السعوديون يشتبهون دائمًا في أنَّه موالي لإيران.

عامل الهند وحرب التجسس

بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان في عام 2001، اقتربت الجمهورية الأفغانية الجديدة أيضًا من الهند وإيران خلال محاولتها تقويض النفوذ الباكستاني في أفغانستان. وعلى النقيض من زمن الشاه عندما ضمنت إيران بقاء الهند بعيدة عن بلوشستان وأفغانستان، فإنَّ طهران ترحب الآن بالهند في كل من أفغانستان وبلوشستان بسبب رغبتها في إضعاف قبضة الباكستانيين على أفغانستان.

لقد كانت قضية الجاسوس الهندي كولبوشان جادهاف، الذي اختطفته الاستخبارات الباكستانية من داخل إيران، سببًا في دفع كثيرين في باكستان إلى الاشتباه في أنَّ الإيرانيين تسامحوا مع الجواسيس الهنود في المناطق البلوشية الحساسة، وهو ما أصبح دليلًا على الشراكة الإيرانية الهندية لمحاصرة باكستان. ومع ذلك، اعتقد الهنود اعتقادًا راسخًا أنَّ الاستخبارات الباكستانية استخدمت عملاءها البلوش للقبض على جادهاف في عمق الأراضي الإيرانية. ولم يخف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي رغبته في رفع درجة التوتر في بلوشستان لاختبار الدفاعات الباكستانية وتماسكها.

ويصور الفيلم الشهير “قندهار“، الذي صدر العام الماضي، معركة رباعية على الحدود الإيرانية الأفغانية الباكستانية بين أجهزة الاستخبارات الباكستانية والهندية والأمريكية والإيرانية لتعزيز المكاسب في المرحلة النهائية من الصراع الأفغاني. لقد تحولت اللعبة الكبرى للسيطرة على آسيا الوسطى إلى معركة شاملة بين اللاعبين الإقليميين في أفغانستان، على عكس الروس والبريطانيين في القرن التاسع عشر. بل إنَّ الهند انتقلت إلى كابول وأقامت علاقات ودية مع طالبان، في تناقض صارخ مع عداوتها الراسخة مع الجماعة في التسعينيات. لقد حاصرت كل من إيران والهند باكستان من خلال تغيير علاقاتهما مع طالبان، مما يضمن عدم قدرة الاستخبارات الباكستانية على استخدام طالبان ضدهما.

الجغرافيا السياسية تتفوق على الطائفية

على الرغم من استخدام عناصر طائفية عديدة من طرف كلا الجانبين سعيًا لتحقيق مكاسب استخباراتية استراتيجية وتكتيكية، فإنَّ هذه المعركة تدور بشكل عام حول السلطة والنفوذ، من بلوشستان وأفغانستان وطاجيكستان وصولًا إلى القوقاز.

لقد دعمت باكستان بشكل وثيق أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية في حربها ضد أرمينيا المدعومة من إيران. علاوة على ذلك، كان لدى باكستان العديد من رؤساء أركان الجيش الشيعة وعدد كبير من الجنرالات الشيعة، ومن الواضح إذن أنَّه في حساباتها العسكرية لا يوجد مجال لاتخاذ قرارات متأثرة بالطائفية. ويعتقد وجاهات خان، الباحث في المجلس الأطلسي، وهو أبرز صحفي متخصص في شؤون الدفاع في باكستان، أنَّ إيران وباكستان منخرطتان في منافسة جيوسياسية واسعة النطاق في المنطقة.

وبالمثل، وعلى النقيض من النهج المصادم لطالبان في التسعينيات، أصبحت طهران الآن منخرطة بقوة في عودة طالبان إلى السلطة على الرغم من التوجه السني الكبير للحركة، مع وجود مساحة ضئيلة أو معدومة للأقليات الشيعية في قيادتها.

لقد بدأ الإيرانيون في إعادة ضبط عداءهم السابق تجاه طالبان من خلال استضافة كبار قادة طالبان والقاعدة ممن كانوا مطاردين سابقًا. وقد فعلت طهران ذلك بدافع الضرورة من أجل تحقيق التوازن ضد الباكستانيين، ولتوسيع نطاق عدم الثقة بين باكستان والولايات المتحدة خلال سعيهما المشترك لتحقيق توازن للقوى متفق عليه في عام 2021.

نظر الجيش الباكستاني بعين الشك إلى مقتل الملا منصور زعيم طالبان في عام 2016 في غارة بطائرة دون طيار، بالنظر إلى أنَّ منصور كان قد عبر للتو الحدود من إيران إلى باكستان. وزعمت باكستان أنَّ إيران والولايات المتحدة تواطأتا لقتله في أراضيها، في حين أنَّ طالبان أصبحت حاليًّا تحظى بدعم كامل من طهران. كذلك فر قلب الدين حكمتيار، وهو رجل سني قوي سابق آخر في أفغانستان، الذي كان سابقًا حليفًا مفضلًا لدى باكستان، إلى إيران، وأصبح حليفًا لها ضد الولايات المتحدة. واستخدمته إيران وباكستان ضد بعضهما البعض، كما أنَّ وجوده في كابول بعد عودته خلال حكومة أشرف غني جعله رصيدًا رئيسيًّا في الحرب الاستخباراتية المستمرة.

لقد قال لي مؤخرًا اللواء المتقاعد صاحب زاده اسفنديار باتودي، المدير العام السابق لجهاز الاستخبارات الباكستانية: “كان هناك فشل استخباراتي في إيران أدى إلى رد فعل غير متناسب، وهجوم عنيف في جميع الاتجاهات -خاصة في حالة باكستان- وهو أمر غير ناضج وغير ضروري. لن أضع لمسة طائفية على الأمر، ولن أقترح وضعًا من نوع الحرب الباردة. ومع ذلك، أعتقد أنَّ رد باكستان المدروس يظهر تصميمنا على التعامل مع أي انتهاك لسيادتنا”.

استعاد كلا البلدين فعلًا قنواتهما الدبلوماسية، وسوف يعود سفراء كل منهما إلى عاصمة الآخر قريبًا جدًّا. ولن يكون هناك مزيد من التصعيد. ومع ذلك، فمن كراتشي إلى بلوشستان وعلى طول الطريق إلى القوقاز، يشن كل منهما حربًا سرية من أجل النفوذ ضد بعضهما البعض في اللعبة الكبرى بالعصر الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى